المرجل يغلي مجددا في قطاع غزة
بعد هدنة متقطعة، بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الصهيوني، في قطاع غزة، استمرت قرابة أربعة سنوات، اشتعلت المواجهات العسكرية مجددا، وذهب ضحيتها حتى لحظة كتابة هذا الحديث أكثر من عشرة شهداء ستة شهداء وقرابة مائة جريح فلسطيني،
جلهم من المدنيين. والذريعة الإسرائيلية على العدوان هي الرد على العملية العسكرية. التي نفذتها كتائب الشهيد أبو علي مصطفي، التابعة للجبهة الشعبية. ويبدوا أن الأوضاع مرشحة للمزيد من الانهيار. فالفلسطينيون استمروا في إطلاق الصواريخ على المستوطنات القريبة من القطاع، ردا على العدوان. وحسب تقديرات العدو الصهيوني، فإن الصواريخ التي أطلقت من غزة خلال أربعة وعشرين ساعة الماضية، تجاوزت السبعين صاروخا. ووفقا لتصريحات مسؤولين صهاينة، فإن حكومة نتنياهو تعد لاجتياح واسع للقطاع، بهدف استئصال شأفة المقاومة، فيما تعلن مصادر المقاومة أن قوانين اللعبة قد تغيرت، وأنها تعد لمفاجآت في الصراع مع قوات الاحتلال.
قراءة هذه التطورات، لا يمكن فصلها عما جرى على الساحتين الفلسطينية والإقليمية. فقد حدثت المواجهات الجديدة، بين المقاومة وجيش الاحتلال، بعد أيام قليلة من تصريح رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، “أبومازن”، بتخليه شخصيا عن حقه في العودة. وأن فلسطين من وجهة نظره، هي الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد ووجه هذا التصريح بحملة احتجاجات واسعة بالمخيمات الفلسطينية، في لبنان وسوريا والأردن. وفي الداخل الفلسطيني أثار التصريح لغطا شديدا بين المؤيدين لحماس في قطاع غزة، والموالين لفتح بالضفة الغربية. مساهما في تأجيج الصراع وتعميق الانقسام الذي مضت عليه عدة سنوات، بين الحركتين، وتسبب في انشطار الضفة الغربية والقطاع.
تأتي هذه الأحداث أيضا، بعد زيارة قصيرة للقاهرة، قام بها الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر الذي رعى عام 1979 ، توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الكيان الصهيوني وجمهورية مصر العربية. وتؤكد مصادر مقربة من الجمعية التأسيسية للدستور، أن هدف هذه الزيارة هو المطالبة بسرعة إخراج الدستور، ووضع إشارة فيه إلى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وحقوق النساء والأقباط، ليعاد الاعتبار مجددا، للغة الابتزاز والإملاءات التي تفرض على الأمة العربية.
لماذا تتصاعد المواجهة، في قطاع غزة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الغاصب، بعد هدنة استمرت عدة سنوات، نالت التزام الطرفين؟ سؤال لعل الإجابة عنه بحاجة إلى مقاربتين. الأولى ذات علاقة مباشرة بالوضع الداخلي الفلسطيني، والأخرى، لها علاقة بالرؤية الصهيونية، للمسألة الفلسطينية في هذه اللحظة بالذات.
بالنسبة للمقاربة الأولى، التي لها علاقة مباشرة بالوضع الداخلي الفلسطيني، فإن المؤكد أن القضية الفلسطينية، التي هي جوهر الصراع مع الصهاينة، وقضية العرب المركزية تراجعت كثيرا إلى الخلف، بسبب انغماس المقاومين الفلسطينيين في الصراع فيما بينهم. لقد بلغ الصراع بين حكومة حماس المقالة، في قطاع غزة والسلطة الوطنية الفلسطينية، بالضفة الغربية التي تقودها حركة فتح برئاسة “أبو مازن، حدا يصعب تراجع أحد الفرقاء عنه. وليس هناك ما يشي بقرب انتهاء الأزمة بينهما، وعودة الوحدة للضفة والقطاع.
واقع الحال، أن الصراع بين حماس وفتح لم يعد يدور حول الموقف السياسي من القضية الفلسطينية، حيث أن كل الأطراف الفاعلة ملتزمة بالتخلي عن فلسطين التاريخية، وتقبل بقيام دولة فلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة، وليس على الحدود التي احتلها الصهاينة عام 1948. وعلى هذا الأساس، فإن التجاذبات والصدامات التي تحدث في قطاع غزة، مع الصهاينة بين حين وآخر، لا تجسد موقفا سياسيا من الصراع، وليست موجهة للكيان الصهيوني قدر ما هي موجهة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، بهدف تعزيز الموقف السياسي في الصراع بين الحركتين المقاومتين، والظهور بمظهر الأكثر تشددا في الموقف من التسوية السلمية مع الصهاينة.
وبالنسبة للمقاربة الصهيونية، فإن أفضل تعبير عنها هي التصريحات الأخيرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو الذي وصف اتفاق أوسلو بالكارثة القومية. يأتي تصريح نتنياهو هذا مع أنه يعلم قبل غيره، أن الهدف من توقيع اتفاق أوسلو، من قبل الإسرائيليين، هو إنهاء مقاومة الفلسطينيين للاحتلال، وليس التوصل لاتفاق سلام، ينهي حالة الحرب في المنطقة للأبد. فهذا الاتفاق، حتى مع افتراض حسن النية، لم ينه معاناة الشعب الفلسطيني، ولم يسهم في جعل قضيتهم حية.
مقاربة نتنياهو واليمين الصهيوني، لا ترى في الأراضي الفلسطينية، التي استولى عليها الصهاينة في حرب يونيو عام 1967، أراض محتلة، بخلاف منطوق القانون الدولي، جزء من الكيان التاريخي للصهاينة. ومن هذا المنطلق، فإن هدف الصهاينة من منح الفلسطينيين صفة السلطة الفلسطينية على هذه الأراضي، هو أن تكون جسرا للعبور، إلى بقية مناطق الوطن العربي.
في النقطة الأخيرة من المقاربة، يتفق اليمين واليسار الإسرائيلي. وقد بشر بهذه الرؤية الرئيس الحالي للكيان العبري، شيمون بيريز، زعيم حزب العمل، في مطالع التسعينيات من القرن المنصرم. فقد كتب آنذاك عن نظام شرق أوسطي، يكون بديلا عن النظام العربي، الذي تأسس بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، وتكون إسرائيل قطب الرحى فيه. ولا تزال هذه الرؤية جزءا من برامج معظم الأحزاب الإسرائيلية، على اختلاف توجهاتها.
الجسر، من وجهة نظر بنجامين نتنياهو، واليمين المتطرف في إسرائيل، بالمفهوم العملياتي، يمكن أن يحقق جملة من الأهداف المركبة، من ضمنها التسلل السياسي والاقتصادي، وخلق توازن ديموغرافي، يحافظ على يهودية الكيان العبري، وإن اقتضى الأمر، فإن هذا الجسر سيسهل عملية نقل أو طرد الفلسطينيين، عبره إلى خارج وطنهم، تماهيا مع عقيدة الترانسفير.
لا شك أن انشطار الضفة والقطاع، وقيام سلطتين معاديتين لبعضهما، بتوجهات سياسية مختلفة سيسهل هذه المهام، بما يخدم على المدى الطويل، استراتيجية الصهاينة في طرد الفلسطينيين، والتنصل من الحقوق، التي أقرتها شرعة الأمم، وفي مقدمتها حقهم في الاستقلال وتقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة، فوق ترابهم الوطني، تحت ذريعة غياب سلطة موحدة للشطرين، يمكن الوثوق بها والتفاوض معها للوصول إلى اتفاق سلام دائم. فهل يدرك الفلسطينيون جميعا، أهمية وحدتهم، في هذا المنعطف التاريخي، وهل يخلق المرجل الذي يغلي الآن بقوة في غزة فسحة للمراجعة؟؟!!