المثقف العربي.. همومه وعطاؤه

64

يستعير هذا الحديث عنوانه من كتاب صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، عام 1995، شارك فيه ثلاثة عشر كاتباً ومفكراً، من مختلف الأقطار العربية، وموّلته مؤسسة عبد الحميد شومان. وعلى الرغم من أن الكتاب صدر قبل ما يزيد على ربع قرن، فإن القراءات والتحليلات التي وردت فيه لا تزال مثيرة ومفيدة في اللحظة الراهنة.

ليس من هدف هذا الحديث، الاستغراق في تفاصيل بحوث الكتاب، فذلك ما يفوق طاقته بكثير، ولكن الاسترشاد بخلاصات بحوثه، في مناقشة معاناة المثقف العربي، وكيف تثقل هذه المعاناة على العمل الإبداعي، الذي يفترض أن يؤديه.

المثقف العربي فرد من سائر أفراد مجتمعه، يتأثر بعاداته وتقاليده وثقافاته، ويحمل همومه، ويشاركه أفراحه وأحزانه، وليس هناك ما يميزه عن غيره، سوى تقدّمه في الفكر والوعي، عن سائر أفراد مجتمعه. والكلام عن الهموم لا يعني اختصاص المثقف فيها؛ بل مستوى ثقلها عليه دون غيره.

في هذا السياق، يناقش المفكر الفلسطيني أنيس صايغ، موضوع هموم المثقف، فيوضح أنها ليست هموماً خاصة لفئة معينة من البشر؛ بل هي هموم تلقي بثقلها على معظم الناس، لكن ثقلها ليس متساوياً على الجميع، بمعنى أن ثقلها نسبي، وضغطها على المثقف أعلى بكثير منه على الآخرين. وبالمثل، فإن انعكاسات هذه الهموم على أداء المثقف، هي غيرها على عموم المواطنين.

فإذا أخذنا على سبيل المثال، مطلب الحرية، وهو من الهموم الدائمة للمثقف ليس في مجالنا العربي فحسب؛ بل على المستوى العالمي، فإن أياً من البشر لا يستطيع، تحقيق ذاته، وأداء دوره الوظيفي والاجتماعي من دون الحصول، في الأقل، على الحدود الدنيا منها. وكان هذا المطلب مبعثاً لثورات وانتفاضات وأحداث تاريخية كبرى، منذ القدم وعلى مر العصور. لكن تأثير وجود هذا الهم، يضغط كثيراً على المثقف، أكثر من ضغطه على سائر أفراد المجتمع؛ لأن شرط العطاء والإبداع في حالته هو توفر مناخات من الحرية تتيح لعمله النجاح.

ولذلك يمكن القول إنه في اللحظات التاريخية التي تضيق فيها مساحات الحرية، تتراجع الثقافة والفكر، وتسود الخرافة والخزعبلات، ويضيع العلم الحق. ومن هنا، كان الربط في عنوان هذا الحديث، بين الهم والعطاء. إن التميز في هذا السياق، لا يعني الاستئثار بالحرية؛ بل لكونها شرطاً وظيفياً لازماً، من غيرها يغيب الإبداع، وتغيب الرؤية الواقعية للمستقبل الأفضل، لكن التوق للحرية في جوهره، يظل واحداً، سجلته أسفار الحضارة الفرعونية والإغريقية وحضارة ما بين النهرين، والحضارة العربية، بمعنى أنه كان ولا يزال مطلباً إنسانياً.

المثقف العربي الآن، يعاني همين رئيسيين: الأول هو الحرية، وقد أسهبنا قدر المتاح في الحديث عنه، والمطلب الثاني هو مقابلة المتطلبات الأساسية للعيش الكريم. وقد تضاعفت أهمية ذلك في السنوات الأخيرة، بحيث يمكن القول إن فئة المثقفين هم من أكثر الناس عوزاً وحاجة بين الفئات في المجتمعات العربية.

وقد اعتاد الفكر السياسي العربي أن يحمّل القوى الخارجية، مسؤولية غياب الحقوق، ليس السياسية فحسب؛ بل والمعيشية أيضاً، وذلك صحيح إلى حد كبير، لكن من شأن الاستغراق في ذلك، إعفاء الذات الجماعية من تحمّل المسؤولية، وبقاء الحال على ما هو عليه. فرفع سقف الحرية في المجتمعات العربية، الذي هو شرط لازم لاستمرار عطاء المثقف، يقتضي بالدرجة الأولى، تكنيس المعوقات الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى، التفاعل مع الحضارة الإنسانية المعاصرة، والولوج فيها. لا بد من أن تكون من مهام المثقف، العمل على تجاوز العناصر المعوقة للنهوض في مجتمعاتنا العربية، وهي مهمة عسيرة، لكنها ليست مستحيلة، وتحقيقها هو أقصر الطرق لتجاوز الهموم، وتحقيق الذات، والنهوض بالثقافة والفكر.

لا مناص في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها المثقف العربي، من عمل خلاق يجعل من التحدي عاملاً محفزاً للانطلاق، وتقديم عطاء وافر، أكثر غزارة، وأرقى مستوى، وأكثر قابلية للبقاء. وقد شهدنا مثل ذلك، في ما خلّده التاريخ الإنساني من فنون وآداب، وفلسفة وإنتاج فكري، في عصور معتمة وصعبة.

وأخيراً وليس آخراً، فإن الثقافة ليست شأناً راكداً ومحايداً. إنها صناعة الإنسان، ولن تكون ثقافة حقة، إلا في حال التزامها بقضايا الإنسان وهمومه ومستقبله، وذلك يعني تلازم الإبداع بمعايير أخلاقية ووطنية، وبما يعيد الاعتبار للمثقف العضوي، ولمقولة أن المثقف هو ضمير أمته.

 

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي