الفصل الرابع حول أسباب تداعي مسيرة العمل القومي العربي
بدأت ملامح حركة القومية العربية بالتشكل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بلاد الشام كرد فعل غاضب على النهج العنصري الذي مارسه الأتراك بحق العرب. وقد تمكنت هذه الحركة، عن طريق التحالف مع البريطانيين والفرنسيين، من طرد الإستعمار التركي من الوطن العربي. إلا أن نتائج الحرب العالمية الأولى، وما أفرزته من اتفاقيات ومعاهدات وضعت المشرق العربي من جديد تحت هيمنة قوى استعمارية أشد شراسة وأكثر فتوة، هي قوى الإستعمار الغربي. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك مواصلة الكفاح الوطني لإنجاز الإستقلال. وفي الخمسينيات، كانت معظم الأقطار العربية قد أنجزت استقلالها، وبدأت حركة القومية العربية سعيها للنضال من أجل تحقيق الوحدة. لكن هذه الحركة واجهت انتكاسات قاسية ومريرة عطلت من قدرتها على تحقيق برنامج النهضة العربية.
يهدف هذا الفصل إلى مناقشة موضوع الإنكسارات والهزائم التي منيت بها حركة القومية العربية، والتي أدت إلى حالة التداعي الراهنة في مسيرة النهضة العربية. وسنقصر موضوعنا هذا على مناقشة ثلاث قضايا رئيسية نعتقد أنها كان لها الدور الأساسي في تداعي مسيرة العمل الوحدوي العربي، هذه القضايا هي:
1- ضعف التشكيلات الإجتماعية في الوطن العربي
2- زيادة انتاج النفط والتصحيح النسبي في أسعاره
3- المعالجات القطرية لقضايا الأمن القومي العربي
إن الإقتصار على مناقشة تأثيرات هذه القضايا دون غيرها إنما ينبع من الإقتناع بأن عوامل التداعي الأخرى هي عوامل ثانوية منبثقة من هذه الثلاثة ومرتبطة بها، ولهذا فإن التعرض لها سيأخذ مكانه ضمن سياق تحليل هذه العوامل.
مسلمات نظرية
قبل الشروع في تحليل الأسباب التي أدت إلى تداعي مسيرة العمل القومي العربي، نسجل بعض المسلمات النظرية، مستوحاة من معطيات التحولات الإجتماعية الرئيسية في العصر الحديث، علها تشكل بوصلة في هذا التحليل.
إن تحقيق الوحدة العربية هي طريق العرب الوحيد للإنتقال من واقع التخلف الراهن إلى مجتمع التقدم والتنمية. وهذا يعني إعادة تشكيل الخارطة السياسية والإجتماعية للوطن العربي، ونقل مجتمعه من وضع عشائري شبه إقطاعي إلى مجتمع مدني صناعي حديث متطور.
إن أهم معطى يقدمه لنا تاريخ التحولات الرئيسية الإجتماعية أن التغيرات الدراماتيكية والحاسمة لا تتم عبر تطورات تدرجية، وإنما من خلال وثبات نوعية يصاحبها في الغالب غليان ونهوض وعنف، تندفع في صخبها الفئات المحرومة التي تجد في تلك التحولات خلاصا وتحريرا لها. والوحدة العربية المنشودة، باعتبارها تحولا اجتماعيا رئيسيا، لن تتحقق من خلال بنى فوقية، أو عن طريق اتفاقيات وتنسيق بين الحكام، حالها في ذلك حال التغيرات الإجتماعية الكبرى في التاريخ الإنساني.
إن التحولات الإجتماعية الكبرى في أهم مقولاتها، تعبير عن مصالح فئة أو طبقة اجتماعية، تجد في الواقع القائم معوقا لانطلاقتها ولمصالحها. كما تجد فيه حرمانا لها من التعبير عن وجودها. هكذا كانت مسيرة الإنسانية دائما وأبدا.. كانت الثورتان الإنجليزية والفرنسية تعبيرا عن التناقض بين سلطة الكنيسة والنظام الإقطاعي من جهة، وصعود الطبقة البورجوازية وتدشين الثورة الصناعية، وتحالف العمال والفلاحين وجموع الشعب المسحوق مع الطبقة الجديدة، الرأسمالية الفتية من جهة أخرى. كما كانت الثورة الروسية تعبيرا عن حالة الجوع والحرمان وفوضى الحرب التي سادت البلاد أثناء الحرب العالمية الأولى، وقد استثمر الحزب الشيوعي تلك الحالة لتحقيق أهدافه في بناء الإشتراكية بقيادة زعيمه فلاديمير التش لينين. أما الثورة الصينية فكانت تعبيرا عن سخط الفلاحين من ظلم الإقطاع.
إن وجود الطبقة الإجتماعية التي يعبر التحول الإجتماعي عن مصالحها شرط رئيسي من شروط تحققه. هكذا قادت البورجوازية الصاعدة الثورة الفرنسية، والحرب الأهلية الأمريكية بين الولايات الجنوبية، ممثلة للإقطاع والولايات الشمالية ممثلة للبورجوازية الفتية. وكان الحزب البلشفي طليعة للعمال في الثورة الروسية، كما قاد الحزب الشيوعي الثورة الصينية ممثلا للفلاحين. والواقع أن الفلاحين كان لهم الدور الأساسي في تلك الثورة، وبشكل خاص في مراحلها الأولى، حيث تم الإستيلاء على منطقة هيونان من قبلهم ووزعت أراضيها فيما بينهم. كما تمت محاكمة رجال الإقطاع دونما قيادة أو مشاركة أو توجيه من قبل الحزب الشيوعي الصيني.
لا بد من تجانس مقولات الطبقة الإجتماعية، في التحول المطلوب، ولو مرحليا، مع مطالب الغالبية العظمى من الشعب، كي تتمكن هذه الطبقة من تحشيده وإقحامه معها في معاركها، حتى تحقق التفاف المواطنين حول مشروع التغيير الإجتماعي. هكذا كانت شعارات الثورة الفرنسية: الحرية، الإخاء، المساواة، وقد كانت تلك الشعارات مطالب شعبية، استطاع قادة الثورة تحشيد الجمهور حولها. وكان شعار ابراهام لينكولن أثناء الحرب الأهلية الأمريكية التمسك بتحرير العبيد وتحقيق انعتاقهم. وكانت الإشتراكية وتوزيع الأراضي على الفلاحين وإيقاف الحرب وتحقيق التنمية الشاملة وسلطة السوفييت الشعارات التي وضعت الشعب الروسي بأسره خلف ثورة أكتوبر الإشتراكية. كما كان تحرير الصين وتحقيق الديموقراطية الشعبية والقضاء على الجوع وتوزيع الأراضي على المزارعين هي شعارات الثورة الصينية.
إن مشروعية أي نظام سياسي، وضمان استمرارية وجوده تكمنان في قدرته على توفير الأمن والحماية لمواطنيه، وفي مقدرته على الدفاع عن الأرض والإستقلال والسيادة. ففشل أي نظام سياسي في مواجهة العدو الخارجي على حدود بلاده يعني عدم أهليته للإضطلاع بمسؤولياته، مما يجعل أوضاع هذا النظام عرضة للإهتزاز وعدم الإستقرار ويفقده مشروعيته.
كذلك لا يكفي أن تتجانس مقولات النظام السياسي أو الطبقات المهيمنة على السلطة مع مطالب الجمهور، وإنما يجب أن يمتلك هذا النظام أو الطبقة المقدرة على وضع مقولاته/ مقولاتها موضع التتنفيذ على أرض الواقع، ذلك أن جزءا كبيرا من مشروعية أي نظام سياسي تكمن في قدرته على تطبيق شعاراته والأهداف والبرامج التي يحشد الجمهور من حولها.
إن التغيير الإجتماعي ليس تعبيرا عن مصالح طبقية واجتماعية معينة فحسب، وإنما هو أيضا تعبير عن أيديولوجيات وتوجهات تتجسد في جملة من الممارسات والتقاليد الإجتماعية. ولهذا فإن التحولات الإجتماعية الكبرى في التاريخ ليست انتقالا في مراكز المصالح فحسب، بل هي أيضا، تغيير في البنى والتقاليد والهياكل الإجتماعية، بحيث تستجيب جميعها لمصالح الطبقة الصاعدة التي تتم التحولات لصالحها.
إن هناك علاقة ترابط وتكامل بين مفهوم الوحدة العربية ومحاولة نقل المجتمع العربي من مجتمع زراعي تقليدي إلى مجتمع صناعي متقدم، بحيث يكون نجاح أحدهما متوقفا تماما على نجاح الآخر، وحيث تغدو عملية الفصل في النضال لتحقيق أحدهما مهمة شاقة وعسيرة، إن لم تكن مستحيلة. وخير مثال على ذلك، محاولة محمد على باشا خلق جيش وطني وصناعة متينة في القطر المصري، وارتباط تلك المحاولات بضم بلاد الشام والجزيرة العربية إلى كيان دولته، والتضامن الإوروبي التركي عام 1840م، للقضاء على تلك المحاولة. وكذلك ارتباط المد القومي الوحدوي بمصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعملية التنمية الإجتماعية في هذا القطر، ومحاولات العدوان الإستعمارية المتكررة لإجهاض تلك التجربة، في حرب السويس1956م وعدوان حزيران/ يونيو عام 1967م.
لقد أدرك محمد علي باشا أن تمصير مصر وخلاصها من الهيمنة التركية لن يتما إلا بتبني طريقين: الأول، التحديث والإنفتاح على المنجزات العلمية الأوروبية في عصره. والآخر، خلق امبراطورية عربية. وهكذا فإن استقلال مصر وحداثتها لا يتحققان إلا عبر ارتباط وثيق بالوطن العربي. “أما مصر المعزولة داخل حدودها الإقليمية فمآلها الحتمي الهزيمة والإنحدار”.[1]وكذلك كان عبد الناصر في تصوره للوحدة العربية، فقد رأى أن تقدم الأمة العربية وهزيمة إسرائيل والقضاء على المرتكزات الإستعمارية في المنطقة ل تتم إلا بالتنمية وتحقيق الوحدة العربية.
من هذه المسلمات سننطلق في تحليل الأسباب التي أدت إلى الإنكسارات والهزائم التي منيت بها قضية الوحدة العربية، منذ عصر النهضة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، والتي أدت إلى انحسار المد القومي العربي وتداعي نشاط الحركة القومية على امتداد الساحة العربية.
أولا: ضعف التشكيلات الإجتماعية في الوطن العربي
تميز هذه المناقشة بين مرحلتين تاريخيتين في مسيرة العمل القومي العربي. الأولى، تبدأ منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. أما الثانية، فقد بدأت طلائعها بالبروز منذ مطلع الثلاثينيات، بالغة أوج قوتها وعطائها مع نهاية الخمسينيات، ومؤشرة بداية انحسار دورها مع قيام حركة الإنفصال في سوريا أيلول/ سبتمبر عام 1961م، ومؤذنة بهزيمتها مع نكسة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967م.
ولعل من الضروري الإشارة إلى أن التمييز بين هاتين المرحلتين إنما يهدف إلى التركيز على خصوصية كل مرحلة من حيث إفرازاتها الإجتماعية، وتأثيرات تلك الإفرازات في التطورات اللاحقة التي حكمت مسيرة العمل الوحدوي العربي وأودت به إلى حالة العجز الراهنة.
أخذت المرحلة الأولى لحركة القومية العربية مكانها في الواقع العربي كرد فعل غاضب على النهج العنصري الذي مارسه الإستعمار التركي بحق العرب، خاصة اصلاحات التنظيمات الإدارية عام 1839م، وتوجهات حركة تركيا الفتاة التجديدية في العام نفسه، والتي كان بين نتائجها التأكيد على خلق نزوع شوفيني تركي معاد للتقاليد الدينية الإسلامية.
ويلاحظ أن شعارات الحركة القومية في هذه المرحلة اقتصرت في التركيز على النضال من أجل تحقيق استقلال البلدان العربية من الحكم العثماني، مكتفية بالتأكيد على أهمية الوقفة العربية في مواجهة الذوبان والإضطهاد العنصريين، والتركيز على بعث التراث العربي، دون أن تضع برنامجا عمليا لوضع هذه الشعارات موضع التنفيذ، ودون أن يصاحب تلك النضالات أية مضامين اجتماعية متقدمة.
وحتى حين دعت تلك الحركة إلى الوحدة العربية، كما حدث في مؤتمر اليقظة العربية في باريس، فإن شعاراتها لم تخرج عن حيز العموميات، ولم تصل إلى حد صياغة استراتيجية محددة، وبرنامج عملي واضح لتحقيق هذا المشروع.
ومن جانب آخر، يوضح لنا كتاب اليقظة العربية لجورج أنطونيوس[2] أن حركة اليقظة العربية لم تكرس اهتماماتها على تحشيد الجماهير والزج بها في النضال للتخلص من الهيمنة العثمانية، بل رسمت استراتيجياتها وتكتيكاتها معتمدة على حسن نوايا الحلفاء البريطانيين لتحقيق أهدافها، وأن مشروع النهضة العربية لم يتعد الدعوة للرجوع إلى التاريخ والتراث العربي… لم يكن هنالك برنامج نضالي عملي يعتمد الثقة في الطاقات اللا محدودة للشعب، ولم يكن في حسابات قادة هذه الحركة أن يكون الشعب مصدر الثورة والتغيير.
لقد جرى الإعتماد في تحقيق أهداف حركة الإنبعاث القومي بالدرجة الأساس على المتغيرات السياسية الدولية، وعلى الصراعات الدائرة آنذاك بين الدول الأوروبية الفتية، والرجل المريض في الأستانة. ونتيجة لذلك، لم يحمل مشروع التحرر من الهيمنة التركية برنامجا للنهوض الإجتماعي والحضاري، ولم يتضمن أي تصور عن طبيعة المجابهة المحتملة مع الإستعمار الغربي بعد إلحاق الهزيمة بالمستعمر التركي.
ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى ضعف التشكيلات الإجتماعية للقوى التي قادت مسيرة الحركة القومية آنذاك.
إن واحدة من أهم المعطيات التي تقدمها لنا قراءة التاريخ الإنساني عبر مسيرته الطويلة أن التحولات والثورات الإجتماعية الكبرى في أهم مقولاتها تعبير عن مصالح قوى اجتماعية رئيسية، وأن وجود الطبقة التي يعبر التحول الإجتماعي عن مصالحها، وقيادتها لهذا التحول شرط من شروط تحققه.
هذا يعني أن أية محاولة لتقييم النتائج التي أدت إلى انتكاسة العمل القومي العربي في تلك المرحلة يجب أن تنطلق أولا من قراءة الخارطة الإجتماعية، ووعي الظروف التاريخية والسياسية، التي أفرزت القوى التي قادت مسيرة الحركة القومية. ذلك أن التجانس بين هذه القيادات وشروط التغيير المطلوب تحقيقه أمر جوهري وأساسي لنجاح الحركة.
وبناء على ذلك يغدو مهما تحليل الأوضاع الإقتصادية التي نشأت في ظلها حركة العمل القومي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي هذا سنستعين بالدراسة التي قدمها سمير أمين تحت عنوان “التطور اللا متكافئ- دراسة في التشكيلات الإجتماعية المحيطة”.
فقد أشار إلى أن سيطرة القوى الإجتماعية غير المهيأة تاريخيا للعب الدور القيادي الوطني الذي اضطلعت به أدى إلى أن تنتهي جميع محاولات الشعب العربي للتحرر من الهيمنة الأجنبية إلى الفشل، مشيرا في ذلك إلى مجموعة من الهزائم: 1882 بالنسبة لمصر، فترة 1830- 1911 بالنسبة للمغرب، عام 1911 بالنسبة للمشرق العربي[3].
ويوضح سمير أمين الظروف التي أدت إلى تلك الهزائم، فيشير إلى أنها مرتبطة بصعود الطبقة المتوسطة المؤلفة من المشايخ والحرفيين وبقايا النظام التجاري السابق… لقد قام الإنبعاث العربي في القرن التاسع عشر في مركزين رئيسيين هما مصر وسوريا، اللذين كانا ضحية الغزو الإقتصادي الإمبريالي. ففي مصر جاءت الجيوش الأوروبية لإنقاذ السلطان العثماني بعد أن هزمت جيوشه أمام جيش محمد على باشا فارضة على الباشا المصري قبول الإستسلام، واضعة بذلك حدا لأول محاولة جدية للتصنيع في الوطن العربي. وقد تخلى أحفاد الباشا منذ عام 1848-1882 عن هذا التوجه الإستقلالي. فقد بدأ الخديوي اسماعيل وضع حجر الأساس في اتجاه تحقيق تبعية بلاده للغرب الإمبريالي، حين أغرق مصر في كثير من الديون للدول الإستعمارية الغربية آملا بذلك أن تعمل معونة الرأسمال الأوروبي على تحديث مصر وجعلها كأوروبا، وذلك عن طريق اندماجها في السوق العالمية بالتركيز على زراعة القطن، ودعوة البيوتات العالمية الأوروبية لتمويل هذا التطور الموجه نحو الخارج.
وضمن هذا التوجه، أقدمت الطبقة الحاكمة في مصر على تغيير البنيان الإجتماعي، وذلك عن طريق الإستيلاء على ملكية الأرض بمساعدة الدولة، متحولة بذلك من دولة بيروقراطية هدفها تسيير شؤون الحكم إلى طبقة من الملاكين[4].
وعلى الرغم من أن الطبقة الحاكمة في مصر تحولت إلى طبقة إقطاعية إلا أنها لم تتبن أنماط الإقطاع وتقاليده التي كانت سائدة في أوروبا، وذلك أن الإقطاع في أوروبا كان مستقلا بذاته، ولم يكن جزءا من النظام الإقطاعي العالمي. أما التحول الذي حدث في النخبة الحاكمة المصرية فإن أفضل وصف له أنه تحول إلى رأسمالية زراعية، يتوقف غناها على السوق العالمية، وذلك بعد أن تم تحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى مزرعة قطن لمصانع النسيج في لانكشاير… لقد كان هذا الإقطاع الجديد خاضعا لحاجة الإقتصاد العالمي الرأسمالي منذ نشأته، وهكذا بقي أمينا على علاقته بالقوى الرأسمالية الأوروبية، يتمتع بحمايتها من جهة، ويترك أبواب الوطن مشرعة لنهبها وعربدتها من جهة أخرى.
أما الفئات الوسطى، المتواجدة في المدن، والمؤلفة من المشايخ والحرفيين وبقايا العالم التجاري، والفئات الريفية والوجاهات، فتصرفت بشكل آخر… لقد شعرت بعمق، كوريث للثقافة التقليدية بخطر الإستعمار كمدمر لقيم حضارتها، وأدركت منافسة السلع المستوردة، فرفضت السيطرة الأوروبية بعد أن خيب ظنها الخديوي والأرستقراطية التركية والشركسية، وبدأت هذه الفئات تعيد التفكير في قضية تأمين بقائها ووجودها القومي. ومنذ عام 1860م، غدت هذه الفئات قاعدة الإنبعاث في مصر، وقد تمكنت من تحقيق بعض النجاحات، كبعث اللغة وتكييفها تكييفا جديدا منسجما مع متطلبات التجديد الثفافي والتقاني وإيقاظ الروح النقدية[5].
وفي سوريا، القطب الثاني في حركة الإنبعاث في القرن التاسع عشر، فإن دور الطبقات الأروستقراطية فيها بدأ في التضاؤل إثر تدمير مواقعها البحرية في الحروب الصليبية. لقد مكنت تلك الحروب الأوروبيين، والمدن الإيطالية بشكل خاص، من السيادة على التجارة البحرية المتوسطية. كما أن انفتاح الطرق الأطلسية ورأس الرجاء الصالح أدى إلى تقليص الدور التجاري للهلال الخصيب. وكان من نتائج ذلك أن فقدت المدن الرئيسية نخباتها الإجتماعية البارزة التي اضطلعت بأدوار سياسية مهمة من قبل، مفسحة المجال للعناصر شبه الشعبية المنحدرة من الفئات الوسطى من حرفيين ومشايخ وأدباء أن تحل محلها[6].
ومنذ القرن التاسع عشر سرع تطور الرأسمالية الأوروبية، وعدم تمكن السلطة العثمانية من حماية الوطن العربي من التسرب الإمبريالي، في انحطاط الإنتاج في الشرق العربي نتيجة توافد القطنيات الإنجليزية. ثم دخل بعد ذلك الرأسمال التمويلي الأوروبي عن طريق الديون العثمانية التي كانت تمتص في عام 1874م أربعة أخماس ميزانية الباب العالي، والذي كانت استانبول تواجهه عن طريق زيادة خراجها المفروض على الأراضي التابعة لهيمنتها. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كان 80% من ميزانيات ولايات سوريا وبلاد الرافدين يذهب إلى الباب العالي في شكل خراج، و20% فقط مكرس للمصروفات المحلية وللإدارة، يضاف إلى ذلك، دخول الرأسمال الأوروبي المباشر وعجز الرأسمالية المحلية عن التنافس مع رأس المال الأجنبي[7].
لقد أدت كل تلك العوامل، مضافا إليها تداعي العملية الإنتاجية وضعفها، إلى اضمحلال دور البورجوازية المحلية وبروز دور الطبقات الوسطى في قيادة النضال للتخلص من الهيمنة التركية.
وتتأكد صحة هذا التحليل إذا ماجرى تتبع قائمة أسماء الشهداء الذين تم تنفيذ حكم الإعدام بهم على يد جمال باشا، فمعظمهم من النخبة المثقفة التي تنتمى إلى الطبقة الوسطى، وقد أتيح لكثير منهم إكمال تعليمهم الجامعي في بلاد أوروبا خاصة فرنسا، وهناك انفتحوا على الفكر الإنساني وتأثروا بمبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة، وعادوا إلى وطنهم يبشرون بأمة عربية واحدة ووطن حر خال من السيطرة الأجنبية.
كان هؤلاء يؤمنون بأن طريق العرب للتقدم هو الوحدة، حالهم في ذلك حال الشعوب الأخرى التي استطاعت تحقيق وحدتها، مع فارق جوهري وأساسي هنا هو أن الوحدة في أوروبا قد ارتبطت بانبثاق عصر النهضة وصعود البورجوازيات الفتية إلى السلطة، بينما هي في الوطن العربي مرتبطة بتداعي قوى البورجوازية العربية… إن القومية الأوروبية ولدت في السوق بينما ولدت حركة الإنبعاث القومي العربي وهي تصارع ضد السوق.
ومع كل عوامل الضعف، كانت الطبقات الشعبية العريضة في المشرق العربي تحشد قواها حول قضيتي الإستقلال والوحدة. وكانت قوافل الرجال الشجعان تنخرط في صفوف الثورة العربية لتحقيق هذين الهدفين العظيمين. غير أن هذه الجماهير لم تستطع أن تمارس دورا قياديا في هذه الحركة في تلك المرحلة، بسبب ضعف التشكيلات الإجتماعية القديمة، وضعف مقاومتها أمام الغزو الرأسمالي الحديث.
فانهيار البورجوازية المحلية أدى بالتالي إلى تناقص التراكم المحلي وانخفاض فرص العمل والإنتاج بالنسبة إلى الطبقات الشعبية، كما أدى إلى تعذر نشوء طبقة بورجوازية تامة، وطبقة عاملة حقيقية. وهكذا، لم يبق في الساحة قوة اجتماعية قادرة على فرض وجودها آنذاك غير الطبقة المتوسطة، وهكذا كان..
إن قيادة الطبقة المتوسطة للنضال القومي يعني فرض توجهاتها وتقاليدها وأنماط سلوكها على الحركة القومية. وهذه الطبقة، كما هو معروف عنها تاريخيا، وكما توحي تشكيلاتها: مشايخ وحرفيون وبقايا العالم التجاري وبعض الوجاهات الفردية في الأرياف، هي تشكيل غريب ومشوه وغير متجانس لعناصر تتداخل مصالحها بالضرورة مع كبار الملاكين المتحالفين بدورهم مع الاحتكارات الأجنبية. وقد ترك هذا التناقض بين مصالح هذه العناصر وبين قيادتها النضال القومي بصمات واضحة على مسيرة العمل القومي. كانت هذه الطبقة، في ظل الهيمنة العثمانية، تراقب احتضار النظام القائم، ذلك الإحتضار الذي لم يكن مرتبطا بنمو قوى اجتماعية فتية جديدة في الواقع العربي، لكنه كان مرتبطا إلى حد كبير بصعود كاسح ومدمر للإقتصاد الإمبريالي الغربي. وقد عكس هذا الواقع نفسه على طبيعة التحالفات التي حققتها هذه الطبقة مع النظام الإمبريالي العالمي والقوى الإجتماعية الأخرى.
إن كون هذه الطبقة تمثل الوسط في النسق الإجتماعي جعل مواقفها عرضة للمراوحة من الأسفل إلى الأعلى، والعكس صحيح. فهي ضد الإحتلال التركي للوطن العربي، وهي مع الثقافة التقليدية التي ترفض الإستعمار كمدمر لقيم حضارتها، وهي تقود الجماهير العربية، وتعدها بمواصلة النضال معها حتى يتحقق هدف الوحدة العربية، لكنها في الوقت نفسه تتصل سرا بالحسين، شريف الحجاز، وتعده بتتويجه ملكا على المشرق العربي بعد أن تتم هزيمة العثمانيين.
لقد أدت الطبيعة المحافظة لهذه الفئة الإجتماعية إلى عدم الثقة بالشعب وبقدراته، وإلى إقامة التحالفات مع القوى الغربية، فكانت نتيجة ذلك تمكن الدبلوماسية الإنجليزية من كسب تأييد حركة المد القومي وخداعها الذي تكشف للعرب على إثر وضع اتفاقية سايكس بيكو موضع التنفيذ، تلك الإتفاقية التي قسم بموجبها المشرق العربي بين الإنجليز والفرنسيين، وكان الطرف العربي الوحيد المستفيد من تلك التحالفات هما ملكا الوصاية الإنجليزية: فيصل الأول الذي سمي ملكا على العراق، وأخوه عبد الله الذي أصبح ملكا على شرق الأردن.
أما البورجوازية الوسطى، فإن تلقيها الضربة التي وجهها لها الإستعمار البريطاني جعلها محاصرة بمختلف وسائل الإحباط، ولم تستطع تجاوز تلك الصدمة، بل إنها، بحكم تركيبتها الإجتماعية، كونها تنحدر من فئات اجتماعية متخلفة في أسلوب الإنتاج وعلاقاته، وبحكم نشأتها، كونها ولدت في ظل القهر الأجنبي والأنظمة الثيوقراطية، تمادت في تحالفاتها السابقة مع الفئات العليا من أشباه الإقطاعيين وكبار البورجوازيين، كما وثقت من روابطها مع الإستعمار وأعوانه، بدلا من أن تتجاوز تلك الصدمة[8].
وقد برزت مواقفها جلية في توقيعها معاهدة 1936م مع الإستعمار البريطاني في مصر، وفي غضها الطرف عن حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين منذ مطلع العشرينيات تمهيدا لإقامة الكيان الصهيوني، وفي توقيعها على معاهدة بورتسموت في العراق، وفي نظرتها المزدرية للجماهير التي لخصها الزعيم المصري سعد زغلول بـ “أن العرب هم مجموعة من الأصفار”[9].
