اللحظة الراهنة وجدل النهضة

0 205

 

 

بدعوة كريمة من المنتدى القومي العربي في بيروت، كان لي شرف المشاركة في الندوة التي عقدت يوم 25 يوليو 2008م، تحت شعار المقاومة والنهضة، بمناسبة مرور عامين على العدوان الصهيوني على لبنان. وكان معظم المتحدثين قد أشاروا إلى وجود علاقة جدلية بين المقاومة ومشروع النهضة، واعتبروا المقاومة شرطا لازما، أو مقدمة للنهضة. غير أن قلة من المشاركين، أجد نفسي، لأسباب سأناقشها في هذا الحديث، ضمن هذه القلة، قد قالوا بأن التلازم بين المفهومين، ليس شرطا بالضرورة، وأن التطور التاريخي، ليس في منطقتنا فحسب، بل وفي عموم بلدان العالم الثالث، لا يؤكد حتمية هذا التلازم.

 

إن قراءة خارطة الصراع السياسي، في بلدان آسيا وأفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية، توضح لنا أن تلك الحقبة قد شهدت تصاعد حركات التحرر الوطني المتطلعة لتحقيق الانعتاق، ونيل الاستقلال، وأن صيغة النضال، اتخذت من الكفاح المسلح استراتيجية لبلوغ هدف التحرير. ومع النصف الأول من ستينيات القرن المنصرم، تمكنت معظم تلك البلدان من إنجاز استقلالها. ورغم مرور ما يقارب النصف قرن على استكمال معارك الاستقلال، فإن غالبية هذه البلدان لا تزال تعيش تركة التخلف التي مضت عليها قرون عديدة، فالأمراض والمجاعات والفقر وارتفاع معدلات الجريمة والبطالة والفساد لا تزال تلقي بكلكلها ثقيلة ومريرة، على تلك المجتمعات, ولم تتمكن تلك البلدان رغم وصول قياداتها إلى السلطة عبر المقاومة المسلحة للاستعمار، من تحقيق مشاريع النهضة التي وعد بها. ذلك يعني ببساطة أن المقاومة ربما تكون مقدمة لتحقيق النهضة، ولكن وجودها لا يعني حتمية تحقق مشروع النهضة. والعكس صحيح أيضا، فالواقع التاريخي، يؤكد لنا أن ثمة مجتمعات استطاعت أن تحقق تحولات تراكمية كبرى، نقلتها من حال إلى حال، دون مرور ﺒ”المقاومة” بمفهومها التقليدي، بما يعني أن تحقيق النهضة لا يلزم بالضرورة أن يكون ناتج عمل مقاوم.

 

خلاصة القول في هذا السياق، أن المبالغة في الحديث عن دور المقاومة في مشروع النهضة، ربما يؤدي بنا في النهاية إلى حالة من الإحباط، حين تتكشف لنا الحقائق، كما تكشفت فعلا في النتائج الكارثية التي مرت بها بلدان أفريقية وآسيوية بعد انتزاع استقلالها السياسي. وعلى هذا الأساس، فلن يكون في مصلحة الفعل النهضوي أن يجري الإلحاح على ربطه بالمقاومة المسلحة.

 

لا نقصد بهذه المقدمة أبدا أن نقلل من شأن كفاح الشعوب لانتزاع حريتها. ولكن الهدف هنا هو وضع الأمور في سياقها التاريخي والموضوعي. وأن نؤكد أن المقاومة المسلحة بمفردها ليست فعلا نهضويا، بل هي مناهضة للهيمنة، وأن مهمتها تكون قد أنجزت عند انتزاع الاستقلال.

 

ولكي نزيل بعض الالتباسات، التي ربما تعتري الفهم لدى البعض، فيتصور خطأ أننا نقف ضد حق الشعوب في تقرير مصائرها وأقدارها، وهو حق كفلته الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، فإن من اللازم إعادة تركيب المفاهيم ذات العلاقة وترتيبها، بصورة أوضح. وبما أن تحقيق النهضة، هي غاية الغايات، فإن تحديد ماهيتها وعناصرها هو مسألة جوهرية وملحة.

 

في السياق العام، ارتبطت مشاريع النهضة على مستوى القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بجملة من العناصر في مقدمتها تحقيق الوحدة، والتنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال، والأصالة والتجدد الحضاري. ومن نافلة القول، أن المقاومة المسلحة لا تستطيع، بأي حال من الأحوال فرض هذه الاستحقاقات، بل ليس مطلوبا منها أصلا أن تتعامل معها.

 

من هنا يصبح مفهوم المقاومة بذاته عاجزا عن الارتباط بمشروع النهضة، ما لم يتم إعادة تركيب مفهومه، بشكل مختلف ليصبح بالإمكان توظيفه في المشروع النهضوي العربي. وحين نشير إلى ذلك، فينبغي أن نؤكد أن النهضة لها علاقة بما هو مستقبلي، أما المقاومة، وحتى بعد إعادة تركيب عناصرها، فهي بطبيعتها فعل سلبي، بسبب علاقته المباشرة بالكوابح. فهي هدم لمنظومة من العناصر المعوقة للنهضة. إن كل عنصر من عناصر النهضة له عنصر معوق (أو أكثر)، يقابله ويحول دون تحقيقه. فالوحدة تقابلها التجزئة، والديموقراطية يقابلها الاستبداد، والتنمية يقابلها التبعية والنمو المشوه، والعدالة الاجتماعية يقابلها الاستغلال، والاستقلال الوطني والقومي تقابله الهيمنة الأجنبية والمشروع الصهيوني، والأصالة والتجدد الحضاري يقابلها التغريب. إذا فنحن حين ننشد تحقيق المشروع النهضوي، فإننا سنكون إزاء متقابلات ينبغي هزيمتها ودحرها. وهنا بالإمكان الحديث عن المقاومة، ليس في صيغتها ككفاح مسلح، وإنما كممارسة رفض ينبغي توظيفها لإزالة كوابح نهوض الأمة.

 

لكن ثمة أكثر من معضلة ستواجهنا حين نحاول توظيف هذا المفهوم في اللحظة الراهنة، والأقرب أن ذلك إذا لم نتنبه له سيكون استنساخا لمرحلة تاريخية تغيرت ملامحها، بما يستدعي تطوير واسع وكبير، في المفاهيم التي ارتبطت بمشروع النهضة فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وربما استدعى ذلك إعادة الصياغة والتركيب، ونسف كثير من المقولات.

 

في هذا السياق ينبغي التنبه بتركيز شديد على المحاور المركزية ذات العلاقة بواقعنا الراهن. ولعل أهم هذه المحاور، أن فكرة الاستقلال من نير الاستعمار، في البلدان العربية، جاءت في مرحلة تاريخية مهمة، هزمت فيها الإمبراطوريات القديمة، وتضعضع فيها الاستعمار التقليدي، البريطاني والفرنسي. وكان منطق التطور، وانقسام العالم إلى معسكرين رئيسيين: رأسمالي واشتراكي، قد أكد بما لا يقبل الجدل، رغبة القطبين الرئيسيين في المعسكرين، في إزاحة القوتين التقليديتين والإحلال مكانهما. وكانت نتيجة ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي، كل لأسبابه الخاصة، وقفتا متفرجتان على بريطانيا وفرنسا، وهما تتلقيان الضربات الماحقة من حركات التحرر الوطني. كانت الأولى، الولايات المتحدة قد تبنت منطق الإزاحة لتحل مكان فرنسا وبريطانيا، وكان الإتحاد السوفيتي يأمل بنصرته لحركات التحرر الوطني، أن يوسع دائرة نفوذه، تعزيزا لاستراتيجيته في الصراع مع القطب الأعظم الآخر.

 

والنتيجة أن نضال حركات التحرر، وشعارات النهضة التي حملتها جاءت غير متعارضة، بشكل مباشر، مع سياسات القطبيين الأعظمين، وأن طرحها تم في سياق تاريخي وموضوعي صحيح.

 

من جهة أخرى، ارتبط المشروع الوطني، برؤى توحيدية وقومية، كانت طابع المرحلة الكفاحية، بالوطن العربي، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وكانت متسقة في أطروحاتها مع التوجه العالمي السائد آنذاك. وهكذا كانت الاختراقات الفكرية، التي عبر عنها مشروع النهضة العربي قد جاءت متماهية ومنسجمة مع التحولات التاريخية التي شهدت العالم، ولم تمثل إبداعا أو إعجازا عربيا، لكونها بالأساس خيار إنساني وعالمي، التحمنا به وأصبحنا جزء منه.

 

ِإضافة إلى ذلك، لم تكن الدولة القطرية حقيقة ماثلة كما هي الآن، وكان الشعور بأن حضورها سيكون ضمن مرحلة مؤقتة، تنتهي باستكمال تحقيق بقية الأقطار العربية لاستقلالها السياسي. وبالمثل، أيضا، ساد شعور غير واقعي، مفاده أن التخلص من الاستعمار سينقل المجتمع العربي، شبه العشائري، وشبه الإقطاعي، إلى مجتمع يحمل سمات وخصائص المجتمعات الحديثة. وجاءت النتائج أيضا مغايرة في كلا الحالتين، فيما يتعلق باستمرارية وثبات الدولة القطرية، وأيضا فيما يتعلق بنشوء تشكيل اجتماعي مشوه، لا يحمل خصائص الإقطاع أو المجتمعات الحديثة.

 

إن هذه النقاط تستدعي منا الإقرار بأن تحقيق اختراقات فكرية فيما يتعلق بالمشروع النهضوي هو الآن عملية أصعب بكثير مما كانت, فنحن في اللحظة الراهنة إزاء تحولات كبرى فوق كوكبنا الأرضي,, تحولات في العلاقات الدولية وطبيعة الصراع، واندماج اقتصادي عالمي، عبرت عنه اتقاقيات الجات، ومؤسسات وبرامج العولمة، وأيضا نحن أمام ثورات اتصالات وشبكات عنقودية كبرى، وثورات مماثلة في البيولوجيا وتقانة المعلومات. وفوق ذلك كله، فنحن إزاء تغير دراماتيكي في المعطيات التي حكمت السياق التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كان المشروع النهضوي العربي أحد تعابيرها. وإلى جانب ذلك، فنحن أمام رسوخ للظواهر التي أعقبت مرحلة الاستقلال، ومن ضمنها الدولة القطرية والنمو المشوه.

 

إن التطور التاريخي لن يسعفنا الآن في اقتناص مفاعيل النهضة وتحديد مفاتيحها.. كما أن المسرح العالمي، لن يساعدنا في وضعه الحالي المرتبك في صياغة اختراقات فكرية نعيد فيها إلى الاعتبار حضور المشروع النهضوي بقوة في صياغات جديدة، وليس علينا سوى الاعتماد على أنفسنا في صياغة المفاعيل وتحديد المفاتيح، والتبشير بملامح النهضة الجديدة، أخذا بعين الاعتبار خصائص العصر، وذلك بالتأكيد سيكون رهنا لمزيد من المبادرات ومزيد من الإبداع، فهل نحن جاهزون الآن لتحقيق ما تحتاجه الأمة من اختراقات فكرية وتحديد جديد لعناصر النهضة العربية في اللحظة الراهنة؟!

 

cdabcd

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة فادي معلا)

 

اشكرك دكتور مكي على مقالتك البناءه لنا كوطن وشعب ….

 

لكن اود التعليق بان المقاومه والنهضه يسيران كخط متوازي لان النهضة جزء لا يتجزء من المقاومه لان المقاومه وكما نعلم لها اشكال وطرق متعدده حيث هناك المقاومه الاجتماعيه والسياسه والعسكريه والفكريه …. ونرى ذلك من خلال البرامج اللوائح والانظمه الداخليه لاغلب الاحزاب اليساريه الوطنيه العربيه حيث يكون هناك خط وطني كفاحي يتمثل بحمل السلاح في وجه المحتل وخط ديمقراطي نهضوي يكون دوره النهوض بالمجتمع وبناءه …. حيث نلمس من ذلك بان الخطا ليس بالتصنيف لكن الخطأ بالتطبيق ….

ودمتم ودام الوطن العربي وطن موحد

 

واكرر شكري لكم على طرح هذا الموضوع القييم

 

فادي معلا

طالب بكلية الحقوق الفلسطينية

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة فادي معلا)

 

( يسيران كخطان متوازيان ) هذه الجمله تصحيح للجمه ( يسيران كخط متوازي ) التي جاءت بالتعليق السابق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تسعة عشر + أربعة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي