الملف النووي الإيراني في الواجهة…
أصبح مألوفا، منذ عدة سنوات تصعيد وتيرة أزمة الملف النووي الإيراني، بين فينة وأخرى. وغدا التصعيد في الأزمة بوصلة لملفات أخرى ساخنة، يراد التورية عليها. وقد وصفنا فيما مضى بعضا من محطات الملف الإيراني بأنها حرب تحريك، وليست مواجهة استراتيجية. وأوضحنا عبر جملة من القراءات والتحليلات استحالة إقدام الولايات المتحدة على شن حرب ضد طهران. ولن نعود مجددا لذكر الأسباب التي جعلتنا فيما سبق نتحفظ كثيرا على احتمالات التعامل العسكري مع أزمة الملف.
ولأن القرار السياسي، هو حالة متحركة، وثباته يخضع لجملة من العناصر، أهمها استمرار وجود ذات الشروط التي أفضت إلى اتخاذه. ومثل ذلك في أوضاع فوارة مليئة بالحركة، كما هي الأوضاع في منطقتنا شيء مستحيل، بما يعني صعوبة الركون إلى القراءات الساكنة.
على أن ذلك لا ينفي أن الانتصارات والهزائم والتداعيات التي تخلفها الحروب، تكون في الغالب ناتج خطأ في حسابات طرف، ودقة في حسابات الطرف الآخر. وإذا ما حدثت مواجهة عسكرية، بين إسرائيل وحلفائها ضد إيران، فإن من غير الممكن أن نكون بمنأى عن مخاطرها، بسبب حقائق الجغرافيا. وينبغي أن نكون متيقظين وأن تكون حساباتنا دقيقة وحذرة، بما يضمن سلامة وأمن بلداننا، ويجنبنا مخاطر الانزلاق للحرب.
على هذه القاعدة، نناقش عودة هذا الملف مجددا إلى الواجهة، وتلويح الكيان الصهيوني بتوجيه ضربة عسكرية لإيران… نتساءل عن إمكانية توجيه هذه الضربة، في ظل التشابك في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، وبخاصة في المسألتين العراقية وأفغانية.
برز التصعيد الإسرائيلي الأخير ضد إيران، في تصريحات أطلقها الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، قال فيها إن إسرائيل والعالم يقتربان من اللجوء للخيار العسكري ضد طهران. وطالب في مقابلة مع القناة الثانية للتلفاز الإسرائيلي دول العالم بتشديد العقوبات ضد إيران أو توجيه ضربة عسكرية لها. وتبارى وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك مع هذه التصريحات، بالقول أنه لا يستبعد أي خيار، في هذه المرحلة، لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي.
واتساقا مع ذلك، أكدت شبكة سي.إن.إن. الشعور المتزايد في الولايات المتحدة بتأهب إسرائيل لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. وأوضح ضابط أمريكي كبير للشبكة إن واشنطن تتابع عن قرب النشاطات العسكرية في إسرائيل وإيران.
في هذه الأثناء، تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام الأخيرة عن عملية جوية شاركت فيها 14 طائرة عسكرية فوق جزيرة سردينيا الايطالية بالتعاون مع سلاح الجو الايطالي للتدرب على تنفيذ مهمات “بعيدة المدى” تتطلب التزود بالوقود في الجو.
في الاتجاه ذاته، ووفقا لصحيفة الغارديان البريطانية، انتهت القوات المسلحة البريطانية من إعداد خطط طارئة لمواجهة التطورات، في حال اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية قرارا باللجوء لعمل عسكري ضد إيران، مشيرة نقلا عن مصادر لم تسمها، بوزارة الدفاع أن واشنطن قد تعجل في خطط شن ضربات صاروخية على منشآت إيرانية، وربما تطلب مساعدة الجيش البريطاني.
من جهتها أكدت إيران أنها مستعدة لمواجهة الأسوأ، متوعدة بـ”معاقبة” إسرائيل إذا ما تعرضت منشآتها النووية لأي هجوم. وقال وزير الخارجية الإيراني علي اكبر صالحي الخميس إن بلاده “مستعدة لمواجهة الأسوأ” محذرا واشنطن من مغبة وضع نفسها على “مسار تصادمي” مع بلاده.
هل نحن أمام مواجهة عسكرية حقيقية حول ملف إيران النووي؟ أم أن هناك أسباب أخرى تقف خلف تهديدات إسرائيل؟ وما هي تلك الأسباب؟ سؤال تقتضي الإجابة عليه قراءة المستجد من المتغيرات الاستراتيجية والسياسية الإقليمية.
أولى هذه المستجدات أن الولايات المتحدة سوف تسحب قواتها رسميا من العراق بنهاية العام. وقد أعلن عن انسحابها فعليا من عدد من المحافظات العراقية. من جهة أخرى، يعلن الأمريكيون نيتهم الانسحاب من أفغانستان وتركه لأهله ليقرروا مستقبلهم. لكن مشروع الانسحاب من العراق، يصطدم بما أعلنته إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما عن نيتها زيادة عدد موظفي السفارة الأمريكية في العراق، ليبلغ التعداد ستة عشر ألف موظف، بما يجعلها أضخم سفارة أمريكية في العالم. ماذا سيعمل هؤلاء داخل السفارة، طالما أن الإدارة الأمريكية قررت الرحيل. وماذا عن مهمة المدربين العسكريين الأمريكيين للجيش العراقي.
ليس لذلك من معنى سوى أن الأمريكيين لا ينوون بعد انسحابهم المرتقب من العراق، تحقيق قطيعة شاملة مع الحكومة العراقية، ولن يكون بإمكانهم تحقيق مثل هذه القطيعة ذلك مع إيران، طالما استمر وجودهم في بلاد السواد. وكل الدلائل المتوفرة تشير إلى أن الانسحاب الأمريكي، لن يكون نهائيا، بل سيأخذ أشكالا أخرى سياسية وأمنية واستخباراتية، وعسكرية أيضا ولكن بإيقاع أقل مما هو عليه الآن.
وهنا تتبادر إلى الذهن أسئلة أخرى مهمة حول مستقبل العراق في المدى المنظور، والعلاقة مع الأمريكيين بعد انسحابهم. هل من المعقول أن يترك الأمريكيون العراق المستقل عرضة للفوضى، ويبقوه في مهب الريح، أو يسلموه لخصومهم الإيرانيين بعد الكلف الباهظة التي تعدت الألف مليار، دونما ضمان لحماية مصالحهم في أرض السواد؟
الجواب المنطقي والبديهي هو بالنفي، فالعراق هو الركن الأساس في الاستراتيجية الأمريكية للقرن الواحد والعشرين. ومن غير المتصور أن يثق الأمريكيون، بقوة سياسية تقوده وتؤمن مصالحهم في المستقبل القريب، غير القوى التي اعتمدوا عليها في العملية السياسية التي نفذوها منذ الاحتلال.
وهنا يصدمنا سؤال آخر، له علاقة مباشرة بإيران وتشابك مصالحها مع الأمريكيين في العراق. كيف يستقيم التحالف مع الحكومة العراقية، التي تتشكل في غالبيتها من عناصر قريبة لإيران، مع إقدام إسرائيل، حليفة الولايات المتحدة الأمريكية على توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية؟. هل ستحارب أمريكا إيران وخلفها طابور خامس يتربص بها؟!
أسئلة… وأسئلة نستكمل مناقشتها ونحاول الإجابة عليها في محطات قادمة بإذن الله.