هكذا فشلت المرحلة الأولى من مراحل النضال القومي، مفسحة المجال لمرحلة أخرى جديدة كي تأخذ مكانها في التاريخ.. فلم يعد أمام الجماهير العربية التي ربطت مصيرها بالنضال من أجل الإستقلال والتحرر القومي سوى مواصلة الكفاح. وكانت معركتها هذه المرة مع الإستعمار الغربي وحلفائه، أولئك الحلفاء الذين تنكروا للمبادئ التي رفعوا رايتها في مواجهة الإستعمار التركي.
وهكذا أيضا، استمر النضال في الوطن العربي في ما بين الحربين العالميتين. وكانت ثورة تموز/ يوليو 1952م في القطر المصري أول إشارة نصر على هذا الطريق، ومن ثم تبعتها مجموعة سريعة من المتغيرات السياسية على الساحة. فقد تم تأميم قناة السويس، ورد العدوان الثلاثي الغاشم على أعقابه، وتحققت وحدة سوريا ومصر، وقامت ثورة 14 تموز/ يوليو 1958م وقضى على حلف بغداد في العراق، وتمكن الشعب العربي في اليمن الشمالي من القضاء على النظام الإمامي في ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1961م، وانتصرت ثورة الشعب العربي المسلحة في الجزائر، واشتعلت الثورات المسلحة في عمان واليمن الجنوبي واريتريا، وجرى تأميم النفط في عديد من الأقطار العربية. وكان بعض من الأقطار العربية قد تمكن من إنجاز استقلاله السياسي إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية. لكن جميع هذه المتغيرات الإيجابية لم تعبر عن ذاتها بقيام الوحدة العربية على الرغم من كل المحاولات والمعاهدات والمواثيق، بل لقد انتكست أول تجربة وحدوية عربية. وعلى الرغم من مرور ما يقارب أكثر من أربعين عاما على تدشين تلك التجربة، فإن تجربة أخرى مماثلة لم تر النور حتى يومنا هذا. فلماذا لم يتمكن العرب حتى الآن من تحقيق حلمهم في الوحدة العربية؟.
وهنا أيضا تقتضي الإجابة، كما جرى في تقييم المرحلة الأولى للإنبعاث القومي، قراءة دقيقة لطبيعة القوى الإجتماعية التي قادت العمل القومي العربي منذ مطلع الخمسينيات، مرورا بنكسة الخامس من حزيران/ يونيو وحتى يومنا هذا، ووعي الظروف التاريخية والإقتصادية التي حكمت مسيرتها.
ومما لا شك فيه أن معظم المتغيرات السياسية التي حصلت في الوطن العربي، بدءا من الخمسينيات، كانت نتيجة انقلابات عسكرية قادها ضباط برتب صغيرة ومتوسطة ينتمون إلى مؤسسات الجيش، حيث تمكن هؤلاء من الإستيلاء على السلطة في عديد من الأقطار العربية: مصر، سوريا، العراق، السودان، اليمن، ليبيا… وهؤلاء القادة كما توحي قوائم أعضاء قيادات، مجالس الثورات، ينحدرون من أوساط شعبية ريفية كما هو الحال في سوريا والعراق أو مدنية ريفية كما هو في مصر واليمن والسودان، وتخضع هذه الفئات في بنيانها وعلاقاتها لشبكة واسعة من العلاقات العشائرية والقبلية المتينة.
لقد نشأت هذه الطبقة، كما سبقت الإشارة، بالمدينة والريف في آن واحد، ولهذا فهي طبقة هجينة مرتبطة ثقافيا واجتماعيا بأصولها المدنية والريفية، حيث أنها تشكل كيانا تاريخيا نابعا من ظروف التبعية الخارجية والداخلية. فهي تبعا لتلك الظروف طبقة غير منتجة اقتصاديا، كما أنها متجهة اتجاها شديدا نحو الإستهلاك. أما وضعها في سياق الإنتاج فهامشي وطفيلي بشكل يفسر، جزئيا على الأقل، ازدواجيتها الأيديولوجية وعدم استقرار اتجր§هاتها الإجتماعية والسياسية[10].
لقد وصف برهان غليون هذه الطبقة بالحركة والفعالية الفارغة
التي ليست إلا الحوصان والدوران في حلقة مفرغة (وبـ) الركاكة العقلية والأدبية، والتقلب والتناقض وعدم الإنسجام، وضيق الأفق والمحدودية الذهنية البائسة، وخلق الأوهام الكبيرة ورعايتها، وعبادة الأصنام وتقديس القوة… لا شئ يميز التطرف البورجوازي الصغير عن الإعتدال الذي يميز البورجوازية الكبرى، ولا تناقض بين الليبرالية وبين تقديس الدولة، فكل من الموقفين يكمل الآخر ويلجأ إليه، ويسترشد به لصيانة سلطة واحدة لا فرق في ذلك بين الإصلاحية البورجوازية الأولى والبورجوازية الصغيرة المتأخرة، فكلها تجد تفسيرها في بناء الدولة، تحتكرها الطبقة السائدة وتسمح لها بإبعاد الشعب عن الساحة السياسية حسب تطور أزمة النظام وازدياد الضغط والمقاومة الشعبيين[11].
إن الوضع الإجتماعي لهذه الطبقة خلق فيها كراهية شديدة لروح العمل والبناء، فليس مكان العمل بالنسبة لها إلا امتدادا لمكان اللقاء الإجتماعي، حيث يجتمع الأصدقاء ويحتسون الشاي، ويضيعون أوقاتهم في ما لا جدوى منه، في حين تتعطل أمور المواطنين ومصالحهم. وهذا يعني أن هذه الطبقة لم تتجاوز في عقليتها وتقاليدها الأنماط القبلية السائدة في المجتمعات الإقطاعية البدائية. فمصالح العشيرة والعائلة لها الأسبقية على المصالح العامة للشعب، والأنظمة السياسية تبذل قصارى جهدها لتعزيز نظام الطاعة والخضوع ومصادرة الحريات وكبت روح الإبداع. والتقدم الوظيفي ليس سوى نتيجة الوساطة والعلاقات العشائرية والقبلية، وموقع الفرد في المجتمع لا ينبع من فعله وإبداعه، بل من المركز أو الوظيفة التي يشغلها واللقب الرسمي الذي يحمله[12].
هذا وقد ناقش فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض طبيعة البورجوازية الصغيرة عندما تتمكن من الإستيلاء على السلطة، فأشار إلى أنه بعد الحصول على الإستقلال فإن عناصر البورجوازية الصغيرة التي كانت بالأمس تحشد الشعب حول هدف الإستقلال والحريات السياسية والوحدة الوطنية، ستنظر إلى الإنجازات التي تحققت على أنها مغانم خاصة بها، وستتصرف في البلاد كما لو كانت جزءا من ممتلكاتها، وسيعيد القائد “الوطني الملهم” ويكرر على سامعيه التزاماته بقضايا البطولة والشرف والدفاع عن حدود الوطن وحريته وكرامته، وسيذكر الشعب بماضيه وأدواره البطولية قبل الإستقلال… لكن الشعب الذي ناضل طويلا وقدم التضحيات الكبيرة من أجل تحقيق آماله في الحرية والقضاء على التخلف، والذي صدمه قائده في أعز أمانيه، لن يستمر طويلا في اصغائه إلى معزوفة النصر، وستمل آذانه سماع قصص البطولة والتاريخ الحافل بالإنجازات التي حققها الزعيم البطل… ستبدأ ثقة الشعب في قائده بالتزعزع، وستضعف شعبية الزعيم شيئا فشيئا، وعندها سيتم احساسه بعزلته عن الشعب، وسيعتبر موقف الشعب نكرانا غير مبرر للجميل، ويحس بالخشية والريبة، وستتعزز المسافة الفاصلة بينه وبين الشعب، وعندها سيلجأ القائد إلى الإستعانة بأفراد عشيرته وأقاربه… يصبح الحزب “الثوري” الذي رفع شعارات التحرر والوحدة والتقدم بالأمس هو نفسه القبيلة التي ينتمي إليها الزعيم، واخوته وأبناء عمومته هم معاونوه ووزراؤه، وكلما ازداد اقترابا من هذا السلوك، زادت عزلته عن الشعب، وازداد تحسبه وخشيته من النقمة والثورة والغضب الجماهيري عليه[13].
هكذا يتم الإنتقال من الالتحام بالشعب والثقة به إلى نقيض ذلك، حيث يبدأ الحاكم في بناء تحالفاته الجديدة مع أعداء الأمس، مع أولئك الذين سرقوا الشعب قوته وصادروا حرياته، فيلجأ إلى القوى الخارجية لكي تحميه حين تشتد عزلته وتنقطع علاقته بالشعب. ورويدا رويدا تعود للقوى الخارجية مواقع أقدامها التي خسرتها من قبل، ويصبح الوطن مستباحا، وتتغير الشعارات المرفوعة من الحرية والإستقلال وحق تقرير المصير وتحقيق العدالة الإجتماعية إلى الإنفتاح والديمقراطية ذات المخالب الحادة وضرورات حماية الأمن.
هكذا تكتشف الجماهير أخيرا الدور الحقيقي للبورجوازية الصغيرة كطبقة عاجزة تماما عن إحداث التحولات الإجتماعية المطلوبة، فقوة هذه الطبقة، في الواقع العربي، لم تستند إلى أي محتوى اقتصادي أو اجتماعي، وإنما نتجت من انتمائها إلى المؤسسات العسكرية. تلك المؤسسات التي تم بناء معظمها إبان هيمنة الإستعمار الغربي على الوطن العربي. وكانت في تركيباتها وتشكيلاتها نسخا كاريكاتوريا مشوها لأشكال وتقاليد وهياكل مؤسسات الجيش في الدول الغربية. فالصلف والغرور والغطرسة والطاعة العمياء، وخضوع الأدنى للأعلى، وهيمنة مفردات الولاء، هي الطابع الذي يحكم طبيعة الحياة في المؤسسة العسكرية العربية الناشئة.
ومن جهة أخرى، فإن الثقافة الأكاديمية العسكرية في الوطن العربي، كما تبرزها المناهج الدراسية في الكليات الحربية، بشكل عام تحليل لأهم المعارك الحربية التي خاضتها الجيوش الأوروبية في العصر الحديث، يقوم بتدريسها في أغلب الحالات مجموعة من الضباط العسكريين ممن قدر لهم أن يبتعثوا ويتعلموا في الكليات العسكرية في الغرب الإستعماري، في لندن وباريس وغيرهما من المدن الأوروبية والنتيجة الطبيعية لذلك تأثر هؤلاء الضباط الشبان وتقمصهم شخصيات يرون من خلال ما تعلموه في تلك المدارس أنها تمثل رموزا للشجاعة والبطولة، فتصبح صور الجنرال الألماني رومل، والبريطاني مونتغمري، ونابليون وهتلر، رموزا عسكرية مثالية، تثير إعجاب الجندي العربي المقاتل، مكرسة في نفسيته حالة، غير مدركة، من التبعية للتقاليد والثقافات والأنماط والسلوكيات العسكرية الغربية، مساهمة مع عوامل أخرى، في إضعاف جذوة الشعور بالإنتماء القومي، ومؤدية إلى تشتت ولاء هذا الجندي في اللحظات الحاسمة وأثناء المعارك الوطنية، بين انتمائه إلى الوطن والشعب وواجبه في الدفاع عن الأرض، وبين اعجابه الشديد المشوب بالخشية والخوف من أعدائه.
يضاف إلى هذه التبعية، تبعية أخرى هي نتاج التشكيل البطركي في المجتمع العربي، فالإرتباط بالجيش والتعيينات والترقيات واستلام المناصب في معظم البلدان العربية لا تقوم على أساس الكفاءات العلمية أو المؤهلات القتالية، بقدر ما هي نتيجة المحسوبيات والعلاقات الإجتماعية المرتبطة بالبنى العشائرية والقبلية السائدة في المجتمع، مما يجعل الإرتباط النفسي لضباط الجيش بهذه القيم والعلاقات الإجتماعية المتخلفة عميقا، فيصبح ولاء الضابط لقبيلته وعشيرته غداة استلامه السلطة أقوى وأمتن من ولائه للجماهير. وتصبح مهمته الأساسية ليست خدمة الشعب، وإنما الإستحواذ على المنافع والمكاسب لعائلته والمقربين إليه.
لقد استطاعت البورجوازية الصغيرة، وعلى رأسها مجموعة العسكر في ظل غياب العمل الشعبي المنظم، وفي ظل ظروف نكبة فلسطين عام 1948م، وباسم الكرامة الوطنية المستباحة، والثأر من العدو الصهيوني، أن تصل إلى قمة السلطة في مجموعة من الأقطار العربية، وأن تمارس دورها الطبيعي، المرتبط بظروف نشأتها وتركيبتها.
وبإمكاننا لو أردنا الآن أن نستقصي بشكل تفصيلي أدوار هذه الطبقة في كل قطر عربي على حدة أن نوضح ما آلت اليه الأمور في الأقطار العربية التي تمكنت فيها البرجوازية الصغيرة من استلام السلطة. لكننا لن نفعل ذلك, نظرا لما يتطلبه هذا العمل من اطالة وجهد نحن في غنى عنهما، إذ لا يوجد بيننا خلاف على حالة التداعي والعجز والتبعية التي تسود الواقع العربي الآن، ومسؤولية الحكام العرب في تفاقم الأزمة الراهنة. لذلك سنكتفي بالتعرض إلى دور هذه الطبقة في قطرين عربيين فقط هما مصر والسودان.
وقد وقع اختيارنا على هذين القطرين لعديد من الأسباب أهمها نضج وعراقة الحركة السياسية فيهما بوجه عام، ونظرا لكثافتهما السكانية العالية قياسا إلى الأقطار العربية الأخرى، والدور المميز الذي لعبته البرجوازية الصغيرة فيهما.
ففي القطر المصري، أهم الأقطار العربية من حيث كثافتة السكانية وأبعاده التاريخية والثقافية، قادت هذه الطبقة عملية التغيير الذي حدث في القطر منذ 23 تموز عام 1952، واستطاعت تحشيد الجماهير العربية بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حول أهداف الأمة العربية الكبرى، وأممت قناة السويس، وردت العدوان الثلاثي على أعقابه، وبنت السد العالي، وأنجزت الوحدة السورية المصرية، وقامت بتأميم أهم الفعاليات الاقتصادية، ووزعت الأراضي على الفلاحين.
الا أن من الملاحظ أن السياسة الداخلية والخارجية للسلطة الوطنية التي قادت عملية التغيير لم تخرج عن طبيعة التكوين والبنيان الاجتماعي لهذه الطبقة. فعلى المستوى الداخلي، يبرز ذلك جليا في رفضها لأي ممارسة ديمقراطية حقيقية في الحكم… وحرمان الشعب من ممارسة حرياته السياسية المتمثل في منع حق تكوين الأحزاب السياسية وحل القائم منها، والحيلولة دون قيام تنظيم طليعي ثوري يعبئ الجماهير كي تمارس دورا رئيسيا في عملية التغيير، كما تمثل في الاعتماد المبالغ فيه على أجهزة الأمن والمخابرات في حماية السلطة، والضيق بالمعارضة والنقد، وفتح أبواب السجون لمن يتفوه بكلمة ضد النظام القائم.
وعلى المستوى الخارجي، اتسمت السياسة الخارجية للسلطة الوطنية بالمراوحة، تحت حجة الموقف المستقل، ولا يمين ولا يسار، بالتقارب من المعسكر الغربي تارة والمعسكر الشرقي تارة أخرى، وإعطاء مضمون الحياد والارتباط بكتلة عدم الإنحياز معنى مجردا يضع كلا المعسكرين المتنافسين في كفة واحدة، كما تمثلت تلك المراوحة في طرح شعارات وحدة الهدف تارة، ووحدة الصف تارة أخرى. وعلى صعيد القضية المركزية للعرب، قضية فلسطين، رأينا مواقفها تتراوح بين الرفض الكامل لوجود الكيان الصهيوني في فلسطين، والتهديد بشن حرب تحريرية شاملة هدفها تصفية هذا الكيان، واتخاد اجراءات متسرعة غير محسوبة في هذا الاتجاه، مثال ذلك طلب الحكومة من يوثانت السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة سحب القوات الدولية من مضائق تيران، واغلاق تلك المضائق في وجه الملاحة الاسرائيلية دون ضمان مستلزمات المجابهة العسكرية مع الكيان الصهيوني، وطرح لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاثة عام 1967م: لا صلح، ولا مفاوضات، ولا اعتراف بالكيان الصهيوني، تلك اللاءات التي برزت على إثر هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو، إلى القبول بقرار الأمم المتحدة 242 لحل أزمة الشرق الأوسط، والرحلات المكوكية لجونار يارينج مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، ومن ثم القبول بمشروع روجرز للسلام عام 1970م، وغض الطرف عن ذبح المقاومة الفلسطينية في الأردن بأيلول/ سبتمبر من نفس العام.
ومنذ عام 1971م، رأينا هذه الطبقة بقيادة الرئيس المصري السابق أنور السادات تتجه نحو الإنفتاح، وهو تعبير يقصد به في الغالب، القبول بصداقة الغرب، وجعل أبواب البلاد مشرعة أمام بضائعه ومنتجاته، وإفساح المجال لمؤسساته الإحتكارية لممارسة سلب ونهب خيرات الوطن، ووضع البلاد ضمن مناطق النفوذ الإستعماري.
وقد رأينا نتائج هذه العلاقة تترجم ذاتها في تطورات وتغيرات عديدة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى صعيد الداخل تمت هجمة منظمة وشرسة على منجزات ثورة 23 تموز/ يوليو، وتم تقليص القطاع العام، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام المنتجات الأمريكية لتجد طريقها للمستهلك المصري، وجرت حملة ثقافية واعلامية مكثفة للتبشير “بفضائل” الإنفتاح على الغرب الإستعماري، كما جرى هجوم اعلامي وتخريبي منظم على منجزات عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وعلى الصعيد الخارجي، تم الإبتعاد تدريجيا عن منظومة الدول الإشتراكية، وتقوية العلاقات مع دول المعسكر الرأسمالي الغربية. وقد تم تتويج هذه السياسة الجديدة بطرد الخبراء العسكريين السوفييت، وإضعاف دور مصر في إسناد حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا، وتقليص دورها عربيا وأفريقيا، وتراجع موقعها القيادي في كتلة عدم الإنحياز.
وإثر معركة العبور العظيم في تشرين/ أكتوبر عام 1973م، تم البدء في تنفيذ مرحلة جديدة من التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، تمثلت في مقولة ساداتية شهيرة، خلاصتها أن 99% من مفاتيح حل أزمة الصراع العربي-الإسرائيلي بيد الولايات المتحدة، وأن طريق مصر لتحرير أراضيها هو اعتبار الولايات المتحدة شريكا كاملا في حل أزمة الصراع العربي مع إسرائيل. ومن هذا المبدأ، بدأت المفاوضات المباشرة بين النظام المصري والكيان الصهيوني في الخيمة المعروفة بمباحثات الكيلو 101، وتم فك الإرتباط الأول بين الجيشين المصري والإسرائيلي، ووقعت اتفاقية سيناء، وتم ذلك كله تحت رعاية مستشار الرئيس الأمريكي نيكسون لشؤون الأمن القومي ووزير خارجيته فيما بعد الدكتور هنري كيسينجر الذي اشتهر بسياسة الخطوة خطوة المعروفة. وقد أدت تلك المباحثات في نهاية المطاف إلى توقيع الرئيس المصري أنور السادات، ورئيس وزراء العدو الصهيوني مناحيم بيجن والرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر لاتفاقيات كامب ديفيد عام 1978م، التي أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، ووضعتها ضمن المناطق الإستراتيجية للتواجد العسكري الأمريكي في المنطقة العربية، وكان من أحد نتائجها المباشرة عزلة مصر عن الأمة العربية، وقيام الكيان الصهيوني بغزو بيروت عام 1983م، واتساع العربدة الإسرائيلية لتشمل الأرض العربية بأسرها.
وهكذا أدى الدور التخريبي الذي لعبته قيادة البورجوازية الصغيرة إلى سقوط دور مصر العربي، وإلى تعطيل إمكانياتها وطاقاتها وإلى جعلها سوقا كبرى لمنتوجات الإمبريالية الأمريكية، واعتبارها ضمن مناطق النفوذ العسكري الإمبريالي الأمريكي.
ولا يزال القطر المصري والأمة العربية جمعاء، تعاني بعد مرور أكثر من عشرين عاما على توقيع تلك الإتفاقيات من التشرذم والتمزق، حيث تداعى الوضع العربي بشكل عام، والقضية الفلسطينية بشكل خاص. كما تم اختزال النضال الفلسطيني من هدف التحرير الشامل لفلسطين التاريخية، إلى اتفاقيات أوسلو المهينة، التي اكتفت بقبول القيادة الفلسطينية إقامة سلطتها على حوالي العشرين في المائة من الأراضي الفلسطينية، والتنازل عن أجزاء كبيرة من مدينة القدس الشريف. كما كان من نتائجها هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المنطقة بأسرها، وازدياد العربدة الصهيونية.
أما القطر السوداني، فكان الجيش المصري حتى عام 1850م المهيمن على إدارته نيابة عن الإستعمار التركي، وقد استطاع هذا الجيش تحطيم البنية القبلية، وأخضع الفلاحين إلى ضرائب عينية من دواب وحبوب من أجل تزويد الجيش بحاجاته. مما أدى إلى بروز شيوخ جدد وظيفتهم جمع الضرائب. كما قام بانتزاع أحسن الأراضي من الجماعات القروية لتسليمها للبكوات المصريين وبعض الشيوخ السودانيين، وتم اقتلاع الفلاحين من قراهم، واستخدامهم في هذه الأراضي[14].
لقد كانت المهدية (1881-1898) ثورة أولئك الذين عاشوا الجوع والحرمان من جماعات قروية وفلاحين وحرفيين ورقيق. وقد نجحت في تحرير البلاد من السيطرة التركية بقيادة محمد أحمد المهدي، وطردت الجيش المصري، رمز الهيمنة التركية آنذاك، ومعه البكوات والشيوخ، وشيدت نظاما معاديا للهيمنة الأجنبية. إلا أن هذا النظام بعد وفاة المهدي وتسلم الخليفة عبد الله مهام السلطة غير من اتجاهه. فالزعماء العسكريين للثورة الخارجين من الشعب، وكذلك الزعماء الحربيين الذين اندفعوا للثورة، أبان انتصاراتها الأولى، أقاموا نظاما مشابها لذلك الذي كان سائدا تحت الإدارة المصرية، ووضعوا أيديهم على الإقطاعات وسنوا الضرائب لحسابهم الخاص، وتم اعدام كثير من الزعماء العسكريين الشعبيين الرئيسيين، ومن ثم أخذت الدولة المهدية تعيد شيئا فشيئا القوانين الخاصة بترخيص تصدير الرقيق، لكن لحسابها الخاص هذه المرة، أما بالنسبة لجيش الخليفة الذي أضاعت تلك السياسات طابعه الشعبي فقد عجز عن مواجهة الحملة الإستعمارية الإنجليزية التي حدثت في نهاية القرن، والتي هدفت إلى الهيمنة على السودان[15].
وفي ظل هذا الوضع البائس، وقعت مسؤولية المواجهة المباشرة للإستعمار من جديد على عاتق جماهير الشعب السوداني بعد أن عجزت القوى التقليدية عن تحقيق ذلك، وهكذا أيضا جرى الكفاح الشعبي حتى تحقق الإستقلال السياسي الكامل لهذا القطر في عام 1951م.
وتجدر الإشارة إلى أن الشعب السوداني دفع ثمنا باهضا جراء الهيمنة البريطانية على أراضيه، فقد مارس الإستعمار البريطاني خلال فترة وجوده في هذا القطر دورا اقتصاديا مشابها للدور الذي مارسه في مصر من قبل.
فقد جرى استصلاح منطقة الجزيرة الواقعة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق وزرعها بأشجار القطن، كما جرى بناء سد سنار عام 1925 بتمويل من الإستعمار البريطاني كجزء من خطة تطوير زراعية أحادية الإنتاج، انسجاما مع سياسات الإستعمار الأوروبي في مصر والجزائر والهند وماليزيا… الهادفة إلى جعل العملية الإنتاجية في بلدان العالم الثالث مرتبطة بحاجة السوق الإستعمارية، وضمان استمرارية تبعية سياسات البلدان “المحيطة’” بالدول الصناعية المتقدمة “المركز” وخلق طبقة اجتماعية جديدة من ملاك الأراضي تربتط مصلحتها بشكل مباشر بالوجود البريطاني والنظام الإقتصادي العالمي. وقد ترك هذا التشكيل الإجتماعي الجديد بصماته واضحة على النهج السياسي في القطر فيما بعد الحصول على الإستقلال.
حين انتزع السودان استقلاله السياسي، كانت القوى السياسية النشطة في هذا القطر تتمثل في كتلتين رئيسيتين هما: حزب الأمة الذي كان متحالفا مع الأنصار المهديين، ممثلا للقوى التقليدية المحافظة وكبار الملاك، متبنيا استراتيجية تهدف إلى عزل السودان عن الأمة العربية، والقطر المصري بالذات. والحزب الوطني الإتحادي بزعامة اسماعيل الأزهري، وكان هذا الحزب هو الممثل الحقيقي للحركة الليبرالية الداعية لوحدة وادي النيل.
وقد تمكن حزب الليبرالية السودانية نتيجة للدعم الشعبي الواسع من تأمين نجاح قائمته في الإنتخابات التي جرت في السودان قبيل الإستقلال، وأصبح رئيسه اسماعيل الأزهري أول رئيس للوزارة لأول حكومة وطنية بعد الإستقلال. إلا أن الزعامات الطائفية والتقليدية ممثلة في عبد الرحمن المهدي وعلى محمد عثمان الميرغني لم تكن سعيدة بتلك النتائج، مما دفعهما، وهما الزعيمان التقليديان المتنافسان، إلى إعلان حلف غير مقدس بين الأنصار والختمية، وشق وحدة الوطني الإتحادي، فكان من نتائج ذلك التحالف إسقاط حكومة الأزهري الوطنية الإئتلافية وتشكيل حكومة أخرى يقودها التحالف الطائفي الجديد[16].
إلا أن هذا التحالف لم يستطع، كنتيجة طبيعية لتركيبه القبلي، حل المعضلات الإقتصادية والدستورية التي واجهها السودان. فلقد كان التركيب القبلي للبلاد يجعل من المستحيل أن يتمكن حزب بمفرده من تأمين أكثرية مطلقة في البرلمان. وفي ظل هذا الوضع كانت الحكومات الإئتلافية تشكل ومن ثم تزاح من وراء ظهر رئيس المجلس باتفاق أو بصراع يأخذ مجراه وراء الكواليس بين القوى القبلية المتصارعة[17]. وهكذا مضت السنوات الأولى من عهد الإستقلال مجسدة عجز الحكومة الكامل عن اتخاذ المواقف الحاسمة والقضاء على الإضطرابات السياسية.
وزاد الأمر سوءا، ما شهدته المنطقة آنذاك من تدخلات عسكرية استعمارية في شؤون البلدان العربية، لقد شهدت تلك الفترة استعار حمى الحرب الباردة بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية. وكان الرئيس الأمريكي آنذاك، دوايت أيزنهاور قد طرح مشروعه لمجابهة الشيوعية في الوطن العربي وملء الفراغ الناتج عن هزيمة الإستعمار الأوروبي إثر نهاية الحرب العالمية الثانية.
في هذا الجو المضطرب، قام الجيش بانقلابه العسكري الأول في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1958م، معلنا كما هي عادة رجال الجيش في معظم انقلاباتهم في دول العالم الثالث، عن حملة عنيفة “على الفساد الشامل وسوء الإدارة وعدم الأستقرار والخوف” التي نتجت عن الخصومات بين الأحزاب السياسية، وقال إن “قوات الأمن استولت على الحكم لإجراء الإصلاحات ووضع حد للفساد”.[18]
وكانت أولى خطوات الحكم العسكري على هذا الطريق حل جميع الأحزاب السياسية ومنع التجمعات والمواكب والمظاهرات وإغلاق الصحف وإلغاء الدستور المؤقت وحل البرلمان والقضاء على جميع المؤسسات الديموقراطية في البلاد، وفرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، ومنح المجلس الأعلى للقوات المسلحة سلطات دستورية. وتولى الفريق ابراهيم عبود جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إضافة إلى قيادته للجيش.
كان لابد للشعب السوداني أن يناضل من جديد من أجل الحفاظ على المكاسب السياسية والديمقراطية التي حصل عليها بعد الإستقلال، وأن يواجه بالعنف محاولات مصادرة تلك المكتسبات من قبل العسكر. فقد بدأت المظاهرات والإضرابات والإضطرابات السياسية في مواجهة الحكم العسكري تعم أرجاء السودان، وارتقت انتفاضة الشعب السوداني إلى ذروتها إثر المصادمات الدامية بين الشعب ورجال الشرطة في 21 تشرين أول/ أكتوبر عام 1964م، حيث نزل الشعب إلى شوارع مدينة الخرطوم، وحيث وقعت معارك دامية مستمرة بين الشعب ورجال الشرطة طوال النهار.
وفي 21 من نفس الشهر، تخلى العسكريون عن السلطة تحت وطأة الضغط الشعبي، وسلم الحكم إلى المدنيين، وأعلن أول تشكيل وزاري للحكومة المدنية برئاسة السيد سر الختم خليفة، وتم الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وأعيدت الحياة النيابية إلى سابق عهدها.
ومن جديد عادت القوى التقليدية التي جمد الحكم العسكري نشاطها إلى الظهور، كما احتدمت الصراعات الحزبية بين القوى السياسية التقليدية. فقد برز الصراع القديم بين حزب الإتحاد الوطني وزعيم حزب الأمة وأحمد محمد محجوب أحد الأعضاء البارزين في الحزب ورئيس الوزراء آنذاك.
وقد ساهم عجز الحكومة عن إيجاد حل لمشكلة التمرد في جنوب السودان في تصعيد حدة الأزمة بين القوى السياسية المتصارعة. وبلغت هذه الصراعات حدتها في نيسان/ ابريل عام 1969م حين اتفق الجناحان الرئيسيان في حزب الأمة برئاسة الإمام الهادي المهدي وابن أخيه الصادق المهدي على ترشيح الهادي لرئاسة الجمهورية والمهدي لرئاسة الوزراء، مما أوضح لأعضاء الحزب الآخرين أن عائلة المهدي تعتبر السلطة مغنما تتوارثه وتتقاسم مكاسبه بعيدا عن بقية أعضاء الحزب الآخرين الذين لا ينتمون لهذه العائلة.
أدت هذه الحالة من الفوضى إلى تدهور الوضع، واستمرار الصراع بين الأحزاب وتعطل أمور الدولة. وكان لا بد من إجراء تغيير في الوضع السياسي القائم، ومرة أخرى كانت القوى المهيأة لقيادة عملية التغيير واستلام السلطة في ظل ضعف التشكيلات الإجتماعية الشعبية هي قوى البورجوازية الصغيرة التي استطاعت القفز من جديد إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري بزعامة العقيد جعفر النميري في 25 آيار/ مايو 1969م.
وكما حدث في القطر المصري بعد ثورة 23 تموز/ يوليو 1952م، فإن قيادة السلطة الجديدة رفعت في أيامها الأولى شعارات وضع “السلطة جميعها في أيدي العمال والمزارعين والجنود والمثقفين”[19]. واعترفت بألمانيا الشرقية “إقرارا بموقفها الثابت المتضامن مع البلدان العربية وإدانتها للعدوان الإسرائيلي”، وجرى تغيير اسم جمهورية السودان إلى جمهورية السودان الديمقراطية. وحدد هدف الإنقلاب العسكري على أنه “القضاء على الفساد الذي انتشر خلال حكم الأحزاب السياسية، ومواجهة الإمبريالية ووقف التسلل الصهيوني إلى أفريقيا وحماية حدود السودان”[20].
وتظاهر الشعب السوداني ابتهاجا بهذا التغيير الذي وجد فيه توجها جديدا باتجاه تحقيق آماله وطموحاته.
وفي آيار/ مايو 1970م، أمم المجلس العسكري عددا من الشركات في الذكرى السنوية الأولى للإنقلاب العسكري، وصودرت ممتلكات شركات أخرى وأفراد، وأعلن الحكم عن التزامه بالطريق الإشتراكي، وشجع على عقد ندوة للإشتراكيين العرب في الخرطوم. وكان النظام الجديد قد واجه من قبل في آذار/ مارس من نفس العام تمرد قوات الأنصار في جزيرة أبا وقمع هذا التمرد بدون رحمة، كما أقام النظام الجديد تحالفا قويا مع الرئيس عبد الناصر وخلفه فيما بعد الرئيس أنور السادات، وأعلن عن قيام محاولات لخلق نوع من العلاقة الوحدوية مع مصر.
لكن هذا التوجه نحو اليسار لم يدم طويلا، فقد بدأ الصراع بين أعضاء المجلس العسكري. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1970م أقال النميري ثلاثة من الأعضاء الأصليين في مجلس قيادة الثورة هم بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم عطا. وكان السبب المعلن لإقالتهم اتهامهم بالشيوعية وأنهم يسربون المعلومات عن اجتماعات مجلس قيادة الثورة لقيادة الحزب الشيوعي.
وفي 19 تموز/ يوليو 1971م، أعلن عن قيام انقلاب عسكري آخر، بقيادة هاشم عطا حدد أهدافه في حماية البلاد والمحافظة على وحدتها ومقاومة العدوان الصهيوني. ووعد بإقامة نظام سياسي تشترك فيه الجماهير الشعبية في كافة شؤون الدولة. وقال إن نظام الحكم الجديد سيعمل على إزالة أخطاء العهد السابق، ويطهر البلاد من الفساد، ويحقق الإصلاح الزراعي ومخططات التنمية ورفع مستوى المعيشة.
إلا أن تطورات وأحداثا دراماتيكية حصلت بعد ذلك كان لها دور كبير في تغيير مسار تاريخ السودان المعاصر. ففي صباح 22 تموز/ يوليو 1971م، أرغم نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا الطائرة البريطانية التي كانت تقل بابكر النور رئيس مجلس قيادة الثورة الجديد وفاروق حمد الله العضو الثالث في المجلس وهما في طريقهما من لندن إلى الخرطوم لاستلام منصببهما الجديدين على الهبوط في مطار بنغازي، كما سقطت في ظروف غامضة طائرة عراقية تقل وفدا من القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي برئاسة محمد سليمان لتهنئة القادة السودانيين الجدد على بعد عشرة أميال شمالي مدينة جدة السعودية، وتحركت القوة العسكرية السودانية المرابطة في قناة السويس بإيعاز من الرئيس المصري السابق أنور السادات للقضاء على الحركة الإنقلابية الجديدة. وفي وقت لاحق من نفس اليوم، 22 تموز/ يوليو أطيح بنظام الحكم الجديد الذي لم يتجاوز عمره ثلاثة أيام، واستعاد العقيد النميري السلطة.
ويعتبر تمكن الرئيس النميري من القضاء على هذا الإنقلاب نقطة التحول من السياسات اليساروية التي انتهجها النظام العسكري منذ استيلائه على السلطة في 25 آيار/ مايو 1969م. فقد بدأ النميري مرحلة جديدة تتسم باتجاه حاد نحو اليمين… واستهل عهده الجديد بإعدام زعيم الحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، كما أعدم الأمين العام لاتحاد النقابات العمالية السودانية الشفيع أحمد الشيخ وثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة هم بابكر النور وهاشم عطا وفاروق حمد الله. ومنذ ذلك الحين، بدأ النميري في انتهاج سياسات معادية لحركات التحرر الوطني، تمثلت في تأييده فيما بعد لاتفاقيات كامب ديفيد ودعمه لموقف نظام الرئيس السادات في مواجهة الإجماع العربي الذي مثلته قرارات قمة مؤتمر بغداد، والسماح لقوات النجم الساطع الأمريكية باستخدام أراضي السودان لأغراض عسكرية عدوانية، وإقامة تحالفات وعلاقات مشبوهة مع الأنظمة الحليفة للغرب كنظام مبوتو في زائير. وقد بلغت هذه التراجعات ذروتها في الأيام الأخيرة لنظام النميري، حين تعاون مع الكيان الصهيوني في نقل يهود الفلاشا من أثيوبيا إلى تل أبيب عبر أراضي السودان.
وعلى الصعيد الداخلي، أقام نظام النميري تحالفات متعددة غير نزيهة مع القوى التقليدية والطائفية وحزب الإخوان المسلمين. كما أعلن قبل سقوطه بفترة وجيزة عن تنصيبه نفسه أميرا للمؤمنين، وعن تطبيقه للشريعة الإسلامية في محاولة منه للتورية على مواقفه المعادية لحركة التحرر الوطني والمتواطئة مع أعداء العروبة، متغافلا في ذلك عن الصورة الحقيقية المشرقة لمبادئ الإسلام العظيمة.
وكما واجه الشعب السوداني الأنظمة التقليدية والطائفية والعسكرية من قبل بالكفاح والمقاومة، فقد واجه نظام النميري طيلة فترة حكمه بعد أن تكشف للجماهير زيف ادعاءاته حتى تمكن أخيرا من إزاحته عن السلطة في الخامس من نيسان/ أبريل عام 1985م.
لكن الأمور عادت من جديد، بميكانيكية تاريخية، فقد أعيد النظام المدني إلى السودان وعادت الوجوه القديمة إلى السلطة، وترأس الصادق المهدي الحكومة السودانية، لكن ذلك لم يستمر طويلا فأمام الفوضى واشتعال الحرب الأهلية في الجنوب وعجز الحكومة عن تلبية المتطلبات الأساسية الإقتصادية للشـعب، قفز العسكر إلى السلطة، بقيادة الرئيس الحالي للسودان السيد عمر البشير، مدعومين بقوة تنظيم حركة الإخوان المسلمين بزعامة الدكتور حسن الترابي. وبعد مساومات، استمرت أكثر من عشر سنوات، بينه وبين القيادة العسكرية التي كانت في تكوينها السياسي نتاجا لحركته، أطيح به وبالعناصر المؤيدة له في حركة تصحيحية كتلك التي شهدتها النظم الثوروية الأخرى في أقطار عربية عديدة.
وهكذا رأينا سياسة المراوحة التي انتهجها النظام المصري منذ 23 تموز/ يوليو 1952م تتكرر مرة أخرى بقيادة مجموعة العسكر في السودان لتصل إلى نتائج متشابهة في كلا القطرين.
وكما أدى الدور التخريبي الذي لعبته قيادة الرئيس أنور السادات إلى سقوط دور مصر العربي، وتعطيل امكانات وطاقات هذا القطر وجعل سياساته مرتهنة، وتصب في خدمة النفوذ الأجنبي الغربي، فقد أدت سياسات النميري إلى تبنى نهج تخريبي في القطر السوداني، مما أدى إلى تعطيل دوره على الصعيدين العربي والإفريقي، وإلى جعل سياساته خاضعة للمصالح الإستعمارية في المنطقة.
ومن الملفت للنظر أن هذه الحركات العسكرية سلكت أسلوبا متقاربا ومتشابها من حيث نهجها في الحكم بجميع البلدان العربية التي تمكنت من استلام السلطة فيها. فهي في الأيام الأولى لوصولها إلى السلطة ترفع شعارات الثورة والتنمية والبناء، و “حمل المعول بيد والسلاح باليد الأخرى”، وتقوم بإجراءات ثوروية، مهددة بحرب شعواء لا تبقي ولا تذر بحق القوى المحافظة “المعادية لمسيرة التاريخ”، لكنها سرعان ما يستقر بها الأمر حتى تقوم بمراجعة “موضوعية” وممارسة “نقد ذاتي” لأفكارها واستراتيجياتها السابقة، وسرعان ما يتكشف لها خطأ اعتمادها على الجماهير، فتدعو إلى التحالف والتضامن مع كل الشعب، متجنبة بذلك “دموية الصراع الطبقي” ومنادية بالعقلانية والموضوعية والتريث، موجهة حرابها إلى كل من يطالب بالتغيير أو يتوجه بكلمة نقد، تحت شعار حماية الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية والأمن الغذائي للمواطنين، والدفاع عن مكتسبات الثورة.
تبدأ هذه الطبقة غداة استلامها السلطة بتصفية خصومها ومعارضيها خارج الحزب أو القبيلة أو مجلس قيادة الثورة، لا فرق في ذلك، تحت شعار تصفية الخندق الرجعي أو الحركة الشيوعية. وما أن يتم لها التخلص من خصومها ومعارضيها خارج إطار الحزب السياسي حتى تبدأ مباشرة بالتوجه إلى ذاتها، فتتوالى حركات التصحيح الواحدة تلو الأخرى، بما يصاحب تلك الحركات “التصحيحية” من مجازر دموية بشعة… إن عملية تصفية المعارضة في الوطن العربي داخل الحركة السياسية أو خارجها في ظل هيمنة البورجوازية الصغيرة قد اتخذت أشكالا مرعبة حقا. ففي بعض الأقطار العربية اقتضت عملية تصفية القوى المعارضة قصف مدن آمنة وهدمها على من فيها. وفي قطر عربي آخر أدى صراع على السلطة بين أبناء الحزب “الثوري” الواحد إلى مقتل أكثر من خمسة وعشرين ألف شخص وهروب العشرات من الآلاف إلى خارج القطر.
أما حول المراوحة السياسية والتناقض في اتخاذ المواقف، فقد انتهجت هذه الطبقة مواقف مثيرة للسخرية والإشمئزاز وغير قابلة للتصديق. فهذا نظام عربي يقطع علاقته مع نظام عربي آخر احتجاجا على توقيع هذا النظام معاهدة صداقة مع الإتحاد السوفياتي، متهما إياه بوقوعه تحت دائرة النفوذ الشيوعي، وبعد فترة وجيزة يقوم النظام العربي الرافض بعنف بتوقيع معاهدة صداقة مماثلة مع الإتحاد السوفياتي، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيعلن استعداده للإنضمام إلى حلف وارسو إذا قبل الإتحاد السوفياتي بذلك.
أما مراوحة هذه الأنظمة حيال قضايا الحرية والوحدة والتحرر القومي فحدث ولا حرج. ففي الوقت الذي تدعي فيه قيادتها للنضال القومي داعية إلى تحطيم الحدود فإن المواطن العربي يحتاج حين يزور أحد الأقطار التي تهيمن على السلطة فيه هذه الأنظمة إلى البقاء نهارا كاملا بين تفتيش وتحقيق ليتمكن من عبور نقطة حدود الجوازات في ذلك القطر.
وهي مع التحرير الكامل لفلسطين ورفض طريق المساومة، لكنها تذبح المقاومة الفلسطينية وتحاربها في كل مكان.
وهي مع الحريات السياسية والنقابية والفكرية، لكنها تحارب فكرة قيام الأحزاب وحرية التعبير، وتصادر الكتب والمجلات من المكتبات، ويمارس مقص الرقيب حقه في منع ما لا يتوافق مع رغبة النظام من أن ينشر في الصحف.
أما مجالس الشعب “المنتخبة” فإن أعضاءها يرشحهم الحزب الحاكم، وما على الشعب سوى الإختيار من بين هؤلاء المرشحين الذين غالبا ما تكون مهماتهم التصفيق والتصديق على القرارات بناء على موافقة الحاكم، وتسمية أسماء المدن والمواني والمطارات والمستشفيات والسدود والمدارس والشوارع باسم هذا الحاكم “البطل” أو ذلك. والتنظيم النقابي في ظل هذه الأنظمة ليس ممثلا أو مدافعا عن العمال أو الطلاب أو الفلاحين الذين يدعي تمثيلهم، بل ممثل للنظام ومدافع عن سياساته وتوجهاته.
والنظام العسكري أيضا ضد مبدأ الإغتيال السياسي، لكن ذلك لا يمنعه من تصفية خصومه ومعارضيه الفارين بجلودهم إلى الخارج. وهو أيضا ضد الحكام التقليديين و “أمراء الصحراء” والإمبريالية الأمريكية، لكن ذلك لا يمنعه من مصاهرة هؤلاء الأمراء وإقامة علاقات القربى مع الأسر الأرستقراطية، والبحث عن قروض ومساعدات وعلاقր§ت مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى.
وهذه الأنظمة أيضا، مع التقր´ف والمساواة والعدل الإجتماعي وتوزيع الثروة، لكن ذلك لا يمنع من أن تكون لها حسابات سرية في بنوك سويسرا وأمريكا واليابان.
وهي أيضا مع الإلتزام بميثاق الدفاع العربي المشترك، لكنها لا ترى بأسا في الوقوف مع الأجنبي في خندق واحد لضرب قطر عربي آخر.
ذلك كان حال الأقطار العربية التي تمكنت البورجوازية الصغيرة من القفز إلى السلطة فيها، وهو حال يستحق الرثاء على أي حال. أما الأقطار العربية الأخرى التي بقيت تدار من قبل القوى المحافظة فإن مشروع تحقيق الوحدة والنهضة العربيتين لم يطرح من قبلها بشكل حاد، ولذلك فإن لها شأنا آخر ليس هنا مجال الحديث عنه.
ثانيا: زيادة انتاج النفط والتصحيح النسبي في أسعاره
أدت الزيادة الهائلة في الدخل القومي التي نتجت من التصحيح النسبي في أسعار النفط ومضاعفة طاقته الإنتاجية إلى زيادة الإختلالات الإقتصادية والإجتماعية على الساحة العربية، حيث ساعدت على اتساع الهوة بين الأقطار العربية الغنية والأقطار العربية الفقيرة. ومن المؤكد أن هذا الوضع لا يساعد على خلق أي نوع من التكامل الإقتصادي العربي.
ويلاحظ أن هناك تزامنا بين البدء في تصدير النفط العربي إلى الخارج بكميات تجارية كبيرة إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبين حدوث أول انقلاب عسكري في 23 تموز/ يوليو عام 1952م قدر لقيادته في ما بعد أن تلعب دورا رئيسيا في قيادة مسيرة العمل الوحدوي على الساحة العربية.
كما تجدر الإشارة إلى أن الدعوة للوحدة العربية انطلقت من بلاد الشام والعراق، وامتدت فيما بعد، إثر وصول الرئيس جمال عبد الناصر إلى الحكم لتشمل مصر, وجميع هذه الأقطار تعتمد في مواردها بالدرجة الأساس، وحتى وقت قريب، على الإنتاج الزراعي، وتتميز بكثافة سكانية عالية نسبيا قياسا إلى عدد السكان في الأقطار العربية النفطية، وخصوصا في الخليج العربي والجزيرة العربية.
وقد شاءت المصادفة أن تكون الثروة النفطية موجودة في أقطار عربية لم تكن بالأساس مركز ثقل في مسيرة العمل القومي التي بدأت طلائعها منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. فدول الخليج العربي كانت حتى مطلع السبعينيات، باستثناء المملكة العربية السعودية، لا تزال خاضعة للهيمنة (الحماية) البريطانية. ولم يكن استقلالها ناتجا عن كفاح مسلح، كما كان الحال في الجزائر واليمن الجنوبي، أو عن نضال ونهوض شعبي للتحرر من نير الإستعمار، كما كان الحال في معظم الأقطار العربية، وإنما كان مرتبطا بأزمات ومشاكل اقتصادية حادة داخل بريطانيا أدت بحزب العمال البريطاني إلى اتخاذ قرار بالإنسحاب من المناطق المعروفة بشرق السويس. ولذلك فإن خروج الإستعمار من هذه المنطقة لم يكن يعني تحقيق الطلاق بينه وبين مستعمراته السابقة. فقد أبقت بريطانيا على معاهدات صداقة وعلاقات سياسية واقتصادية وعسكرية متينة مع أقطار الخليج العربي الحديثة الإستقلال. كما بقي خبراؤها ومستشاروها يساعدون في إدارة شؤون الدولة والحكم.
وهكذا فإن الخروج “السلمي” للإستعمار البريطاني من منطقة الخليج العربي أسهم في تكريس الآيديولوجيا القطرية المحافظة، وساعد على إبقاء رموزها ومرتكزاتها، كما أسهم انتاج النفط بغزارة وتصحيح أسعاره في اعطاء هذه الأيديولوجيا مشروعية البقاء، وجعلها بمأمن عن رياح التغيير.
كما تجدر الإشارة إلى أن النفط ضاعف من اهتمام السياسة الأمريكية بشكل خاص، وسياسات الدول الصناعية الأوروبية بشكل عام، بالوطن العربي. فمنذ منتصف السبعينيات توسع بشكل حاد مركز اهتمام هذه السياسات، بدلا من تركيزه على بؤرة التوتر الدائم (منطقة الصراع العربي- الإسرائيلي) ليشمل منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية[21].
لقد كانت أهمية الوطن العربي الإستراتيجية قبل اكتشاف النفط تكمن في أنه يعتبر نقطة الوصل بين آسيا وأفريقيا. وكانت لممراته البحرية، مضيق هرمز، باب المندب، قناة السويس… أهمية قصوى في الحسابات العسكرية والصراعات بين الدول الكبرى. وكان قرب موقعه من الإتحاد السوفياتي (سابقا) يعطيه أهمية خاصة في الصراع بين العملاقين: الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي.
إلا أن اكتشاف القنبلة النووية والصواريخ العابرة للقارات بعد الحرب العالمية الثانية أدى إلى تضاؤل الأهمية الإستراتيجية للوطن العربي في حسابات الدول الكبرى، حتى وإن بقيت لممراته المائية أهمية خاصة كونها لا زالت تشكل مراكز تلاق في المواصلات البحرية وطرق التجارة الدوليتين.
على أن اكتشاف النفط بكميات غزيرة وهائلة أعطى أبعادا جديدة لأهمية الوطن العربي. فالنفط هو العصب المحرك للصناعة، وبالتالي فإن سهولة تدفقه ضمان لاستمرار حضارة الغرب، ولذلك لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد سلعة من السلع الإستهلاكية.
ولذلك فحين هدد الحكام العرب تحت ضغط الأحداث في المنطقة العربية، أثر حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973م، بإمكانية استخدامهم النفط كسلاح سياسي للضغط على الدول الغربية كي تلتزم بمواقف متوازنة في الصراع العربي- الإسرائيلي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتردد منذ تلك الفترة من الإشارة إلى إمكانية استخدام القوة المسلحة لحماية ضخ النفط ولمواجهة تهديد الأنظمة العربية بقطع تصديره عنها وعن حلفائها. وظل موقفها من هذا الموضوع يتخذ أشكالا أكثر عدوانية في بداية الثمانينيات حين أعلن الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر عن تشكيل ما دعي في حينه بقوة الإنتشار والتدخل السريع في المنطقة العربية.
وقد تزامن ذلك التشكيل مع إعلان آخر للرئيس كارتر في كانون الثاني/ يناير عام 1980م، أن الخليج العربي يمثل إحدى مناطق المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وأن أمريكا ستستخدم كل الأساليب، بما في ذلك القوة العسكرية، لمواجهة أي تهديد خارجي يتعرض له. وجاء الرئيس الأمريكي رونالد ريغان فيما بعد ليؤكد استمرارية هذا التوجه، وليطرح استعداد بلاده للتدخل العسكري لمواجهة أية قلاقل داخلية في السعودية والخليج العربي[22].
إن تحقيق الوحدة العربية التي هي سبيل العرب الوحيد لتحقيق الإستقلال السياسي والإقتصادي والنهوض الحضاري، ووضع مصادر الثروة القومية كافة، وفي مقدمتها الثروة النفطية، بخدمة قضايا الأمن القومي العربي، هي في المنظور الإستعماري تهديد مباشر للمصالح الغربية في المنطقة يجب وقف زحفه، وهذا إن لم يتم بغزو مباشر كما اقترح كارتر في مشروع قوة الإنتشار والتدخل السريع، وكما حدث فعلا أثناء حرب الخليج عام 1990م، فإنه يتم عن طريق العصا الرادعة، اسرائيل، بحيث تتمكن بمفردها، عن طريق تدعيم قوتها العسكرية، أن تحول دون قيام نظام دفاع عربي مشترك يكون نواة لوحدة عربية شاملة في المستقبل.
ومن جهة أخرى، أدى إدراك الدول الإستعمارية الغربية لأهمية النفط إلى طرح مشاريع لتكتلات وأحلاف اقليمية على أسس غير قومية، كالحزام الأمني لمنطقة الشرق الأوسط، والحلف الإسلامي، ومشروع ملء الفراغ في شرق السويس أثر الإنسحاب العسكري البريطاني من منطقة الخليج العربي في أوائل السبعينيات.
على أن أثر النفط في تداعي الحركة القومية لا يرتبط فقط بتزايد الأهمية الإستراتيجية للمنطقة، وتزايد احتمالات العدوان الخارجي على الأمة العربية، بل بتأثيراته في البنيان الإجتماعي والعمل السياسي والتطور الإقتصادي بالوطن العربي مساهما في خلق بنى قطرية هلامية، تستمد قوتها من استمرار تدفق النفط وتزايد عائداته لتشكل ركيزة أساسية من ركائز التجزئة.
فقد قسم الوطن العربي إلى دول غنية وأخرى فقيرة، مما أدى إلى خلق حالة من التمايز الإجتماعي مختلفة تماما عن الحالة التي كانت سائدة قبل اكتشاف النفط. فالتقسيم الطبقي داخل المجتمع العربي أخذ بعدا جديدا يضاف إلى الأبعاد السابقة. إنه ليس فقط صراعا طبقيا ضمن بنيان اجتماعي متجانس يتشكل من أقلية غنية وأغلبية ساحقة تعاني الفقر والحرمان، بحيث يؤدي هذا الصراع وتفاعله إلى تذمر وغضب وثورات اجتماعية، كما هو الحال في المجتمعات الإنسانية الأخرى، لكنه يقسم الوطن العربي بشكل أفقي حاد إلى أقلية من الأقطار العربية ذات الكثافة السكانية المتدنية، تمتلك الجاه والثروة، وأغلبية من الأقطار العربية ذات الكثافة السكانية العالية، تعاني الفقر والجوع. وهكذا فإن الصراع الطبقي ليس داخل البنيان الإجتماعي الواحد، لكنه بين مجموعات متمايزة متباينة تحتمي خلف سياج التجزئة. فالأنظمة الثرية ترى في هذا السياج ضمانا لاستمرارية بحبوحتها ورخائها. وهي بحكم ما توفره لها السيولة النقدية من ثروة لا ترى موجبا لها للسعي إلى الوحدة مع الأقطار العربية الفقيرة التي يمكن عن طريق الرشوة والمساعدة أن تكون جزءا من النظام السياسي العام المطلوب استمرارية وجوده.
لقد مكنت الثروة النفطية الأقطار المنتجة من مواجهة المتطلبات الرئيسية لشعوبها وتلبيتها، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه الأقطار قطعت شوطا كبيرا في مجالات عديدة، كتحقيق مجانية التعليم وتوفير العلاج والضمان الإجتماعي. وبنت شبكة واسعة من الطرق والهواتف وخطوط المواصلات الأخرى، ودخلت مرحلة التمدين بشكل واسع وسريع. فقد مكنتها أموالها من استكمال بناء مؤسسات الدولة بفروعها وتشعباتها كافة، واستطاعت جلب الخبراء والمستشارين وأغدقت عليهم الرواتب والمخصصات لمساعدتها في تنفيذ خططها وبرامجها. لقد بقيت هذه الدول إلى ما قبل اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية تعيش أمنا واستقرارا نسبيا تحسد عليه.
وهكذا عكس الوضع الجديد نفسه في توجهات ايديولوجية وسياسية مغايرة لمرحلة النهوض القومي في المنطقة العربية التي سادت إبان الخمسينيات وبداية الستينيات. لقد أصبح التوجه في السبعينيات وبداية الثمانينيات مكرسا للحديث عن التضامن العربي، وتحقيق السلام العادل، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، والحقوق المشروعة للفلسطينيين، وحقوق الدول العربية في اختيار النظم السياسية التي تلائمها، كما أصبح من الطبيعي أن ينبري كتاب مشهورون، ممن عرفوا بمواقفهم الوطنية والقومية للتبشير بحقبة سعودية أو حقبة نفطية.
ويبدو هذا التطور، إذا ما تم وضعه في إطاره التاريخي، منطقيا وطبيعيا. فالقوة الإقتصادية لأي نظام سياسي ستؤدي إذا ما أحسن استخدامها إلى فرض أيديولوجية هذا النظام وتوجهاته على الأنظمة والجهات التي بمسيس الحاجة إلى أمواله.
لقد أسهم النفط بشكل فاعل ومؤثر في ترسيخ الأيديولوجية القطرية على مستوى الوطن العربي. ففي الأقطار النفطية الغنية، جرى اعتماد البرامج الإعلامية والتعليمية والثقافية على أساس من تقديس للدولة القطرية وعلمها ونشيدها الوطني. وأصبح من الطبيعي جدا الحديث عن مسرح كويتي وأغنية مصرية وشعر عراقي ورقصة مغربية وفولكلور تونسي، وهكذا.. وقد أدى ذلك، خصوصا في دول الخليج والجزيرة العربية، إلى تعميم حالة من الإعتداد بالإنتماء إلى القطر بدلا من الإنتماء إلى الأمة.
كما أسهم النفط بشكل فاعل ومؤثر في إحياء الرممية السلفية، حين فتحت أقطار عربية عديدة أبوابها منذ أوائل الخمسينيات وحتى نهاية السبعينيات لبقايا قيادات الإخوان المسلمين الفارين من مصر وسوريا، وعناصر حزب التحرير الإسلامي، ليمارسوا دورهم في قيادة الأعلام والثقافة والتربية في تلك الأقطار. وقد أسهمت هذه العناصر من خلال تلك المواقع، وباسم الدين والثقافة في تعطيل الوعي القومي وتوجيه مسيرة التعليم بما يخدم توجهاتها السلفية.
لكن تشجيع هذه العناصر على الدور المعادي لفكرة العروبة والقومية، من قبل تلك الأنظمة، والذي كان القصد منه تدعيم توجهات الأنظمة المحافظة، حمل في ذاته بذور تناقضاته، إذ ما لبثت الإتجاهات السلفية في بنيتها التحتية أن اصطدمت بالنمو الرأسمالي وعلاقاته بالتبعية الإقتصادية للدول الغربية كما اصطدمت بمحاولات التمدين التي سادت منذ منتصف السبعينيات مع ما صاحب تلك المحاولات من فساد وإسراف يعتبران مناقضين لروح التقشف والزهد اللذين شجع عليهما الدين الإسلامي الحنيف. وبالتالي فقد تم النظر إلى الممارسات التي صاحبت عملية التمدين، من وجهة نظر السلفية الدينية، على أنها تحمل بذور ومضامين مادية متعارضة مع جوهر العقيدة الإسلامية.
ومن هنا فإن اتجاه الرفض للفساد والتخلف في تلك الأقطار اتخذ طابعا سلفيا معاديا للفكرة القومية منذ منتصف السبعينيات. وقد ساعد على ذلك أن الدول التي ترفع شعارات القومية والتقدمية بالمقارنة مع الدول النفطية التقليدية أكثر تسلطا وارهابا، وأسوأ اقتصادا وفقرا من تلك الأقطار التي تلتزم بمناهج محافظة، مما غيب امكانية المفاضلة الأيديولوجية بينهما بما يخدم حركة الثورة العربية. وهكذا، فحين بدأ الرفض للمنهج المحافط يأخذ مكانه، لم يكن البديل الفكر القومي والحركة القومية، بل النهج السلفي والحركة السياسية السلفية.
ومن جهة أخرى، ساهمت أموال النفط في إطالة عمر الأنظمة البورجوازية الصغيرة التي كانت عرضة للسقوط بسبب فشلها في مواجهة العدوان الصهيوني والدفاع عن الأرض العربية، وعجزها عن توفير الأمن الغذائي لشعوبها. لقد مكنت أموال، دعم الصمود، النفطية هذه الأنظمة من الوقوف على قدميها، والتصدي بعنف وقوة لأشكال المعارضة السياسية كافة. فبدلا من أن تكون نتائج الإحتلال الصهيوني للأرض العربية سقوطا للحكام الذين تسببوا في إلحاق الهزيمة ومحاكمتهم بتهم الخيانة، جرت الأمور، والفضل هنا للملك النفط، بشكل مغاير تماما… فقد أسقط هؤلاء الحكام “القوميون” من قواميسهم أيديولوجياتهم القومية وتوجهاتهم الإشتراكية، واستعاضوا عنها بشعارات أخرى غير متعارضة مع منهج الأيديولوجيا النفطية وروحها.
هكذا التقت، بفعل تأثير النفط، قوى البورجوازية الصغيرة والسلفية السياسية الدينية والدول النفطية المحافظة على رفض فكرة القومية العربية والوحدة، على الرغم من التناقضات التي تحكم علاقاتها بعضها ببعض.
وحين هبت رياح الإعصار السلفي في منطقة الخليج، اثر انتصار الثورة الإيرانية وسقوط الشاه ومجئ الخميني إلى الحكم، وجدت الدول النفطية بديلها عن الوحدة العربية في مجلس التعاون الخليجي الذي يشكل عمليا لقاء الأقطار العربية النفطية في المشرق العربي، باستثناء العراق الذي يختط لنفسه سياسة مغايرة منذ 14 تموز/ يوليو عام 1959م لسياسات جيرانه في الخليج العربي. ومع كل ما قيل عن الخطوات التي قطعها المجلس على طريق تحقيق وحدة الأعضاء المرتبطين به، فإن دوره بقي احتفائيا، ولم يتجاوز التنسيق بين الجهات الأمنية في تلك الأقطار بما يضمن مراقبة الأوضاع السياسية والأمنية في الداخل بهدف حماية الأنظمة التابعة للمجلس.
وحتى هذا الهدف الضيق، لم تتمكن دول المجلس من تحقيقه. وكان موقفها إبان أزمة الخليج عام 1990م، وفتحها الأبواب مشرعة للقوات الغربية الحليفة لتستعيد لها الكويت، هو الدليل العملي على عجز هذه الأنظمة بمفردها عن الإضطلاع بحماية سيادتها وأمنها الوطني. كما تؤكد صراعات الحدود الجارية الآن في السر والعلن بين دول الخليج العربي على أن الأمن الحقيقي لمنطقة الخليج والجزيرة العربية لا يمكن أن يتم خارج إطار الأمن القومي العربي الجماعي وتحقيق الوحدة العربية.
ومن جهة أخرى، أتاحت الطفرة النفطية رفع مستوى المعيشة في الأقطار العربية المنتجة للنفط، الأمر الذي أدى إلى مضاعفة حالة التضخم في عديد من الأقطار العربية. وقد تم ذلك على أسس غير متوازنة عطلت من إمكانية حدوث تنمية حقيقية على أساس التصنيع والتحديث الزراعي. الأمر الذي أدى بنتائجه إلى تعطيل خلق القوى الإجتماعية القادرة على قيادة مشروع العمل القومي، وخلق تبعية خارجية مريعة جعلت اقتصاد العرب مرتبطا بحدة أكثر بالدول الإمبريالية. وعلى المستوى الشعبي، فإن ممارسات البورجوازية الصغيرة وأنظمتها الحاكمة الرافعة في ما مضى شعارات الوحدة، أسهمت في خلق رأي عام عربي يعتقد بأن “المثل الأعلى الوحدوي ما هو إلا ذريعة بين أيدي حكام يعوزهم سند الشعبية والشرعية للقيام بحركات مسرحية ينتزعون بها تصفيق الجماهير، في الوقت الذي تقوم فيه سياستهم على العنف والإرهاب”[23]. وهكذا تولدت فكرة مؤداها أن الوحدة العربية لا تعني غير مراكمة التخلف والإنقطاع الثقافي وارضاء نزوات الطغمة العسكرية الحاكمة، وعلى هذا فإن من الأفضل للشعب ترك الحديث عنها.
وقد ساعد هذا الواقع المأساوي، مضافا إليه تفشي مظاهر الحقبة النفطية على أن ينحصر اهتمام نخبة المجتمع العربي منذ بضع سنوات بالتجارة والإدارة وتسيير مشاريع الثروة النفطية بشكل أو بآخر، التي هي في حقيقتها نتاج فرعي لتصنيع المجتمعات المتقدمة الأخرى. كما توجه القسم الآخر من هذه النخبة إلى أداء دور الوسيط للشركات الدولية الكبرى، مما أدى إلى خلق جو مناسب للصفقات الإحتيالية اللاأخلاقية والفساد والرشوة.
كما أدى تراكم السيولة النقدية، الناتج عن ارتفاع معدل انتاج النفط والتصحيح النسبي في أسعاره إلى أن يندفع أثرياء الخليج العربي والمملكة العربية السعودية والمصارف الأجنبية إلى الأقطار العربية ذات الموارد المالية المحدودة، كمصر والسودان، لابتياع أضخم البنايات وأحسن الأراضي، بحيث نتج عن ذلك تضاعف الإيجار مئة مرة في بعض المناطق إذا كان المستأجر أجنبيا. وقد تسبب هذا الأمر في خلق أزمة سكنية حادة في مناطق تعاني وطأتها أشد المعاناة الطبقات المتوسطة والشعبية. و “لقد أناخ النفط برهيب وطأته على الأجور والرواتب أيضا، نظرا لأن الشركات الأجنبية راحت تتهافت على من يهاجر من أفضل التقنيين والمستخدمين إلى الخليج العربي بحثا عن الثروة، أو عن وظيفة مريحة. ولقد سرع ذلك بتدهور الإنتاج الزراعي في البلدان العربية، حيث تعاظمت الهجرة الريفية وتسارعت إلى المدن”[24].
وقد أسهمت هجرة العمالة العربية إلى الأقطار النفطية هي الأخرى في ترسيخ النظرة القطرية، كنتيجة طبيعية للعسف الذي يلقاه العمال العرب في تلك الأقطار. ومن المثير للسخرية أن بعض الأقطار العربية تتبع سياسة تفضيل العامل الآسيوي على العامل العربي، وتضع حصصا للعمالة العربية، نتيجة لقلة الأجور التي تدفع للعامل الآسيوي قياسا إلى أجر العامل العربي. كما أن عملية توظيف العمال العرب في الأقطار العربية النفطية كانت ولا تزال مرتبطة بعلاقات الدولة النفطية مع القطر الذي قدم منه العامل العربي. ولذلك لعبت العلاقات السياسية بين الحكام العرب ولا تزال دورا مهما في هذا المجال[25].
ومن جهة أخرى، ترتب على هجرة العمالة العربية إلى الأقطار النفطية انخفاض انتاجية العمل في مختلف القطاعات في الأقطار التي هاجرت منها قوة العمالة العربية، وارتفاع أجور قوة العمل في تلك الأقطار بما لا يتناسب ومستوى الدخل الوطني لهذه الأقطار. وقد أسهم ذلك في ارتفاع كلفة المشتريات الإنمائية في الدول العربية غير النفطية، وفي أسعار الأراضي بسبب تزايد الطلب عليها.
وهكذا جاءت جميع هذه المتغيرات مناقضة لإرث الطروحات القومية في الوحدة وتحقيق العدالة الإجتماعية.
وحين شنت اسرائيل هجومها على المقاومة الفلسطينية في لبنان واستباحت مدينة بيروت، أحد المعاقل الأخيرة المتبقية للثورة العربية، كانت المنطقة بأسرها، خصوصا النفطية منها، قد أتخمها النفط والسلع الإمريكية الإستفزازية، وامتلاك الأبنية والقصور الفخمة في الدول الغربية[26].
في هذه الأثناء، كانت ردود فعل غاضبة عنيفة تختمر في البنيان الإجتماعي للأمة، وكان الشعب العربي، في محاولة منه لتحقيق توازنه، يستمد حيله الدفاعية من ماضيه في وجه محاولات التغريب. وفي وضع مليء بالقنوط والتذمر، كانت ردة فعل الشعب المسحوق على دور النفط هي المشاركة في الحفل المرعب المخضب بالدم، والهادف إلى تحقيق انتحار جمعي أو استشهاد، لا فرق بينهما، وإحياء الرممية السلفية الدينية التي كان الإعتقاد في الستينيات سائدا بأنها قد اختفت للأبد… لقد خذلت الجماهير العريضة في نخباتها، تلك التي كانت تحمل لواء القومية العربية والنزعة الجذرية، فقد رأى الشعب تلك النخبات في ظل حقبة النفط تتحول إلى مجرد أبواق فارغة تردد رجع الخزعبلات الفكرية والآيديولوجية للسلاطين[27]. فكان الهروب إلى الماضي، والتفاعل مع رموزه – الحركة السياسية الدينية- هو طابع المرحلة التي عصفت بالمنطقة منذ أواخر السبيعينيات وحتى يومنا هذا، ولكن إلى حين…
ثالثا: المعالجات القطرية لقضايا الأمن القومي العربي
مما لا شك فيه أن الوطن العربي يعاني، باتفاق الجميع، مشاكل اقتصادية وتنموية تتمثل في استمرارية حالة التخلف والتبعية وعجز معظم الأقطار العربية منفردة عن تلبية المتطلبات الأساسية لشعوبها. كما يواجه الوطن العربي مشاكل اثنية “قومية” ترتبط بوجود أقليات قومية، تناضل من أجل تثبيت هويتها الثقافية والتاريخية، وتصبو إلى تحقيق العدالة والمساواة. وكانت هذه الأقليات ولا زالت أحد أهم الأدوات الرئيسية التي استخدمتها القوى الإستعمارية والدول الكبرى لتفجير الأوضاع الداخلية في الأقطار العربية التي توجد فيها هذه الأقليات، كما حدث في الماضي، وكما هو حادث الآن في شمال العراق وجنوب السودان.
