المحاصصة الطائفية وعلاقتها بأحداث لبنان

0 206

 

 

كان من المفترض أن نواصل في هذا الحديث ما بدأناه بالأسبوع الماضي، بمناسبة مرور الذكرى الستين لاغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين. وكنا قد خلصنا إلى أن الصهاينة، منذ تأسيس حركتهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد زاوجوا بين الأسطورة والحداثة، وصاغوا أنطولوجيا خاصة، ربطت بين التفوق العنصري والاضطهاد، وميثولوجيا الحق التاريخي لشعب الله المختار. ووعدنا القارئ الكريم، أن نناقش الكيفية التي تم فيها توظيف جملة من الأساطير لإضفاء المشروعية على حيازة فلسطين. لكن التطورات التي حدثت في لبنان الشقيق قد فرضت نفسها بقوة، وفرضت علينا تأجيل ما وعدنا به لفسحة أخرى.

لم تكن أحداث لبنان الدامية، والتطورات التي رافقتها، رغم مشهدها الدرامي مفاجئة للذين تابعوا عن قرب ما حدث في هذا البلد العزيز، منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق السيد رفيق الحريري. فمنذ ذلك الوقت انقسم اللبنانيون حول الطريقة التي ينبغي التعامل بها تجاه جريمة الاغتيال. وبدا واضحا أن الخلافات التي طفحت على السطح لم تكن لها علاقة البتة بالموقف من الجريمة، بقدر ما كانت انعكاسا لخلافات حول السياسات التي ينبغي على لبنان انتهاجها تجاه عدد من القضايا الإقليمية، وكانت من جهة أخرى تعبيرا عن اصطفافات إقليمية ودولية لمختلف الفرقاء، المعنيين بالصراع. وجاءت حرب يوليو عام 2006، التي بدأت بقيام أعضاء من حزب الله باختطاف عدد من الجنود الصهاينة، لتضاعف من الصراع بين الفرقاء ولتزيد من تعقيدات الأزمة، التي لم تكن بحاجة إلى المزيد من صب الزيت على النار، كي يشتد أوارها.

 

انقسم اللبنانيون، إثر اغتيال السيد الحريري إلى موالاة ومعارضة. تتهم الموالاة المعارضة بتنفيذ أجندة للحكومتين السورية والإيرانية في لبنان، وأن حزب الله ليس سوى واجهة وأداة تنفيذ لتلك الأجندة, بينما تتهم المعارضة الموالاة بخضوعها للضغوط الأمريكية والصهيونية، وأن سياسات الحكومة الحالية ليست إلا تماهيا واستجابة لتلك الضغوط.

 

والواقع أن القراءة الصحيحة لما يجري في لبنان، تشير إلى جملة من الحقائق التي تشي بعدم دقة رأي الفريقين تجاه بعضهما. أهم تلك الحقائق، أن اصطفافات الفرقاء بمختلف اتجاهاتهم، ليست ثابتة، ولا تحكمها مواقف أيديولوجية، بل هي نتاج مواقف براجماتية، تحكمها قوانين المنفعة، وليس المواقف المبدئية. بمعنى أن عدو الأمس، يمكن أن يكون حليف اليوم، والعكس صحيح، فقد حدث أن تحول حليف الأمس إلى عدو شرس فيما بعد.

 

إن هذا الرصد على بساطته يطرح سؤالاً منهجي وهاماً، له علاقة مباشرة بمحركات اصطفاف الفرقاء في هذا الخندق أو ذاك. بمعنى آخر، لماذا هذا الانتقال السريع لأطراف الصراع، وتبادل المواقف السياسية فيما بينهم؟. وسوف تأتي الإجابة عليه في سياق تحليل التطورات الأخيرة، التي أخذت مكانها خلال الأيام القليلة الماضية.

 

الحقيقة الأخرى، وتتعلق بالحربين الأهليتين اللتين اشتعلتا في لبنان بنهاية الخمسينيات، ومنتصف السبعينيات من القرن المنصرم. فقد ارتبطت الحربان الأهليتان السابقتان، كما هو الحال مع الأحداث الأخيرة، بتدخلات مباشرة وغير مباشرة من قبل قوى إقليمية ودولية، وكانت في ملامحها البارزة تعبيرا عن صراعات، ليس للبنان أو اللبنانيين فيها ناقة أو جمل. لم تكن أسباب تلك الصراعات والاختلافات، كما بدت على السطح، تدور حول الشؤون الداخلية للبنان، ولم يكن لها علاقة بالحياة اليومية للبنانيين.

 

كانت أسباب الحرب الأهلية الأولى قد تمحورت حول الصراع الدائر آنذاك بين الدول العربية الرافضة لسياسة الأحلاف، وكانت المملكة العربية السعودية ومصر والأردن تتصدر المعارضة لسياسة الأحلاف، التي برز من بينها حلف بغداد. وكانت السياسات الغربية تحاول ربط لبنان بذلك الحلف.

 

كان الرئيس اللبناني آنذاك، السيد كميل شمعون منسجما مع سياسة جر لبنان لكي يكون عضوا في ذلك الحلف. ولما كانت فترته الرئاسية قد أوشكت على الانتهاء قبل استكمال ضم لبنان للحلف المذكور، فقد طرح تمديد فترته الرئاسية لدورة أخرى. ورفضت قيادة المعارضة فكرة التمديد. واشتعلت حرب أهلية بين المؤيدين للرئيس شمعون والمعارضين له. واتهم فريق الرئيس حكومة الرئيس جمال عبد الناصر، التي كانت تقود دولة الوحدة بين مصر وسوريا بدعم المعارضة بالمال والعتاد. ورفضت تلك الاتهامات، واقترب الأسطول الأمريكي من السواحل اللبنانية، وهدد بالتدخل ضد المعارضة. وتدخلت الأمم المتحدة. وانتهت الأزمة باستقالة الرئيس كميل شمعون، وبتسلم قائد الجيش اللبناني، السيد فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية اللبنانية.

 

والقراءة الموضوعية لأسباب تلك الحرب، لا يمكن أن تغفل دور الحرب الباردة بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق. فحلف بغداد كان محاولة غربية لاحتواء التسلل السوفيتي إلى منطقة الشرق الأوسط. كما كان محاولة للحيلولة دون انتشار مد حركة التحرر الوطني المناوئة للهيمنة الغربية لعموم المنطقة العربية. وإذن فالحرب الأهلية الأولى في أسبابها المعلنة، هي أحد المظاهر الصريحة للحرب الباردة.

 

لم يختلف واقع حال الحرب الأهلية الثانية في لبنان، عن الحرب الأهلية الأولى. فقد بدأت مقدمات هذه الحرب بتمركز حركة المقاومة الفلسطينية في بعض مناطق جنوب لبنان، إثر هزيمة يونيو عام 1967. لقد نزح آلاف الفلسطينيين إلى لبنان، بعد الهزيمة أثناء رئاسة السيد شارل الحلو للجمهورية اللبنانية. وآنذاك، كانت هناك خشية لدى المؤسسة المسيحية التقليدية اللبنانية من أن يشكل النزوح الفلسطيني إلى لبنان خللا في تركيبته الديموجرافية. وبدأ الصراع بين المقاومة والجيش اللبناني الذي طالب بمنع الفلسطينيين من حمل السلاح. وتوصل الفلسطينيون واللبنانيون، من خلال وساطة مصرية إلى اتفاقية في عام 1968، عرفت باتفاقية القاهرة سمحت للفلسطينيين بحمل السلاح داخل مخيماتهم فقط، وأتاحت لهم فرصة الإشراف على الجوانب الأمنية في تلك المخيمات.

 

لكن تلك الاتفاقية، لم تنه الخلافات بين المقاومة الفلسطينية، والقوى التقليدية المسيحية، التي بدأت في تزويد ميليشياتها بالعتاد والسلاح. وفي عام 1975، بدأت الحرب الأهلية الثانية بين الفلسطينيين، والقوى اليمينية، وانضمت المعارضة برئاسة زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، السيد كمال جنبلاط إلى جانب الفلسطينيين. واجتاح الجيش السوري لبنان لمساندة الرئيس اللبناني آنذاك، السيد سليمان فرنجية. واستمرت الحرب بين كر وفر حتى التوصل إلى اتفاق الطائف. وخلال فترة الحرب تغيرت خارطة التحالفات، وغير الجيش السوري من طبيعة تحالفاته، تارة مع اليمين المسيحي، وتارة أخرى مع الفلسطينيين وما عرف في حينه بالحركة الوطنية اللبنانية. والحزب الاشتراكي الذي كان يتزعمه آنذاك، والد الزعيم الحالي وليد جنبلاط كان يقف في الخندق المعارض، بينما هو في التطورات الأخيرة يعتبر قطبا رئيسيا في خندق الموالاة.

 

وكما في الحرب الأهلية الأولى، كانت الأسباب الإقليمية أهم عناصر التحريض في تلك الحرب، كان الصراع العربي- الصهيوني وتعقيداته، والوقوف في خندق المقاومة الفلسطينية، أو في الخندق المعادي لها أهم أسباب الحرب الأهلية الثانية.

 

سؤال منهجي آخر يطرح نفسه في هذا السياق.. لماذا يقبل اللبنانيون أن يكونوا أحجار شطرنح على لوحة ليسوا هم لاعبيها الرئيسيين، ولماذا يتبارى بعضهم لتنفيذ أجندات ليست لها علاقة بمصالح لبنان.

 

الإجابة على هذا السؤال ستقودنا مباشرة إلى التركيبة السياسية للبنان. فهذه التركيبة قائمة في الأصل على أسس المحاصصات الطائفية. بمعنى أن لكل طائفية في لبنان، رغم هشاشة بنيتها، مجالها الحيوي، الذي تمارسه داخل البلاد بشكل مستقل. وهي لكي تثبت حضورها السياسي والمعنوي بحاجة إلى ظهير يقدم لها الحماية والدعم والمساندة، لكي تستأثر بحصة أكبر من القسمة السياسية اللبنانية، أو على الأقل لتحتفظ بنصيبها من الكعكة. ولأن الفرنسيين حين فرضوا تلك القسمة لم يضعوا باعتبارهم مصلحة لبنان، وخلق نظام سياسي، يرجح فيه مفهوم المواطنة، المستند على الكفاءة والقدرة، والالتزام الوطني، وليس المحاصصة، فقد كان من الضروري أن يستمر الخلل السياسي، والخلافات بين الفرقاء المعنيين مباشرة بالقسمة. وأن تبقى الخلافات مرشحة دائما لمزيد من التوتر، لتصل حد الحرب الأهلية، التي في معظم الأحيان تنتهي بدون غالب أو مغلوب، ويدفع ثمنها لبنان… كل لبنان.

 

إن خلاصة مناقشتنا، هي أن الأوضاع في لبنان، حتى لو توصل الغرماء إلى هدنة، ستبقى مرشحة لمزيد من الانهيارات، ما لم يعاد النظر في التركيبة السياسية للحكم، ويعمم مفهوم الدولة الدستورية، التي تنتفي فيها القسمة الطائفية، ويغلب مفهوم المواطنة. على أنه ليس أمامنا في هذه اللحظات الحرجة، سوى مناشدة جميع الضالعين في الأحداث الأخيرة باللجوء إلى الحكمة وتغليب لغة العقل وحقن دماء اللبنانيين، فحين تشتعل الحروب بين أبناء الوطن الواحد، ليس هناك أحد رابح وآخر خاسر، فكل جرح نازف، وكل قذيفة تطلق سيتردد صداها ألما ووجعا على عموم اللبنانيين، فعسى أن يتغلب صوت الضمير والعقل، وتعود البسمة والألق والبهجة إلى شجرة الأرز، زمر جمال لبنان وسحره.

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة حسين الجنبي)

 

تحية طيبة للباحث المبدع والمتألق دائما

تحليلك منطقي , فقد اختزل لب المشكلة في أصلها المبدئي , ألا وهو المحاصصة الطائفية التي زرعها الاستعمار وما زال يكرسها في وطننا العربي , في الوقت الذي تكون فيه تلك المحاصصة منتفية ولاوجود لها في نظام تلك الدول , فالمحاصصة الطائفية زرعتها أمريكا في العراق لكنها لاترضى أن تطبق هذه الحالة على شعبها .

وكما في بعض مقولاتنا الشعبيةالدارجة ( تصلح لي اللحمة ويصلح لك العظم )

 

سلامي لك وللعائلة الكريمة باسمة وسلمى وسمر وجنين

ولكل الأصدقاء والأحبة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تسعة − سبعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي