المشهد التركي: ترميم أم دفن للكمالية؟

0 212

 

شهدت تركيا في الأسابيع المنصرمة حراكا سياسيا مكثفا، بقيادة رئيس الحكومة، السيد رجب طيب أردوغان. وقد توج هذا الحراك باقتراح إجراء اقتراح شعبي على تعديلات في الدستور، بهدف تغيير المعادلة السياسية،

التي حكمت إدارة السلطة في تركيا الحديثة لعقود طويلة، والمتمثلة في حماية المؤسسة العسكرية للدستور، ورعايتها لعلمانية الدولة.

 

أسئلة تطرح نفسها بحدة في سياق هذا الحراك: لماذا حدث التحول في المزاج السياسي الشعبي الآن؟ وإلى أين تتجه تركيا؟ وهل تعني هذه التحولات محاولة لترميم التوجهات الكمالية أم أننا سنشهد نهاية مؤكدة لتلك التوجهات؟. هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة، ستكون محاور لمناقشتنا في هذا الحديث، وأحاديث أخرى قادمة.

يعود تاريخ تركيا المعاصرة إلى عام 1923 حيث أسس مصطفى كمال أتاتورك، الجمهورية التركية. وقد جاء تأسيس الجمهورية، امتدادا للنشاط السياسي، الذي قادته لحركة الاتحاد والترقي، التي تأسست عام 1889م. وعرفت محليا وعالميا بعد قيامها بانقلاب على السلطان عبد الحميد عام 1909م. وشهدت البلاد بعدها تحولات اجتماعية وسياسية ولغوية واقتصادية. وألغى تعليم اللغة العربية في المدارس.

منذ ذلك الحين، اتجهت تركيا بسياساتها نحو تبني نظام أهم مماته العلمانية، المستندة على الفصل بين الدين والدولة، والاحتكام إلى الدستور. وتأسيس نظام يقود على مبدأ السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وقد تعهد العسكر برعاية الدستور وحماية علمانية الدولة. ولم يتردد عن اتخاذ ما يراه ضروريا لصيانة هذا التوجه.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، اتجهت تركيا نحو إقامة علاقات واسعة مع الغرب. وقد منحها موقعها دورا استراتيجيتا أثناء الحرب الباردة كونها تمثل الطرف الأعلى من القوس الذي يطبق على الإتحاد السوفييتي. لكن هذه الأهمية تراجعت بعد انتهاء هذه الحرب، بعد سقوط المنظومة الشيوعية.

لم تكن أوضاع تركيا الداخلية مستقرة، بعد تأسيس الجمهورية، فقد شهدت البلاد ثلاثة انقلابات رئيسية، منذ عام 1960، حيث أطيح بحكومة السيد عدنان مندريس، وحوكم بتهمة الفساد، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم به. وكان ذلك الانقلاب نهاية لحلف المعاهدة المركزية السنتو، الذي برز كبديل لحلف بغداد، المشكل من تركيا وإيران والعراق وباكستان وبريطانيا. لكن تركيا بقيت عضوا نشطا في حلف الأطلسي، بزعامة واشنطون.

بعد هذا الانقلاب أحكم الجيش قبضته على السلطة في تركيا، وتمت صياغة دستور جديد للبلاد، وضمن مجلس الأمن القومي سيطرته على أمور البلاد، بموجب نص دستوري . إلا أن ذلك لم يكن نهاية المطاف، فقد حدث انقلاب عسكري آخر عام 1971، قاده ممدوح طغماتش، اثر تعاظم قوة المعارضة، وأجبر زعيم حزب العدالة ورئيس الحكومة، سليمان ديميرل على الاستقالة من منصبه. وانقلا ب ثالث عام 1980، بقيادة الجنرال، كنعان أيفرين أطاح بالحكومة المدنية وفرض الأحكام العرفية. هذا عدى الحالات الأخرى، التي تعلن فيها حالة الطوارئ، ويجري حل البرلمان وتعطيل الدستور، لحين إجراء انتخابات نيابية أخرى.

لقد عانت تركيا، من عواصف سياسية كثيرة، تركت أثرها جلية على استقرار أوضاعها الداخلية. فهناك القضية الكردية المستعصية، التي مضى على الإفصاح عنها قرابة التسعين عاما. وقد تسببت في عشرات الألوف من الضحايا، واستنزفت الخزينة التركية من مدخراتها. وهناك الصراع بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين،

وقد تسببت هذه الأزمة في إحداث تصدعات وشروخ كبيرة في العلاقة بين تركيا واليونان. وقد دفع تداعي هذه الأزمة بقوات تركيا لاجتياح الثلث الشمالي من جزيرة قبرص، عام 1974، وهجرت سكانه. وكان قلب الدين أربكان قد لعب دورا بارزا في تقسيم الجزيرة، إثر قيام المجلس اليوناني الحاكم بانقلاب ضد الملك. وكان من نتائج ذلك أن فرضت الإدارة الأمريكية حظرا تجاريا أمريكيا على البلاد.

تركت أزمة تركيا مع التمرد الكردي، والأزمة القبرصية تأثيراتها، على علاقة تركيا بأوروبا الغربية، مؤدية مع عوامل أخرى، إلى حرمانها من الالتحاق بالسوق الأوربية المشتركة، وأيضا حرمانها لاحقا من الانضمام للاتحاد الأوروبي، رغم أنها تمكنت مبكرا في عام 1963 من توقيع اتفاقية تعاون اقتصادي مع اللجنة الاقتصادية الأوروبية.

وإثر الإعلان عن تأسيس حزب العمال الكردستاني عام 1973م، انتشرت موجة من العنف السياسي، لم تتمكن الحكومة التركية، التي يرأسها بولنت أجاويد من مواجهته، مما أدى إلى استقالة الحكومة وإعلان الأحكام العرفية. وقد تزامن ذلك مع حضور واضح للتيارات الإسلامية.

ومنذ تلك الحقبة، أصبح الحديث مألوفا عن إقدام الحكومات التركية المتعاقبة، بممارسة التعذيب النفسي والجسدي، بحق المعتقلين السياسيين، واتهامها بخروقات لحقوق الإنسان. وسجلت مناشدات عديدة من قبل منظمة العفو الدولية، مطالبة بالتوقف عن عمليات التعذيب وإعدام السجناء السياسيين. وكانت تركيا تتعلل باستمرار بوجود أعمال تخريبية في الداخل، مدعومة من قبل منظمات سياسية تعمل بالخارج.

ورغم الانفتاح التركي الواسع على الغرب، فإن المشاعر الدينية، المتأصلة في المجتمع التركي، شهدت اتساعا كبيرا، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واتخاذ الدول الغربية، مواقف سلبية تجاه تركيا، بعد اجتياح جزيرة قبرص. وكانت هناك ردود أفعال شعبية غاضبة، بسبب الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على العراق، وأيضا بسبب استخدام قواعد حلف شمال الأطلسي على الأراضي التركية، لمهاجمة العراق، ومراقبة مناطق الحظر الجوي الذي فرضته إدارة الرئيس بل كلينتون على شمال العراق. كما أن الاعتداءات الصهيونية المتكررة على المقدسات الإسلامية في فلسطين، ومن ثم الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، قد ألهبا مشاعر الغضب لدى الشعب التركي المسلم، وأسهمت هذه التطورات مجتمعة في تصاعد دور الإسلام السياسي ووصوله، إلى الحكم في دورات انتخابية عديدة.

وكانت أوضح معاني هذه التطورات قد برزت في الاحتضان المتكرر لتركيا في عقد مؤتمر القدس، الذي حضره ألاف الأتراك، وشارك فيه مئات من المثقفين العرب وعدد كبير من مختلف البلدان الإسلامية. كما تمثل في رعاية تركيا لقوافل الحرية، التي اتجهت إلى قطاع غزة قبل عدة شهور في محاولة لكسر الحصار المفروض على القطاع. وتداعي هذه الأحداث لا تزال قائمة على العلاقة بين تركيا وإسرائيل، حيث شهدت تدهورا لم تشهده منذ اعترفت تركيا عام 1958، وأقامت علاقات قوية معها، بلغت حد عقد اتفاقية إستراتيجية بمباركة أمريكية تمنح بموجبها المقاتلات الإسرائيلية حق الوصول إلى القواعد العسكرية شرقي تركيا، والتي اعتبرت في حينه من قبل البلدان العربية تهديدا للأمن القومي العربي. وقد جرى تجميد هذه الاتفاقية مؤخرا، بعد الهجوم الصهيوني على قوافل الحرية.

ما علاقة هذه المناقشة، بالتطورات التي تأخذ مكانها في تركيا الآن، وبشكل خاص الاقتراع على التعديلات الدستورية، التي اقترحتها الحكومة؟ وهل نحن أمام ترميم أم وأد للكمالية؟ أسئلة بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتحليل، سنتناولها في الأحاديث القادمة بإذن الله تعالى؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

11 + 2 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي