المعنى التاريخي لانهيار الربيع العربي
الربيع العربي، هو تعبير استخدمه الإعلام الغربي، للدلالة على الأحداث التي أخذت مكانها في عدد من الأقطار العربية، إثر حادثة البوعزيزي في تونس، الذي أضرم النار على جسده. ويصادف هذا اليوم الذكرى الثالثة على بدأ اندلاع الحركة الاحتجاجية في تونس الخضراء، لتنتقل بسرعة إلى مصر وليبيا وسوريا، وبشكل أقل حدة في عدد آخر من البلدان العربية.
والدلالة الغربية للمعنى، تشير إلى تشابه ما جرى بالوطن العربي، بالأحداث التي عمت أوروبا الشرقية، مع بداية التسعينات من القرن المنصرم، حيث سقطت الكتلة الاشتراكية، وسقط معها الاتحاد السوفييتي. وقد ساد في حينه توصيف ما جرى بربيع أوروبا، مع أن الفارق كبير بين ما جرى في أوروبا الشرقية وبين ما جرى بالوطن العربي.
قراءة ما جرى في أوروبا الشرقية، تؤكد جملة من الحقائق، أهمها أن التطور التاريخي في تلك البلدان يفرض تحولا لا مناص من تحققه نحو الانتقال من الأنظمة الشمولية، إلى النظام الديمقراطي على النمط السائد في الغرب. فالتكامل الاقتصادي الذي تحقق بين بلدان أوروبا الشرقية، بقيادة الإتحاد السوفييتي، القطب الآخر، في معادلة التوازن الدولي، أدى إلى ارتقاء عملية التصنيع في تلك البلدان، وأسهم في خلق هياكل اجتماعية جديدة، ما كان لها أن تواصل القبول بالنظام الشمولي، الذي فرض عليها. فكان أن جاء التحول لقيم الليبرالية، باتجاه موضوعي وصحيح.
ولأن التوجه من النظام الشمولي، للنظام الديمقراطي، مطلب أساسي لغالبية الجمهور بأوروبا الشرقية، فقد تم التحول من غير عنف يستحق الذكر. ولم تجر حوادث قتل للزعماء، باستثناء ما حدث في رومانيا، واقتصر على إعدام الرئيس نقولاي شاوشيسكو وزوجته. ولا شك أن شيخوخة الإمبراطورية الشيوعية السوفييتية، التي أمست على وشك السقوط، حال دون استخدام العنف، لقمع الحراك الشعبي، الذي دشن بإسقاط حائط برلين.
رغم الفراغ السياسي للذي ساد أثناء الحقبة الشمولية، فإن تجانس التشكيلات الاجتماعية، مع مطلب التحول الديمقراطي، عجل في ملء الفراغ بعد التحول نحو الديمقراطية. ولم يكن إعداد المسرح للعملية السياسية الجديدة سوى مسألة وقت قصير.
في البلدان العربية، التي مر عليها “الربيع العربي”، الوضع مختلف جدا عما جرى بأوروبا الشرقية. فالأنظمة التي انطلقت منها الحركات الاحتجاجية، وتحديدا تونس ومصر، هي أنظمة حليفة للغرب. واللافت هو التحول السريع في السياسة الأمريكية من هذه الأحداث، واعترافها بالأوضاع الجديدة، مؤكدة دون مواربة صواب مقولة، أن ليست هناك صداقات دائمة.
بالوطن العربي، لم تتوفر أي من شروط التحول نحو الدولة المدنية، فلا الهياكل الاجتماعية جاهزة، ولا الحياة السياسية مهيأة. فبعد عقود طويلة، من غياب الحريات، وتجريف شبه شامل للحياة السياسية، لم يكن منتظرا أن يحدث حراك منظم، ينقل الواقع السياسي القائم من الحالة الشمولية إلى الحكم الديمقراطي، والدولة المدنية.
