الكيان الصهيوني وأوروبا والهولوكست
في الحديث الماضي ناقشنا الدوافع التي حرضت الرئيس الإيراني أحمدي نجاد على إطلاق التصريحات التي نفى بها وقوع حادثة الهولوكست بحق اليهود، ودعوته إلى استضافة دولة إسرائيل على الأراضي الألمانية أو النمساوية بدلا عن أرض فلسطين، وردود الفعل الأمريكية تجاه تلك التصريحات، ولماذا أطلق الرئيس الإيراني تلك التصريحات في هذا الوقت بالذات. ووعدنا القارئ الكريم بتكريس حديث هذا اليوم لمناقشة ردود فعل الكيان الصهيوني والدول الأوروبية، والأسباب التي دفعت إليها.
وابتداء ينبغي التنويه إلى أن قضية المحرقة بالنسبة للصهاينة هي قضية أساسية ومركزية في العقيدة الصهيونية المعاصرة. إنها ليست مجرد مجزرة ارتكبها النازيون، ضمن المجازر التي اقترفوها بحق البشرية، بل هي حالة متفردة تضم إلى حالات التفرد الأخرى التي تطبع العقيدة الصهيونية. إنها مجزرة تصغر أمامها كل المجازر وحملات الإبادة التي اقترفت عبر التاريخ بحق الإنسانية. إن الميثيولوجيا الصهيونية تركز باستمرار على حالات من الفرادة، أو الفرادات. فاليهود هم وحدهم، دون غيرهم من سائر شعوب الأرض، الذين منحوا وعدا إلهيا، عن طريق النبي إبراهيم بحيازة أرض فلسطين. وقد اتخذوا من هذه الأسطورة دعامة رئيسية في صياغة أيديولوجيتهم، حين قالوا بالحق التاريخي. وكانت تلك فرادتهم الأولى.
أما الفرادة الثانية، فهي تميزهم على أمم الأرض بثقافة عصية على الاندماج، وبأنهم ظلوا طيلة تاريخهم محتفظين بعاداتهم وتقاليدهم، ولم يندمجوا في ثقافات الشعوب التي عاشوا معها أبدا، وأن ذلك مكنهم من الحفاظ على هويتهم. وتنطلق هذه الدعامة من موقف عنصري عرقي، يصف فيه الصهاينة أنفسهم بأنهم شعب الله المختار، وذلك يجعل من اليهود شعباً يتفوق في تاريخيته على الشعوب الأخرى، وأنه مادام البقاء دائما للأفضل، فهم الأولى باكتساب أرض فلسطين، لأنهم الأفضل والأكثر قدرة على عمارة الأرض. وكانت تلك فرادة أخرى.
وقد استغل الصهاينة حالة الاضطهاد الذي تعرض له اليهود عبر تاريخهم، وبشكل خاص في أوروبا، ليجعلوا منها دعامة ثالثة. وجاءت الحرب العالمية الثانية وما جرى فيها من ملاحقة وقتل لليهود لتدفع بهذه الدعامة إلى الواجهة، ولتجعلها مركزية ومقدمة على ما عداها من الدعائم الأخرى التي استند عليها المشروع الصهيوني. ومن هنا أصبحت المحرقة محورا مجسدا لمعاناة اليهود عبر التاريخ. وبدأت صياغة أساطير مكثفة وخارقة حولها لدرجة جعلت أي معاناة إنسانية أخرى، تبدو تافهة إذا ما قورنت بها، فهي إذن تعبير عن معاناة متفردة، يبدو أمامها ما ارتبط بالقضية الفلسطينية من قتل ومجازر وهدم بيوت وتخريب مزارع وتشريد لا يكاد يعني شيئا حيث تجري مقاربته بما حدث في المحرقة. إن كل الأهوال التي تعرض لها الشعب الفلسطيني هي مجرد حوادث عابرة لا قيمة لها أمام أهوال المحرقة التي لا مثيل لها والتي يتحمل كل العالم مسؤوليتها بسبب لا ساميته.
هكذا إذن أصبح الإقرار بالهولوكست هو جوهر الاعتراف الثقافي بحق الكيان الصهيوني في الوجود واغتصاب فلسطين كملاذ لا مناص منه لحماية اليهود من هولوكست آخر محتمل. ولكي تكتمل الفرادة ينبغي الحط من الجرائم التي ارتكبتها النازية بحق الدول الأخرى… وبما أن أعداد القتلى هي التجسيد الحقيقي للحجم الكمي للكارثة، فإن الدعاية الصهيونية عملت في اتجاهين، الأول هو المبالغة في أعداد الضحايا من اليهود، والتغاضي عن الإشارة أو التقليل من حجوم مجازر أخرى حدثت للغجر والشواذ.. ولأضعاف أمثالهم، يقدرون بـ 18 مليوناً من الشعب الروسي.
ولما لم يفلح ذلك، عمل الصهاينة على اكتشاف معضد آخر لتجسيد معاناة اليهود، وتوصلوا في النهاية إلى جدل من نوع خاص.. جدل مكنهم من التمييز بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وهكذا أصبح التطهير العرقي الذي مارسه هتلر بحق اليهود متقدما عشرات المرات في فظاعته وقسوته على ذلك الذي يتعرض له الفلسطينيون على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
من هنا نفهم أسباب ردود الفعل الغاضبة التي أطلقها الصهاينة تجاه تصريحات الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد. وهو غضب معقول ويأتي في سياق تاريخي صحيح إذا ما أخذنا بعين الاعتبار القيمة المعنوية والمادية للمحرقة في الأيديولوجيا الصهيونية.
لقد مارس الصهاينة من قبل شتى أنواع الاضطهاد والإرهاب تجاه كل من شكك في وجود الهولوكست أو قلل من حجم آثاره. ولم يتورعوا عن اغتيال بعض العناصر التي جاهرت بمواقف مغايرة لمواقفهم. فعلى سبيل المثال، تم اغتيال الكاتب اليهودي الألماني، جوزف غينزبرغ الذي أنكر وجود غرف غاز لحرق اليهود، أثناء زيارته لقبر زوجته في ميونخ.
ومؤخرا نشطت السلطات الأوروبية الغربية في حملات القمع والإرهاب، بحق من يشككون في الهولوكست. فقد أوقفت السلطات النمساوية المؤرخ البريطاني دايفيد إيرفينج بموجب مذكرة تتهمه بإنكار حدوث المحرقة ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. وفي ألمانيا جرت محاكمة الكاتب، أرنست أوندل بتهمة التشكيك بالمحرقة في كتاباته. ورحل عالم الكيمياء الألماني، جيرمار رودولف” من أمريكا إلى ألمانيا ليواجه حكماً بالسجن لمدة 14 شهرا بسبب ورقة علمية كتبها في أواسط التسعينيات أثبت فيها أن بقايا الغازZyklon-B الذي يفترض أنه استخدم ضد اليهود في معسكر أوشفيتز غير موجودة أبداً. كما جرت محاكمة المفكر الفرنسي، ريجيه غارودي، بعد نشره لكتاب أساطير يهودية الذي قال فيه بوجود مبالغات كثيرة في قضية الهولوكست. ومن قبل تعرض للاضطهاد والإرهاب كتاب أمريكيون مثل الفريد نانثال وبول فندلي لمجرد أنهم وجهوا انتقادات للمشروع الصهيوني.
ولا شك أن جملة المواقف من قبل السلطات الأوروبية بحق الكتاب والمؤرخين، لمجرد تشكيكهم في حادثة تاريخية لم يتم التحقق منها، تعتبر خروقات للدساتير في البلدان الديمقراطية، التي تؤكد على حرية التعبير والحق في الاختلاف، ولكن هذه الخروقات تتستر دائما بعباءة مواجهة حملة العداء للسامية، والوقوف ضد التوجهات العنصرية.
هكذا إذن تبدو المحرقة، أحد أحجار الزاوية القليلة في الفكر الصهيوني المعاصر، وبالتقليل من أهميتها أو نفيها، ينتفي أحد العناصر التي استند عليها مشروع اغتصاب فلسطين. وهذا وحده سبب كاف لردة فعل الكيان الصهيوني الغاضبة تجاه تصريحات نجاد.
وإذا أضيف إلى ذلك الملف النووي الإيراني، وهو قضية يجب أن نجعل لها حسابا كبيرا عند قراءتنا لردة الفعل الإسرائيلية، وهذه القضية أيضا ينبغي ألا تغيب فكرة الفرادة، فالسلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط، في العرف الصهيوني، ينبغي أن يكون حكرا لإسرائيل، وألا تتمكن من الحصول عليه أية دولة أخرى.
ولا تخفي الدوائر الصهيونية موقفها في أن استراتيجية الردع لديها تمتد شرقا إلى باكستان وغربا إلى مراكش، وشمالا إلى تركيا وجنوبا إلى أوغندا. وضمن هذا المتصور، فإن وجود سلاح نووي لدى إيران سوف يمثل شرخا كبيرا في استراتيجية الردع الإسرائيلية، ويجعلها ضعيفة. وكان الموقف الصهيوني غاضبا ومتحسبا من باكستان بعد إعلان الأخيرة عن نجاح أول تجربة نووية لها. وكان من المتوقع أن يقوم الكيان الصهيوني بعمل وقائي تجاه تلك التجربة، لكن أحداث سبتمبر عام 2001، في نيويورك وواشنطون، قد غيرت كثيرا في خارطة التحالفات السياسية، وجعلت باكستان في مقدمة الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية في المواجهة التي عرفت بـ “الحرب على الإرهاب”. وكان ذلك عاملا رئيسيا في عدم تمكن إسرائيل من وأد الإمكانيات النووية الباكستانية. وكان الرئيس الباكستاني، الجنرال، برويز مشرف واضحا في ذلك بخطابه التاريخي الذي ألقاه على شعبه عشية التحضير الأمريكي للحرب على أفغانستان، حيث أشار إلى أن تحالفه مع الإدارة الأمريكية هو عمل وقائي، وأن الهدف منه هو ضمان أمن باكستان وحمايتها من هجوم نووي محتمل.
إن السلاح النووي الإيراني سيمثل دون لبس، ضربة قاضية للفرادة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما لن تقبل به أية حكومة إسرائيلية. إنه يشكل ضربة قاسية لتفوقها التكنولوجي والعسكري على جميع دول المنطقة. وما يبرر خطورة هذا الملف أنه يأتي متزامنا مع التشكيك في فرادة أخرى استمد الكيان الصهيوني مشروعيته منها، هي فرادة المعاناة والاضطهاد. وكلاهما يجعل غضب الحكومة العبرية يأتي في سياق موضوعي وتاريخي صحيح.
أما لماذا تماهى الأوروبيون مع الحملة على تصريحات الرئيس الإيراني نجاد، فلأنه قام بعملية نفي وإثبات في آن واحد. نفى المحرقة لكنه في ذات الوقت حمل ألمانيا والنمسا مسؤوليتها وأعاد للأوروبيين الوعي بعقدة ذنبهم. إن ردة الفعل الأوروبية كانت باستمرار، منذ قيام الكيان الصهيوني حتى يومنا هذا، أيها اليهود سنمدكم بما تحتاجونه من دعم مادي ومعنوي، أنتم بخير، ابقوا بعيدين عنا، في أماكنكم حيث أنتم حتى ولو كان ذلك على حساب فلسطين وتشريد شعبها ومصادرة أرضها كيانا وهوية، صورة أخرى من صور العداء الأوروبي المكبوت للسامية، لن يسمح أبدا لأي كان بتعريته، مهما كان الثمن، وأيا تكن الأسباب…
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-12-28