المستقبل العربي والحفاظ على الذاكرة
الأيام القليلة الماضية شهدت جملة من الأحداث الرئيسية، في المقدمة منها، على الصعيد العالمي فوز إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش بدورة رئاسية ثانية. وعلى الصعيد العربي، رحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الرفيق الأعلى. واستمرت حالة القلق على الوضع الصحي للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وهناك أحداث أخرى، ربما لا تقل أهمية، لدورها في تحديد مصير المنطقة والمستقبل العربي، كتصاعد المقاومة العراقية، واستمرار حرب التصفيات التي تشنها حكومة شارون بحق العناصر القيادية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني. ووسط ذلك كله، فرضت حالة الطوارئ في أرجاء العراق، باستثناء منطقة كردستان لأربعين يوما، لتمكين الجيش الأمريكي وعناصر الحرس الوطني العراقي من التصدي للمجموعات الرافضة للاحتلال في بيئة أكثر أمانا. وفي الضفة الغربية يجري العمل، على قدم وساق، لمرحلة ما بعد عرفات. وتلوح في الأفق بوادر صراعات محتملة على السلطة بين أطراف أوسلو والقوى المناوئة للتسوية مع الكيان الصهيوني.
يركز هذا الحديث على علاقة مجمل هذه الأحداث بالمستقبل العربي. وليس من شك في أن خندقي فلسطين والعراق، وما ستؤول إليه الأمور في هذين البلدين الشقيقين سيكون له دور كبير في صياغة هذا المستقبل. وفي كلا البلدين، بل ربما على الصعيد العربي، تكاد تنحصر الرؤى والصراعات بين موقفين.
موقف يرى أن أحداث ما بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، قد خلقت واقعا دوليا جديدا. فالقوة العظمى ضربت في أهم معاقل قوتها، الجيش والاقتصاد، وأنها مصممة على مواصلة حربها ضد الإرهاب. وأن من سوء طالع الأمة العربية، أنها أصبحت المستهدف الأول في هذه الحرب. ولذلك ينبغي على القوى الفاعلة في صناعة القرار العربي أن تنحني للعاصفة، وأن تقبل بالحقائق الجديدة، بل وتحاول استثمارها في مواجهة أنظمة الاستبداد التي أصبح التخلص منها هدفا لهذه الحرب. ويشار في هذا الصدد إلى حقائق العصر الجديدة التي ارتبطت بتفرد الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم، وانتشار ظاهرة العولمة، من خلال الشركات العابرة للقارات، والإنترنيت وثورة الاتصالات، وما إلى ذلك من المظاهر ذات العلاقة، بما يعني أن مفاهيم الهوية والاستقلال والسيادة والحدود الجغرافية والخصوصية الثقافية، وغيرها من الثوابت الوطنية أصبحت شيئا من الماضي، بعد أن تجاوزها العصر.
الموقف الآخر، يصر على أن التسليم بالتطور التاريخي، والمتغيرات السياسية، وثورات العصر لا ينبغي أبدا أن تلغي الثوابت الوطنية، ومن ضمنها الهوية والخصوصية الثقافية والاستقلال والسيادة. ويرى أن العلاقات بين البلدان الضعيفة والقوى الكبرى ليست تكاملية، حتى يصبح من الممكن التعايش معها والقبول بها، بل هي علاقات صراع وهيمنة، يحاول الطرف الأقوى فيها دائما أن يحتفظ بأوراق اللعبة. وأن الشعارات التي تطرح حاليا تحت مسمى العولمة ومحاربة الإرهاب، ليست جديدة، وإن أصبحت الآن أكثر حدة.
والواقع أنني عندما تأملت في المستجدات التي طرأت على الساحة الدولية والعربية في السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، وحاولت مقاربتها بالحوادث والمواقف التي أخذت مكانها في العقود الثلاثة المنصرمة، لم أجد في الموقف الأمريكي شيئا جديدا على المنطقة. وتوصلت إلى نقطة مرعبة هي أن هناك سعي حثيثا لقتل ذاكرتنا وغسل أدمغتنا، من خلال طنين مستمر، يلح على أن يوجد في نفوسنا جملة من عقد الذنب. وتذكرت على الفور أول لقاء جرى بين الرئيس المصري الراحل، أنور السادات ومستشار الرئيس الأمريكي لشئون الأمن القومي، هنري كيسنجر، بعد حرب أكتوبر عام 1973 مباشرة.
فحسب ما هو متوفر من الوثائق، وضع كيسنجر جملة من الترتيبات التي تجرى على أساسها المفاوضات لحل الصراع بين إسرائيل ومصر. كانت النقطة الأولى في تلك الترتيبات هي أن العرب عندما يتحدثون عن الصراع العربي- الإسرائيلي يغوصون عميقا في التاريخ. وأنه غير مستعد كوسيط أن يضيع وسط تلك المتاهات. إن نقطة البدء ينبغي أن تنطلق مما هو على الأرض الآن. وذلك في جوهره ينسف كل الحقوق العربية. فالحديث عن احتلال الصهاينة لأرض فلسطين، وتشريد شعبها، وعن حق هذا الشعب في استرجاع أرضه هو شيء من التاريخ. وينطبق ذلك على قرارات الأمم المتحدة ذاتها التي اتخذت منذ بداية الصراع حتى لحظة بدء المفاوضات بين كيسنجر والسادات. وتبدو هذه النقطة منطقية جدا بالنسبة لأمة بنت إمبراطوريتها على ركام حضارات عريقة قام المستوطنون الجدد بسحقها، كما هو الحال بالنسبة لأمريكا. أما بالنسبة للعرب، فإن سر قوتهم حتى الآن هو في تاريخهم، وللأسف فإن مخزونه أصبح عبئا عليهم. ومن هنا أيضا، برز الكيان الصهيوني كقوة ضعيفة وسط محيط وطوفان من الكراهية العربية، ومن أجل تطمين هذا الكيان وتأمينه على نفسه، فلا بد من “قوة دفع” و”تطبيع” “وكسر للحاجز النفسي”. وكانت تلك المفردات هي من أولى التعبيرات التي اخترقت نسيج مقاوماتنا، وقدمت من خلالها للعدو أكبر التنازلات.
النقطة الثانية التي أصر عليها كيسنجر، وتتابعت مع كارتر وريجان وبوش، وأعاد تكرارها بقوة الرئيس بيل كلينتون للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، هي أن لا حديث عن القانون الدولي أو الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقراراتهما حين يقبل بالوساطة الأمريكية. فالذي يريد الشرعية الدولية وتطبيق قرارات الأمم المتحدة يمكنه الذهاب إلى المصادر المعنية بذلك، وهناك سيكون حق النقض الأمريكي سيفا مسلطا على أي قرار أممي في صالح القضية الفلسطينية، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم. وهذا يعني باختصار القبول بحكم الخصم، وغياب الوسيط.
النقطة الثالثة، أن لا شراكة دولية في صناعة القرار، فيما يتعلق بالصراع العربي- الصهيوني، وأن الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد القادر على إدارة مختلف أوراق اللعبة.
ذلك إذن ليس جديدا البتة على السياسة الدولية. والمقاومون الفلسطينيون اعتبروا إرهابيين من وجهة النظر الأمريكية منذ نهاية الستينيات حين انتهجوا الكفاح المسلح طريقا لاسترجاع أرضهم. وليس سرا أن كيسنجر قد تعهد لإسرائيل بألا تجري الولايات المتحدة الأمريكية أي اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية إلا بعد إعلانها التخلي عن الإرهاب.. عن المقاومة بالسلاح. والتزم جميع الرؤساء الأمريكيين بذلك التعهد، إلى أن ألقى الرئيس عرفات خطابه في 13 كانون الأول/ ديسمبر عام 1989، أمام دورة خاصة للجمعية العمومية بالأمم المتحدة في جنيف، الذي نبذ فيه ممارسة جميع أشكال الإرهاب، واعترف بالوجود الإسرائيلي. عند ذلك فقط، أعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب فك الحظر على التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأنيطت عملية التفاوض مع الفلسطينيين إلى السفير الأمريكي في تونس.
ويعيد التاريخ نفسه، ففي نهاية الأسبوع الماضي، في برنامج أكثر من رأي الذي بثته الجزيرة يوم الجمعة 29 تشرين الأول/ أكتوبر طالب عضو الليكود والكنيست المقرب من شارون، مجلي وهبة بأن تبادر قيادة محمود عباس – أحمد قريع إلى ملاحقة “الإرهابيين” الفلسطينيين لتثبت جدارتها. وذلك شرط أعاد التذكير به شارون بعد يومين، حين أعلن عن استعداده استئناف المفاوضات من غير شروط. وحين تطالب قيادة في أمس الحاجة لتأييد الشارع الفلسطيني بأن تستبيح دم شعبها، فإنها إنما تدعى للانتحار.
وكانت تهمة ممارسة الإرهاب كرباجا رفعه الفرنسيون والبريطانيون من قبل، في مصر والجزائر وتونس واليمن، والشعوب الأخرى التي وقفت متحدية الهيمنة والاستعمار. وكان هناك دائما، حديث عن إمبراطوريات لا تغرب عنها الشمس، وعن شركات متعددة الجنسية. وحتى الإنترنيت نفسه ليس ظاهرة جديدة، إلا من حيث طرحها للاستهلاك. فقد كان محتكرا منذ الستينيات لإدارة البنتاجون ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وجامعات أمريكية محدودة ذات صلة بتلك الدوائر. والذي جرى هو تعميمه باعتباره إحدى وسائل الاختراق، والقضاء على المقاومات الثقافية عند الشعوب. وكذلك الحال مع محاولات إضعاف الهوية وتعميم أحادية الثقافة.
إن ظاهرة العولمة ليست حصرا على العرب وحدهم. والشعور بالخطر ليس خاصا بنا وحدنا فهناك تحذيرات فرنسية وألمانية وماليزية.. من هيمنة الثقافة الأمريكية على العالم. بل إن الحكومة الفرنسية اتخذت خطوات عملية في مواجهة ديزني لاند، وحددت فترة البث التلفزيوني للأفلام الأمريكية، دفاعا عن هويتها وثقافتها. والصين لم تسلم بأن العولمة سبب كاف لكي تتخلى عن حقها في تايوان. وأمم أخرى كثيرة لا تزال تتمسك بالاستقلال والسيادة وحق تقرير المصير. ومن حسن حظنا، كي لا نتهم بالتخلف والاستغراق في الماضي، أن من يتصدون لمقاومة الهيمنة الأمريكية، والدفاع عن هويتهم وثقافاتهم هم أمم حية، وضمن الدول الصناعية المتقدمة.
إن محاولات حثيثة تعمل على العبث بالذاكرة، من خلال العبث بحقائق الجغرافيا والتاريخ والأحلام والثوابت.. وكل مواجهة لا تنطلق، في صياغة المستقبل، من ذاكرة وجغرافيا وتاريخ وأحلام وثوابت ستكون مشوهة وزائفة. حسبها زيفا أنها لا تعرف من أين وإلى أين تسير.. ونقطة البداية هي في الحفاظ على الذاكرة، والتصدي الشجاع لقضايا اللحظة الراهنة. وذلك لن يتم إلا بالوعي واستمرار التفكيك والمعالجة وإعادة التركيب بعقل مفتوح وآذان صاغية. وذلك ما سوف يكون لنا معه حديث آخر.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-11-10