الفن والإنسان: “الصبية تضي ليلك ياعراق” نموذجا
بمنعطف فريد ومتميز من نوعه، في تاريخ المنطقة العربية، حيث تتصاعد المطالبات بالإصلاح السياسي، وتطل عواصف التغيير في تونس ومصر، منبئة بتحولات مفصلية وجذرية، سياسية واجتماعية في هذا الجزء من العالم، يتدافع البشر بقوة، نحو متابعة الأحداث وهي تتوالى بشكل دراماتيكي غير مسبوق، ويتسمرون أمام شاشات التلفاز، لكي لا يفوتهم شيء من كرنفالات ومهرجانات التغيير. وفي خضم المتغيرات السريعة المتتابعة، تختفي صور،
كانت حتى وقت قريب، تحاصرنا بعنف وتبرز أخرى. ولا يكون أمامنا سوى القفز باستمرار إلى الأمام، لنتمكن من متابعة ما يجري من حولنا، دون أن تتيح لنا سرعة تداعيات ما يجري، فسحة للتأمل والقراءة والتحليل.
وبديهي، أن الصور الأخيرة للمشهد، هي التي تظل عالقة بالذهن وحاضرة في الفكر والوجدان، ليس فقط لأنها الأحدث، ولكن بسبب تميزها وفرادتها وقوة جاذبيتها، وأيضا بسبب ارتباطها بالمبادئ والطموحات وألام المخاض وآمال الولادة التي تعبر عنها.
إن ذلك يعني أن علينا، إذا ما أردنا أن نقرأ الدوافع التي تقف وراء التحولات التاريخية المتسارعة، بشكل صحيح، والتي تنساب بشكل مطرد من حولنا، أن نمارس عملية تحييد للصور التي انسابت بكثافة مؤخرا، رغم أهميتها وقوة تأثيرها، وأن نقوم بعملية استرجاعية، لتداعيات الأحداث، لكي نتمكن من قراءتها بعمق وشمولية. وتلك مسؤولية لا مناص من تحملها، لكل من يضع نفسه في موضع القاريء والمحلل.
على أن القراءة الدقيقة لتداعيات هذه اللحظة، لن تكون مكتملة، إن هي لم تمارس الغوص، فيما جرى من تدافع وغضب واحتقان، شمل المنطقة بأسرها، دون استثناء، في العقود الأخيرة، منذ اغتصاب الصهاينة لفلسطين، إلى احتلال العراق والمحاولات المستمرة لتفتيت الوطن العربي، كما هو الحال الآن في الصومال والسودان واليمن.
ولعلنا لا نتجاوز الواقع كثيرا، حين نؤكد أن مرد حالة الغضب والاحتقان والثورات، هو عجز الأنظمة العربية، عن مقابلة الاستحقاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لشعوبها، وأيضا عجزها عن مواجهة المشروع الاحتلالي الاستيطاني الصهيوني، ومشروع الهيمنة الأمريكي، على المنطقة، الذي عبر عن نفسه بشكل همجي ووحشي صفيق في احتلال عاصمة الرشيد عام 2003.
في هذا السياق، تسهم الفنون بمختلف تفرعتها، وفي المقدمة منها، الفن التشكيلي، جنبا إلى جنب، مع العمل الأكاديمي التحليلي في استحضار الصور الاسترجاعية، لعوامل الاحتقان والغضب، وتوجهه نحو عمل إيجابي وخلاق. إن هذا الحضور، هو الذي يميز الفن الملتزم عن غيره من الفنون، من حيث ارتباط الإلتزام بقضية الإنسان.
يجسد معرض الفنانة التشكيلية السعودية المبدعة، منيره موصلي، الذي يفتتح اليوم في مملكة البحرين، في قاعة البارح للفنون التشكيلية بالمنامة، تحت عنوان “الصبية تضيء ليلك يا عراق”، نمودجا حيا لارتباط الفن بنضال الإنسان، لكسر قيوده، والتحرر من الاحتلال. فليل العراق، الذي استمر لما يقرب من سبع سنوات، هي عمر الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي جرى تفتيت أرض السواد على إثره إلى محاصصات بين الاثنيات والطوائف، تعيده الفنانة إلى الذاكرة، من خلال اللون والنحت، بعد أن تراجع دور الإعلام في تغطيته لما يجري بأرض السواد، تحت وطأة العواصف المزلزلة لالوطن العربي الكبير.
إن الفنانة المبدعة موصلي تقدم من خلال قراءة استرجاعية، عبر ريشة عرفت بقدرتها الفائقة على التشريح والتفكيك وإعادة التركيب، قراءة نوعية ومغايرة للحدث، بلغة تخاطب القلب والضمير. ومن خلال إعادة تركيب الصور، والتركيز على ليل العراق الطويل، تفتح لنا آفاقا جديدة لوعي طبيعة ما يتداعى من أحداث عاصفة في هذه اللحظة في عموم المنطقة.
تختار الفنانة الوطنية، التي عرفت بانتمائها العميق للأرض، وعشقها اللامحدود لقضية الإنسان، موضوع الاحتلال الأمريكي والجرائم الوحشية التي ارتبطت به موضوعا للانطلاق لوعي الحاضر. وتتخذ من أطفال العراق، مركزا للانطلاق. وذلك باليقين، أمر مشروع، فالأطفال هم المستقبل، وهم أمل الأمة في النهضة والتطور. وحين تهدر حقوق الطفل وتمتهن كرامته، فلا أمل ولا رجاء في حاضر أو مستقبل.
إن وعي حقيقة ما جرى في العراق، من انتهاكات للحقوق، ونفي لآدمية الإنسان، تحسمه الفنانة موصلي بالتزام، ينتمي إلى واقعية جديدة، من خلال التحريض على الغضب ومناهضة جرائم الاحتلال، والإسهام في بث الوعي، بتوظيف ذكي لحادثة الطفلة الشهيدة عبير الجنابي، ابنة الأربعة عشر ربيعا، التي اعتدى عليها جنود أمريكيون، عام 2006م، بالاغتصاب والقتل.
إن الطفلة عبير، في عمل موصلي المبدع، هي رمز لمعاناة كل طفل عراقي. ذلك أنه رغم البشاعة والترويع الفاضح، الذي تبدى في استشهاد هذه الطفلة، فإنها ليست الوحيدة في مسلسل الرعب وامتهان كرامة النوع الإنساني، من قبل جنود الاحتلال الأمريكي، وعصابات القتل على الهوية. لكن هذه القضية بالذات، حظيت بتغطية إعلامية واسعة، على مستوى العالم بأسره. وقد أتاح ذلك للفنانة موصلي إمكانية فذة لصياغة الحدث، ووضعه في قالب فني مؤثر.
فالصبية عبير، كما تمثلتها الفنانة، شأنها شأن الصبايا العراقيات الأخريات، مشعل أمل للتغيير.. إنها تمارس ذات الدور، حتى بعد رحيلها، محرضة على الكفاح واستعادة العراقيين لعراقهم، العربي المحرر من قيود الظلم والاحتلال والعبودية، بعد دحر جيوش التفتيت والطائفية. إن عبير تمثل طائر الفنيق، يحترق وتذروه الرياح، ويبعث من جديد في دورات لا تنتهي، مرفرفا بجناحيه فوق سومر وبابل، والأنبار، مستعيدا صور ذي قار والقادسية. وعبير أيضا بالنسبة للفنانة، موصلي، هي عشتار، إلهة الحب والجمال والخصوبة، ترحل وتعود، كما يعود موسم الربيع، وكما ينتظر الصغار ببهجة ومرح مواسم الحصاد.
والمعرض هو في المبتدأ والخبر، تعبير واع وخلاق عن التلاحم بين الفن وقضية الإنسان.