القضية الفلسطينية والمتغيرات الدولية
يبدو أن قطبا المعادلة الدولية، أمريكا وروسيا، يتحركان بسرعة، لإغلاق الملفات الساخنة العالقة، والتفرغ لملفات أخرى، تمس مصالحهما المباشرة، كقضية أوكرانيا، وحل المعضلة الاقتصادية الأمريكية المستعصية. وهناك مؤشرات، على أن مركز الجاذبية في الصراع الدولي، سينتقل من منطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي، إلى شرق آسيا.
الملفات الساخنة بالمنطقة عديدة، أهمها الصراع العربي- الصهيوني، ومكافحة الإرهاب، والأزمة السورية، والملف النووي الإيراني. ذلك لا يعني عدم وجود قضايا شائكة أخرى، كما في ليبيا والسودان واليمن، ولكنها ليست ضمن واجهة الاهتمامات الدولية.
في مجمل هذه القضايا، هناك تحرك محموم لإيجاد حلول مقبولة لها. فقد نجح مؤتمر جنيف، حول الملف الإيراني، وانتقلت العلاقة الأمريكية مع إيران من الحالة الصراعية، إلى التفاوض الدبلوماسي، وتخفيف العقوبات الاقتصادية التي فرضت، منذ قيام الجمهورية الإسلامية، على طهران.
وحول الأزمة السورية، صدرت تصريحات عديدة، لمسؤولين أمريكيين، على رأسهم، رئيس وكالة المخابرات المركزية، الذي اعترف بتعقد الوضع في سوريا، وأن ليس هناك سوى الحل السياسي للأزمة. وتصريح آخر، لوزير الخارجية جون كيري، يؤكد فيه أن النظام السوري كسب عدة نقاط بالشهور الأخيرة، وأنه متقدم في إدارته للصراع على المعارضة. كما أن انعقاد مؤتمر جنيف 2، والتهيؤ لانعقاد جنيف3 في الأيام القليلة القادمة، مؤشر على عزم الإدارتين الأمريكية والروسية، على إغلاق ملف سوريا، بالتوصل إلى حل سلمي للأزمة المستعصية، قرابة ثلاثة سنوات في هذا البلد العريق.
وليس من شك، في أن الصراع العربي- الصهيوني، وتحديدا حل المعضلة الفلسطينية، هو أصعب الملفات الساخنة، وتأثيره في المنطقة، لا يشمل دولة دون أخرى. ففلسطين، هي بحق قضية العرب المركزية، وفي الرؤية الجيوسياسية الغربية، تطبق القضية، على الشرق الأوسط برمته. ولذلك أصبح معتادا الإشارة للصراع العربي الصهيوني، في الأدبيات الغربية وأجهزة الإعلام، بأزمة الشرق الأوسط.
هذا الوعي الذي تكشف مؤخرا من قبل القوى الكبرى، بأهمية الأزمة، هو الذي حتم التعامل مع القضية الفلسطينية، جنبا إلى جنب، مع الملفات الساخنة الأخرى، بحسبان أن أي حلول عملية لأزمة الملف الإيراني، والأزمة السورية، ومكافحة الإرهاب، ستظل ناقصة، إذا بقيت القضية الفلسطينية، دون حل، تقبل به الأطراف المنخرطة في الصراع. فكثير من الانهيارات التي شهدها الجسد العربي، هي النتيجة المنطقية لعجز العالم، عن إيجاد حل، يعيد الأرض لأصحابها الشرعيين، ويؤمن الحرية والكرامة للشعب الفلسطيني المظلوم.
لقد فشلت المحاولات الصهيونية لتذويب هوية الشعب الفلسطيني، وفشلت معها تصفية القضية الفلسطينية. كما فشل التعويل على تآكل هذه القضية بالتقادم، وببروز جيل جديد من الفلسطينيين، يتنازل عن حقوقه، ويقبل بالأمر الواقع. لكن الجيل الجديد، ممثلا في أطفال الحجارة، رفع راية المقاومة عاليا، وتمسك بحقه في تقرير المصير. ولم يعد ممكنا تجاهل حقه، في إقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني.
انتهت بالخيبة، مخططات الكيان الصهيوني، لحرف بوصلة النضال الفلسطيني، عن تحرير الأرض. وفشلت الخطة الاقتصادية التحويلية، التي طرحتها أمريكا والاتحاد الأوروبي، تحت خدعة الاهتمام بالجوانب الإنسانية، بتحقيق التنمية الاقتصادية بالضفة، والتي أريد لها أن تكون بديلة عن التسوية السياسية.
تحركات وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، منذ عام، والتي تزامنت مع تغيرات في مزاج إدارة الرئيس باراك أوباما، حيال مجمل قضايا المنطقة، تأتي متماهية، مع تحركات موازية تجاه الملفات الساخنة العالقة الأخرى. لقد تكررت زيارات كيري للمنطقة، منذ توليه لمنصبه، وتمكن خلالها من حصد قبول الرئيس الفلسطيني، أبومازن، بالتنازل عن مطالبته بتجميد بناء المستوطنات الصهيونية، كشرط لاستئناف المفاوضات. ويعمل كيري بقوة لأن تصل المفاوضات مع الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى نتيجة، قبل انتهاء السقف الزمني المحدّد لها، بعد ما يقرب من مرور شهرين على هذا التاريخ، حيث حدد في ربيع العام الماضي، تسعة أشهر، للتوصل إلى اتفاقية الوضع الدائم.
تعامل السيد كيري مباشرة مع القضايا التي تسببت في تعطيل الحل السياسي، وعلى رأسها حق العودة، والمستوطنات، وعروبة القدس. ويذكر أن مشروعه التسوية، لن يكون حلا نهائيا، بل فترة اختبار، تستمر عشرين عاما، تبدأ مع انقضائها المرحلة النهائية. وستستند على قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح وناقصة السيادة فوق الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين، بالتعويض والتوطين خارج فلسطين، واستيعاب عدد محدود منهم بالدولة الفلسطينية المستقلة. ويتطلب ذلك تسوية أوضاع الفلسطينيين في المخيمات بالأردن ولبنان وسوريا. وينتظر أن يتبنى المجتمع الدولي، دمج اللاجئين في المجتمعات التي يقيمون فيها، وتجنيسهم، واعتبارهم مواطنين بالبلدان التي يقيمون فيها.
تقترح خطة كيري، تفعيل مشروع تبادل الأراضي بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، بحيث يعوض الفلسطينيون عن الأراضي التي أقام الصهاينة عليها مستوطناتهم، بأراض بنفس المساحة، من النقب ومناطق أخرى، من الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948. وتتفق الخطة، في اعتبار مدينة القدس عاصمة الكيانين الإسرائيلي والفلسطيني، حيث عاصمة “إسرائيل” بالجزء الغربي من المدينة، وتمثل المساحة الأكبر من المدنية المقدسة، والقدس الشرقية، التي تآكل معظمها عاصمة للدولة الفلسطينية المرتقبة.
أما قطاع غزة، فهناك احتمالان. الأول، قبول حماس بالتفاوض مجدد مع السلطة الفلسطينية، نتيجة لأوضاعها البائسة، بعد سقوط حكم الإخوان في مصر، والعزلة التي تعاني منها، وبسبب فقدانها لمواقع سياسية كثيرة، بما يسرع في تحقيق الوحدة الفلسطينية، وذلك ما سوف يجعل التحاق القطاع بخطة كيري للسلام، أمرا بديهيا.
الاحتمال الآخر، تدهور أكثر لعلاقة حماس بالحكومة المصرية، بسبب وقوف الحركة سياسيا وعمليا مع جماعة الإخوان المسلمين المنحلة في مصر، بما يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية، وتعديا مباشرا على السيادة المصرية. وقد يجد الجيش المصري نفسه مجبر، أمام تصاعد عمليات التخريب في سيناء، على اجتياح القطاع، وفي هذه الحالة، سيوضع قطاع غزة، كما كان قبل حرب حزيران 1967، تحت الإدارة المصرية.
وقت إعلان نجاح أو فشل خطة كيري في حل القضية الفلسطينية ليس ببعيد، وليس علينا سوى الانتظار…