ولذلك فإن من المنطقي أن لا يمتلك الشبان اليافعون الذي قادوا الحراك في الميادين بالمدن الرئيسية التي شملها “الربيع العربي”، أي برنامج وتصور لشكل الدولة المرتقبة. فكان أن اتسم الحراك بالعفوية، وردود الأفعال المنفعلة، والتسرع في اتخاذ خطوات الانتقال من النظام السابق، إلى أنظمة جديدة لا تختلف كثيرا عن السابق، ولا تلبي المطالب الأساسية التي حملتها شعارات المحتجين، وعلى أرسها مطلب التنمية والقضاء على الفساد، وتلبية المطالب الأساسية والحياة الحرة الكريمة للمواطنين.
في ظل الفراغ السياسي، قفز الإسلام السياسي، ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين، الذين التحقوا مؤخرا بالحراك الاجتماعي إلى واجهة الأحداث. ولم يكن ذلك مستغربا، فهم وحدهم الذين ظلوا قوة متماسكة، بسبب تكتيكاتهم، وتحالفاتهم الخفية والمعلنة مع أقطاب النظام السابق. وأيضا، بسبب تحكمهم في مؤسسات العمل الخيري والدعوي، وادعاءاتهم المتكررة، بأنهم ليسوا سوى جماعات دعوية، ليس لها مطمع في الحكم.
يضاف إلى ذلك، أن القوى الاجتماعية الحليفة للأنظمة السابقة، راكمت خبرات سياسية لعدة عقود، وتمكنت من الهيمنة على المفاصل الاقتصادية، ومطالب التغيير لم تكن موجهة مباشرة نحوها. فرغم أن الحزبين الحاكمين في تونس ومصر، جرى حلهما، لكن ذلك لم يترافق مع قرارات باجتثاث أعضائهما، بل إن هناك من رأى، ضمن القوى السياسية التي تصدرت المشهد بعد التغيير، في قوة هذه الطبقة، دعما للاقتصاد المهترئ، وسبيلا للنهوض من جديد بالبلدان التي طالتها الحركة الاحتجاجية.
الحل الوحيد، والممكن للحيلولة دون تمكين جماعة الإخوان المسلمين من تسلم السلطة، في تونس ومصر وليبيا، هو إطالة فترة الحكم الانتقالي، لفترة لا تقل عن الخمس سنوات، وخلق مناخات إيجابية فيها لنشأ حركات سياسية قوية، قادرة على التعبير عن مصالح غالبية الناس، وأيضا تعميم روح المواطنة، ودولة القانون، والتبشير بقيم الحرية والديمقراطية.
إن نشوء حركات سياسية، وتحقيق تحالفات قوية فيما بينها، وعدم الاستعجال في إصدار الدستور، ربما يمكن من خلق وضع جديد، يحقق التكافؤ بين الأحزاب المدنية، والتنظيمات السياسية الأصولية. وفي هذه الحالة، ستكون الأوضاع أفضل بكثير، سواء تمكنت جماعة الإخوان من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، أو فشلت في ذلك، وتمكنت الأحزاب المدنية من حصد غالبية الأصوات. فهناك فرق كبير، بين أن تحتكر الجماعة الشارع السياسي والسلطة، وبين أن تكون في السلطة فقط، وتواجه معارضة سياسية قوية في الشارع، بما يلجم تصرفاتها وسعيها المحموم نحو أخونة الدولة والمجتمع.
الدستور هو مشروع توافقي، معبر عن مختلف مكونات النسيج الاجتماعي، ولا يكفي في اعتماده اللجوء إلى صناديق الانتخابات، وكان بروزه عن طريق الاقتراع، وليس التوافق قد خدم جماعة الإخوان المسلمين. والمفترض أن لا تتكرر تجربة ذلك مرة أخرى. ونأمل أن يستفاد من الاقتراع السابقة. وتبقى نقاط أخرى، في هذه المقاربات والقراءة النقدية للربيع العربي، بحاجة إلى تأصيل وتحليل في قراءة قادمة بإذن الله.