الكواكبي وطبائع الاستبداد
كانت الدعوة الكريمة التي تلقيتها من الإخوة في نادي العروبة بالبحرين للمشاركة في افتتاح الموسم الثقافي للنادي، في هذا العام، بندوة فكرية حوارية حول كتاب العلامة عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، فرصة لي لأقوم من جديد بإطلالة متأملة على هذا الكتاب. وكانت الفرصة قد سنحت لي بقراءته للمرة الأولى قبل ما يزيد على الثلاثة عقود، لم أتمكن حينها من الربط بين كتابات هذا المفكر الواسع الخبرة والعلم، وبين السياق التاريخي والأحداث العاصفة التي كان المشرق العربي يمور بها أثناء حقبة تأليف الكتاب. واكتشفت من خلال القراءة والمقارنة، والمقاربات التي توصلت إليها أن هناك الكثير مما يجب أن يقال حول المؤلف والكاتب، وأن ذلك ليس مجرد وفاء لتراث سياسي جاء في مرحلة حرجة، ومحطة انتقال من تاريخ الأمة، ولكن لأن ما قدم من معلومة وتحليل واستنتاج لا يزال كثير منه ينطبق على حال أمتنا الآن. ولذلك يصبح هذا السفر مرجعا مهما في تشخيص واقع ما يجري في منطقتنا، ومحرضا على العمل من أجل الخروج من الأزمة، وعنق الزجاجة، الكابح لتطلعات وأماني العرب جميعا في الحرية والنهوض والتقدم.
فتح الكواكبي عينيه على الدنيا لأول مرة عام 1854، في فترة تعاقبت فيها على مصر أحداثا جسيمة. فقد شهدت مصر في نهايات القرن الثامن عشر قيام نابليون بونابرت بحملة عسكرية واسعة عليها، تمكن خلالها من احتلال البلاد. وشاءت المصادفة أن يقوم شاب مجاهد في عام 1800، السنة الأولى للقرن التاسع عشر، يدعى سليمان بن محمد أمين الحلبي، هاجر إلى القاهرة لتلقي العلوم الدينية في جامع الأزهر، باغتيال الحاكم العسكري للحملة الفرنسية على مصر، الجنرال كليبر، احتجاجا على الإحتلال الفرنسي لمصر ودفاعا عن حرية شعبها، وثأرا للشيخ السادات الذي أهانه كليبر.
وقبيل ذلك بوقت قصير، بدت ملامح الضعف والشيخوخة والفساد واضحة على السلطنة العثمانية. وعبرت تلك الملامح عن نفسها في انتصار الحركات الإستقلالية في بلاد البلقان، وقيام حركات أخرى مماثلة في بلاد الشام وجزيرة العرب. وقد أخذت تلك الحركات تنهش في جسم السلطنة، وتحيل الرجل المريض في الإستانة إلى حاكم عاجز، ليس فقط في حماية ممتلكات الدولة، ولكن أيضا في توفير المستلزمات المالية لتسيير شئونها، مما ألجأ الحكومة المركزية للمديونية من البيوت المالية الأوروبية، بشروط محجفة وباهضة، وضعت المزيد من ممتلكات السلطنة رهينة بيد الدائنين. ومن جهة أخرى، كان المماليك، في مصر يعيثون فسادا واستبدادا وطغيانا. ويحملون الشعب المصري من الأعباء والأتاوات ما لا طاقة له بها.
وفي ظل الفوضى العارمة التي سادت بلاد النيل، برزت تجربة محمد على باشا، كمنقذ للشعب المصري. وقد عبرت التجربة عن نفسها بتبنيها لمشروع نهضوي، شمل محورين مهمين: أولهما الوعي المبكر للباشا، بأن مصر لا يمكنها تحقيق تنمية اقتصادية وصناعية حقيقية، إلا بالخروج من شرنقتها، والتماهي مع عمقها الجغرافي والتاريخي، بلاد الشام والوصول إلى منابع النيل، وبناء جيش مصري قوي قادر على الدفاع عن هذا المشروع. إن مصر المعزولة داخل حدودها مآلها الحتمي الإنيهار والفناء…
إن إعادة القراءة لكتاب العلامة الكواكبي، لا يمكن أن تكون صحيحة، إذا لم نأخذ بعين الإعتبار المرحلة التاريخية التي صدر فيها الكتاب. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذا الكتاب قد كتب بمصر، بعد تداع لتجربة النهوض التي قادها محمد على. وهذا التداعي تم بواسطة هجمة كولونيالية مباشرة وغزو خارجي، ساهمت فيه بريطانيا وفرنسا وروسيا، فرض على الباشا الإنسحاب من بلاد الشام، والإنكفاء داخل حدوده في مصر، كما فرض عليه معاهدات مهينة. وجاء من بعده، ابنه الخديوي اسماعيل، ليستعير الفهم المشوه للتمدين. وليغرق مصر في ديون هائلة اقتضى تسديدها، “بيع الجمل بما حمل”، ورهن استقلال مصر، وتسليم الشئون المالية للمستشارين الفرنسيين والبريطانيين.
تشاء المصادفة مرة أخرى، أن يكون الكواكبي، القادم من حلب الشهباء، والذي كنى نفسه بـ “الفراتي” وآثر توقيع كتاباته بـهذه الكنية، أن يتصدى، كما تصدى سليمان الحلبي من قبل، كل بطريقته الخاصة، للاستبداد والطغيان في مصر. اختار سليمان خنجرا طعن به رمز الطغيان والاستعباد، ممثلا في الجنرال الفرنسي، واختار الفراتي أن يحارب بالكلمة والقلم. وبقي “السيف والقلم” يعبران عن انتماء عربي أصيل ووشائج دينية وقومية بين الشعبين العربيين الشقيقين، عمدت وحدتهما بدماء المجاهدين في كلا البلدين وتضحياتهم.
وحين نعيد قراءة الكواكبي، سيكون من العصي علينا أن لا نستحضر مقاربات أخرى، نطبقها على واقع التردي والتشرذم الذي نمر به في هذا المنعطف الخطير من تاريخنا. هل صدفة حقا، أن حضور الخديوي اسماعيل في أرض الكنانة منذ منتصف السبعينيات. ورغم التسليم بأن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن ما حدث في كلا الحقبتين، متشابه إلى حد يصعب فيه على المتتبع لمسار الحركة التاريخية المصرية التمييز بين كلاهما. فالتجربة الخديوية أخذت مكانها مباشرة بعد هزيمة مشروع محمد على، بينما حلت الثانية، قبل أقل من مرور عقد على هزيمة الجيوش العربية مجتمعة في الخامس من حزيران، 1967، وفشل مشروع التنمية الذي بدأت ملامحه في التشكل منذ منتصف الخمسينيات. كلا الهزيمتين أعقبهما سيادة نمط استهلاكي على مستوى المنطقة، وتغييب كامل لاستقلالية القرار السياسي في بنائهما الفوقي، وتبعية اقتصادية، تصل حد الإندماج في الأسواق العالمية، وضعف للعملية الإنتاجية، وتراجع لدور التصدير، وضعف في كفاءة الموانئ البحرية، وتجريد كامل للسلاح، وتبن لسياسات واستراتيجيات، مفروضة بقوانين القوة، وليس بسيادة القانون. إن التشابه هنا يصل حد التطابق، ولعل المسئولون أرادوه أن يكون كاملا، فأعادوا بناء دار الأوبرا التي شيدها إسماعيل، والتي أحرقت في يوم ريح عاصف من أيام الغضب المصري.
وكما كان سقوط التجربة الأولى، مقدمة لضياع المنطقة بأسرها وسقوطها في نفق التفتت والفوضى، وانبعاث المرحلة الأولى من مراحل التصدي العربي للهيمنة العثمانية، وقيام الثورة العربية التي انطلقت شرارتها من مكة المكرمة ضد العثمانيين، والغدر الفرنسي البريطاني، الذي انتهي بسايكس بيكو ووعد بلفور، فإن مرحلة السبعينيات أدخلت المنطقة بأسرها في نفق التسوية، وكانت نتائجها توقيع اتفاقية كامب ديفيد ووادي عربة واتفاقية أوسلو بين مصر والأردن وفلسطين، وبين الكيان الصهيوني. وقد بلغت المديونية لدى كثير من البلدان العربية، وتدخل صندوق النقد الدولي والدوائر السياسية التي تقف خلفه، وضعا مرعبا وغير مسبوق.
وليس من شك في أننا الآن نعيش أسوأ حالاتنا، فقد تم احتلال العراق من قبل الأمريكان، وتدميره هوية وكيانا، وإعادة تأهيله محليا على أسس ومحاصصات إثنية وطائفية، وإضعاف دوره العربي. والتهديدات مستمرة بحق عدد آخر من الأقطار العربية، والحملات الإعلامية الصهيونية والأمريكية تتصاعد كل يوم، بحقنا هنا في المملكة العربية السعودية، وبحق أشقائنا في مصر وسوريا والسودان، والقائمة قابلة دائما للزيادة.
ليس هناك بد من إيقاف حالة التدهور والإنهيار في أمتنا العربية، ولا شك أن مقدمات الخروج من الأزمة الراهنة، تعيدنا إلى الجذور.. إلى أدب الكواكبي، وهو يتحدث عن عقد اجتماعي، وعن رأي حر، ومشاركة في صناعة القرار، وعن دولة يحكمها القانون، ويكون فيها المرء سيد نفسه. هذه الدولة هي وحدها القادرة على إخماد الفتن، وتحقيق السلم الإجتماعي ومواجهه التطرف والغلو ونهج التكفير، وبناء تنمية سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية متينة، وجيش قوي قادر على الدفاع عن الوطن. إن تنمية القوى البشرية، هي المدخل الصحيح للتنمية الشاملة، وبدون أن يكون هناك إنسان عربي حر، قادر على ممارسة حقوقه الأساسية بعيدا عن الضغط والإكراه. وبعيدا أيضا عن طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد، لن يكون هناك مستقبل واعد لأجيالنا.. سيستمر الليل طويلا وعاتيا.
makki@alwatan.com.sa
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-07-21
التعليقات
2000-00–0 0-:00
محمد صابر عبدالمجيد من جمهورية مصر العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية احى واقدم خالص الشكر للاستاذ الكبير على اسلوبه العذب وروحة الجادة والتى نبعت من كتابته لهذا المقال الذى يستق كل تقدير واحترام ومع اتفاقى الكامل لكل ما جاء فيها من آراء اعجبتنى وجعلتى انظر الى الامور بنظرة مختلفة لما كانت عليه نظرتى من قبل الا اننى ارى ان الحال العربى الان وصل الى مرحلة يندى لها الجبين واصبح الدم العربى دما رخيصا يهدر كل يوم دون اى وقع فى قلوبنا نحن العرب هذا الاحساس بهوان الدم العربى دفعنى الى الشعور بالرعب من مستقبل مظلم نحتاج فيه الى صلاح الدين
فالى متى ستظل الارض العربية الوحيدة التى تعانى من الاحتلال ؟؟ والى متى سوف تظل الامم المتحدة لا تجد غير العرب حتى تجرب عليهم قراراتها التى تصدر كبقا للفصل السابع من ميثاقها ؟؟؟ والى متى سيظل السيف الامريكى مسلطا عللاى رقابنا ؟؟ والى متى هذا الهوان العربى ؟