الكونجرس الأمريكي… حالة إنكار
في تقاليد الكونجرس الأمريكي، تمر صناعة القرار بمستويات عدة، تبدأ بمشروع يتقدم به تكتل أو أكثرـ من القوى المتنفذة بالمجلس، كالمنظمة اليهودية الأمريكية، الأيباك أو المنظمات المناهضة للعنصرية أو اتحاد المزارعين، وما شاكل ذلك. وشرط نجاح المشروع هو التصويت عليه من قبل الأغلبية.
وهناك مستوى آخر، يجري تبني قرار ما به، يعتبر غير ملزم التطبيق للإدارة التنفيذية. ويمثل اتخاذ القرار موقفا سياسيا آنيا، ورؤية استراتيجية مستقبلية. فهناك تصويت للكونجرس على اعتبار مدينة القدس عاصمة أبدية للكيان الغاصب. وهناك مشروع بايدن لتقسيم العراق، الذي أيده الكونجرس، وصدر قرار غير ملزم به. وهناك أيضا قرارات مماثلة تتعلق بهضبة الجولان السورية.
ما نهدف له من هذه المقدمة، هو التأكيد على أن القرارات الكبرى التي تقدم على اتخاذها الإدارة الأمريكية لا تبزغ بين ليلة وضحاها، بل تمر بمراحل عدة، يجرى خلالها رسم الخطط والخرائط، وبرامج التنفيذ. وتمر بمرحلة من الإعداد النفسي للجمهور للتكيف وتأييد الموقف المطلوب. ومرحلة الإعداد هذه ذات أبعاد مركبة ومعقدة، تأخذ بعين الاعتبار، الحديث عن المصالح الأمريكية واحتمالات تعرضها للمخاطر، في حالة التلكؤ عن اتخاذ موقف حاسم من الخصم. ويتضمن ذلك شيطنة الخصم، وتجريده من أي صفة إنسانية وأخلاقية، وتبلغ الشيطنة حدا، يبلغ حالة الإنكار.
تكررت هذه الحالة، بنسب متفاوتة في التاريخ الأمريكي منذ نشأته، حتى يومنا هذا. وكانت البداية مع الهنود الحمر، الذين جرت إبادتهم، واعتبروا معوقا لقيام حضارة مدنية في القارتين الأمريكيتين. وأعيد تكرار ذلك بقوة أثناء الحرب الأهلية. وفي الحرب العالمية الأولى. وخلال الحرب الكونية الثانية، أصبح تعبير “دول المحور” مرادفا لمعنى الشر.
ولم تكن المقاومة الفلسطينية، خارج هذا التوصيف. فالفلسطينيون الذين يدافعون عن عرضهم وشرفهم وكرامتهم، ويكافحون من أجل حرية بلدهم ، إرهابيون ضمن عملية الشيطنة التي يخضع لها خصوم السياسة الأمريكية. ولم تتردد إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش إثر حوادث 11 سبتمبر عام 2001 عن ضم الفلسطينيين، ضمن قوائم الإرهاب ليكونوا هدفا معلنا للحرب العالمية التي دشنتها تلك الإدارة. وليتأكد مجددا أن حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والاستقلال وحق تقرير المصير، هي شعارات في المزاد وخاضعة لقوانين البورصة، شأنها في ذلك شأن بقية السلع ترتفع أسهمها حينا، عندما تحتم مصالح الكبار ذلك، وتتهاوى كقيم معيارية وأخلاقية عندما تتعارض مع سياساتهم ومصالحهم.
لم تجد القوى العظمى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا غضاضة في الاعتراف بمشروعية اغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين، وإعلان قيام الدولة اليهودية عام 1948، رغم أن ذلك تم على حساب السكان الأصليين، الذين اقتلعوا من جذورهم ونفوا من وطنهم وأصبحوا لاجئين بالدول العربية المجاورة: الأردن وسوريا ولبنان. وليمكثوا في مخيمات بائسة بنتها لهم وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، متطلعين إلى يوم ينتصر فيه ميزان العدل فيعودوا إلى أطلالهم ومزارعهم. وليشكل هؤلاء لاحقا بعد عقدين من الزمن العمود الفقري وقاعدة الكفاح الفلسطيني المعاصر.
منذ غزو لبنان في مطالع الثمانينات من القرن المنصرم، بدأ حلم قيام الدولة الفلسطينية يخبو رويدا رويدا، ومع تراجعه خبا الأمل في العودة. وجاءت كل تطورات التسوية السلمية مؤكدة سعي الإدارة الأمريكية الحثيث على شطب حق الفلسطينيين بالعودة لديارهم، لتتحول عملية الشطب هذه إلى شرط سابق على تحقيق أية تسوية سلمية تضمن قيام الدولة الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة.
في هذا السياق، يأتي طرح مشروع قانون جديد، تقدم به ثلاثون عضوا بالكونجرس الأمريكي، بقيادة الجمهوري مارك كيرك، يقضي بإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث يقتصر على الجيل الأول من اللاجئين الذين طردوا عنوة من مدنهم وقراهم في حرب النكبة 1948.
والمعنى هنا متضمن وواضح، وهدفه أيضا صريح وواضح. فالقرار بتعريف اللاجئ الفلسطيني، يشمل فقط الأحياء من اللاجئين الذين غادروا قبل أربعة وستين عاما، ولا يشمل أبناءهم أو أحفادهم. وهو بذلك محاولة أخرى، في الاتجاه الذي فصلناه أعلاه. إنه باختصار قتلا للتاريخ. ووفقا لهذا التعريف، لا يتوقع بقاء أحد من اللاجئين الفلسطينيين على قيد الحياة بعد عقد من الآن. وبذلك يتم إقفال الملف نهائيا ولا تعود هناك ضرورة للإبقاء عليه.
هنا وجه آخر لعبقرية المحتل، والقوى التي تدعمه. فالثمانمائة ألف فلسطيني، الذين شردوا من وطنهم تجاوز تعدادهم خمسة ملايين لاجئ وفقا لسجلات وكالة الغوث. ولا يستفيد من خدمات هذه الوكالة سوى عدد قليل من هؤلاء اللاجئين. لكن بقاءهم في هذه الخانة. خانة اللاجئين يشكل قنبلة موقوتة، تعري وحشية المحتل، وتكشف زيف ادعاءاته في أرض السلام. وإذن فالمطلوب حالة إنكار من نوع آخر، هي ما تكشفت عنه عبقرية أعضاء الكونجرس الثلاثين المحترمين.
ووفقا لتقرير المتقدمين بالمشروع، فإن عدد الأحياء من اللاجئين الفلسطينيين لا يتجاوز الثلاثين ألفا، جميعهم من الشيوخ. وهؤلاء وحدهم وفقا للمشروع الأمريكي، هم من يستحقون مساعدة “الأونروا”. وبهذا يحقق دعاة المشروع هدفين في آن واحد. الأول وهم المهم إنكار وجود اللاجئين بعد عدة أعوام من هذا التاريخ جملة وتفصيلا. والثاني، هو القيام بعملية تجويع وقتل لهؤلاء، ليصبحوا في وضع يجبرهم على الرحيل من مخيماتهم والبحث عن مأوى في أي مكان، ولتصبح هويتهم الفلسطينية في مهب الريح. يؤكد صحة هذا التحليل، تضمن المشروع المقدم للكونجرس طلبا بتخفيض مساهمة الولايات المتحدة في دعم ميزانية الأونروا، تحت ذريعة الحفاظ على أموال دافعي الضرائب.
طرح هذا المشروع، هو حالة إنكار أمريكية جديدة تتعدى مخاطرها شطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وإنكار وجودهم لتصل حد إنكار مع نوع آخر، يهدد الأمن والاستقرار بالبلدان العربية التي تستضيف الفلسطينيين بالمخيمات. وتحديدا الأردن وسوريا ولبنان. فقد أصبح واضحا أن المطلوب هو تفجير الأوضاع في جميع البلدان التي لها حدود مباشرة مع الكيان الصهيوني، ليبقى الكيان الغاصب وحدة سيد الموقف.
فهل يتبارى القادة العرب، باتخاذ موقف شجاع لمواجهة حالة الإنكار هذه قبل أن يبلغنا الطوفان.