ومن جهة أخرى يواجه الشعب العربي مشاكل اجتماعية تتمثل في سيادة أنماط من التقاليد البالية والعادات المعوقة لعملية التطور والنهوض الإجتماعي، ومشاكل أخرى سياسية ترتبط بهيمنة مجموعة من الأنظمة العشائرية المتسلطة في معظم أنحاء الوطن العربي، وفي بقاء أجزاء عديدة من الأراضي العربية تحت الإحتلال الأجنبي.
وقد جرت مواجهة هذه التحديات القومية منذ البدء على أسس قطرية بحتة. فالأنظمة العربية لم تتخذ حتى الآن قرارا عمليا واحدا بالتصدي الجماعي لأي من هذه التحديات، مما خلق شعورا عاما لدى الشعب العربي في هذه الأقطار بأنه وحده الذي يتحمل مواجهة مشاكله الخاصة وأن بقية العرب متفرجون، وفي أحسن الحالات فإنهم يكتفون بإعلان التضامن والتأييد، أو تقديم عون هو ما دون الكفاف.
ففي ما يتعلق بمواجهة الإعتداءات الصهيونية على الأمة العربية، على سبيل المثال، نجد أن القطر المصري دخل حتى الآن أربع حروب رئيسية ضد الكيان الصهيوني: حرب عام 1948م التي انتهت بنكبة فلسطين، والعدوان الثلاثي الغاشم عام 1956، وحرب حزيران/ يوينو 1967 الــتي انتهت باحتلال اسرائيل للضفة الغربية بأكملها، وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، وحرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 التي تحقق فيها عبور القوات المصرية لقناة السويس وتحطيم خط بارليف، هذا عدا عن حرب الإستنزاف التي خاضتها مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ضد الصهاينة بعد نكسة حزيران/ يونيو عام 1967م لأشهر عدة، والخروقات الصهيونية المتكررة لوقف اطلاق النار بعد كل حرب. وقد كان لمصر الدور الأساسي في قيادة الصراع والمواجهة ضد العدو الإسرائيلي.
ومما لا شك فيه، أن وجود الكيان الصهيوني في المنطقة العربية هو أكبر تهديد للأمن العربي بأشمله. ومع ذلك فإن التهديد الصهيوني المباشر للأمن القومي العربي لم يواجه أبدا بموقف عربي موحد. فلقد تخاذلت الأنظمة العربية في معظم الحروب التي شنتها إسرائيل ضد الأقطار العربية عن تقديم الدعم والعون المطلوبين لضمان انتصار القضية العربية، الأمر الذي خلق شعورا عاما بالإحباط والإستياء لدى الشعب العربي في تلك الأقطار، خصوصا في مصر، من جراء عدم تحقق قومية المعركة.
ففي حرب 1967م، دخلت دول المواجهة العربية: مصر وسوريا والأردن، وحدها الحرب، وكانت نتيجة هذه الحرب بالنسبة للشعب العربي في مصر خسارة باهضة في المال والرجال، واحتلال شبه جزيرة سيناء بأكملها، واغلاق قناة السويس، وتوقف الحركة السياحية، وتعبئة أكثر من نصف مليون رجل تحت السلاح، ووجود مليون مهجر من منطقة قناة السويس في القاهرة.
وعلى الرغم من كل ما قيل عن مساعدات مالية ضخمة قدمتها الدول النفطية لدعم صمود مصر، فإن تلك الأموال ما كانت لتعوض آنئذ حتى عن العملات الصعبة التي فقدتها مصر من جراء إغلاق قناة السويس[28]. ولم يكن وضع الأنظمة العربية تجاه المشاركة في “معارك التحرير” ضد العدو الصهيوني في المعارك الأخرى بأحسن حال، فقد بقيت الأنظمة العربية في جميع تلك الحروب، باستثناءات قليلة جدا، وكأنها غير معنية بالأمر.
وقد أدت الأوضاع الإقتصادية السيئة التي كان ولا يزال يعاني تبعاتها الشعب المصري، والموقف اللامكترث من قبل الأنظمة العربية لتلك الأوضاع، إلى نجاح الرئيس السادات في قيادة حملة اعلامية مكثفة، خلاصتها أن سوء أوضاع مصر الإقتصادية هو بسبب دفاعها عن العرب المشغولين بتجميع ثرواتهم. وأن خلاص مصر من جميع مشاكلها الإقتصادية سيتحقق بمجرد الإنفصال عن الوطن العربي، وتحقيق الصلح مع اسرائيل، وإعادة بعث الحلم الخديوي القديم بجعل مصر جزءا من حضارة الغرب[29].
ضمن هذا التوجه، نشط الإعلام المصري في شن حملة معادية للعروبة والفكر القومي، بل ولمبدأ التضامن العربي بشكل عام. فجريدة الأهرام، خرجت بمجموعة من الكاريكاتيرات المعادية للعرب، كان أحدها يتضمن معنى ساخرا باستعداد الأمة العربية لقتال العدو الصهيوني حتى آخر جندي مصري. وكتب لويس عوض في الجريدة نفسها يقول للشعب العربي المصري بأن العروبة لون من ألوان النازية[30]، متهما دعاتها بتضييع هوية مصر، حين حولوا اسمها إلى الجمهورية العربية المتحدة… ومطالبا ليس فقط بالتخلى عن الفكرة العربية، وإنما بالتخلي أيضا عن اللغة العربية الغريبة عن تاريخ شعب مصر وثقافته، واستبدالها باللهجة العامية.
وقد رأى توفيق الحكيم أن حل مشاكل مصر في حيادها، مؤكدا أن قضية العرب ليست واحدة، “لأن كل دولة عربية لها قضيتها ومواقفها التي تهمها في المقام الأول”[31].
والحقيقة أن هذه الأقوال وغيرها من المواقف المعادية للحركة القومية ما كانت لتجد طريقها إلى قلب المواطن المصري، وتؤثر بشكل سلبي في مسيرة العمل الوحدوي لولا وجود الأرضية الملائمة لقبولها، تلك الأرضية التي خلقها الموقف العربي الرسمي اللامبالي تجاه نتائج العدوان الصهيوني على مصر، وتجاه معاناة شعب مصر.
ومثل هذا الإستنتاج يمكن أن يصدق أيضا على الحرب التي دارت رحاها ثماني سنوات بين العراق وإيران. فالدول العربية التي وقعت جميعا على ميثاق الدفاع العربي المشترك الذي يعتبر أي اعتداء خارجي على أي قطر عربي عدوانا على البلدان العربية جميعا، بقيت باستثناء بعض الدول الخليجية، متفرجة ثماني سنوات. ومهما كانت مبررات عدم إسناد العراق في حربه مع إيران، فالنتيجة الواضحة هي أن العراق بقي يتصدى عسكريا بمفرده للدفاع عن سيادته واستقلاله، بل أن بعضا من الأنظمة العربية ولأسباب خاصة بها لم تكتف بالوقوف متفرجة، ولكنها جاهرت بالوقوف في الخندق المواجه للعراق، وشجعت على استمرار الحرب، وأعلنت عن اسنادها لإيران. وفي أحيان أخرى، تعدى وقوف بعض الأنظمة مع إيران في حربها حدود التضامن الإعلامي ليصل إلى حد تزويدها بأسلحة القتل والدمار، لتقصف بها مدن العراق، وليجد العراقيون أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه. فهم لا يواجهون فقط بمفردهم مسؤولية الدفاع عن أراضيهم، ولكن عليهم أيضا أن يكونوا متحسبين للطعنات التي تأتيهم من الخلف عن طريق المال والسلاح الذي يقدمه أشقاؤهم لإيران.
والنتيجة المؤكدة أن موقف هذه الأنظمة لم يساعد على نمو حركة القومية العربية والعمل القومي، بل ساهم مع غيره من المواقف في خلق حالة من العجز واليأس تجاه الطموح الكبير في إقامة الدولة العربية الواحدة. ولذلك حل الإعتزاز بدور القطر بدلا من الإعتزاز بدور الأمة، وببطولة الجندي العراقي، بدلا من الإعتزاز ببطولات الأمة العربية، وقد غدا ذلك ملحوظا بوضوح كأحد مظاهر النشاط الإعلامي في العراق أثناء حربه مع إيران.
وكانت أزمة الخليج عام 1990م هي الطامة الكبرى، حين اجتاح الجيش العراقي أرض الكويت، فلقد تداخلت الخنادق العربية وتناقضت وتضاربت، وعجز العرب عن تحكيم العقل واتخاذ قرارات عملية تسهم في ربط ما انفصم من عرى التضامن العربي وتحفظ للشعب العربي في الكويت كرامته وحريته واستقلاله في الوقت الذي تؤمن فيه للعراق قوته العسكرية والإقتصادية، وتصد عنه شر المتربصين، فكانت النتيجة تدمير القوة العربية في العراق والكويت معا، واستنزاف الخزينة العربية من مدخراتها. وأسوأ من ذلك بكثير ما جسدته تلك الأزمة من عجز الأمة العربية الشامل عن تقرير مصائرها وأقدارها.
وفيما يتعلق بقضايا الأقليات، فإنه لو أمعن التفكير فيها، لاتضح أن بروز ظاهرة المطالبة بالإستقلال من قبل هذه الأقليات هو أيضا حاصل واقع التجزئة. إن الإنسان العادي ليشعر بالفخر والإعتزاز حين يكون جزءا من دولة كبيرة قوية يصعب اختراقها من قبل الغير، ولذلك يفاخر العرب بالعصور الذهبية في تاريخهم، لكن الأمر لا يكون كذلك حين تكون وحدة الأمة ممزقة، وحين تكون هويتها عرضة للمساومة والضياع.
إن الأمم القوية في اقتصادياتها ونظمها السياسية والقادرة على الدفاع عن سيادتها واستقلالها هي في الغالب أقل عرضة من غيرها لمشاكل الإنتماء والهوية. فلا أحد يتوقع انفجار صراع إثني في الزمن الحاضر في دولة كبيرة كالولايات المتحدة الأمريكية، وهي التي تضم مجموعات كبيرة غير متجانسة أصلا في تقاليدها وثقافاتها، حيث يشكل السود والمنحدرون من أصول أسبانية نسبة كبيرة من عدد السكان، ومع ذلك فإن الجميع قد امتزج بالحضارة الأوروبية، ولم تبرز في هذا البلد مشاكل اثنية تذكر، عدا تلك التي ارتبطت بحركة السود في بداية الستينيات، وهي على كل حال، لم تتضمن مطالب قومية خاصة، بل كانت في جانب كبير منها نضالا ضد التفرقة العنصرية، وكفاحا في سبيل المساواة في الحقوق المدنية، من أجل إتاحة فرص متكافئة في العيش والعمل كتلك التي يتمتع بها الجنس الأبيض.
وليس غريبا أن الإتحاد السوفياتي (السابق)، الذي كان الدولة الكبرى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية في ظل الحرب الباردة، قد استمر قائما أكثر من سبعين عاما متواصلا، على الرغم من وجود مجموعة من القوميات، وعلى الرغم من أن بعضا من شعوبه ضم إلى الدولة السوفياتية عسكريا إبان اشتعال الحرب العالمية الثانية. وقد بقي الحال كذلك إلى أن نخرت الدولة بفعل عفن البيروقراطية والإنهيار الإقتصادي، فكان انهيار الدولة من الداخل تعبيرا عن شيخوختها أكثر مما هو تعبير عن بروز قوى اجتماعية جديدة فاعلة ومؤثرة.
أما إذا اتجهنا إلى الدول الصغرى، فإننا نلاحظ أنه كلما ضعفت مقاومة البلد وساءت أوضاعه الإقتصادية والإجتماعية، كان أكثر عرضة للمشاكل الإثنية. وبإمكاننا تقديم الكثير من الأمثلة للتدليل على صحة ذلك. فليس ببعيد عن ذاكرتنا انفصال بنجلاديش عن دولة باكستان، ولا محاولات استقلال بيافرا عن نيجيريا. وفي المرحلة الحاضرة، هناك حركات اثنية نشطة تعمل للحصول على الإستقلال في ايرلندا وسيرالانكا والفلبين واسبانيا وراوندا… وجميع هذه البلدان تعاني مشاكل اقتصادية وسياسية، وهي بالتأكيد ليست في عداد الدول العظمى، باستثناء بريطانيا، التي لا زالت تقتات من ذكرى مجدها “تاريخ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، وهي قوة لا تستند على سند مادي، وإنما هي مكانة لا زالت تحتفظ بها بسبب نتائج الحرب العالمية الثانية، وتقاسم مراكز القوى بين القوتين الأعظم.
وعلى هذا الأساس، فإن حركات التمرد الإنفصالية التي قامت بها الأقليات القومية في الوطن العربي هي النتيجة الطبيعية لواقع التردي الذي هو انعكاس لواقع التجزئة. فتمزق الأمة إلى أجزاء ينتج منه تقسيم الجزء إلى أجزاء أصغر… هكذا تتوالى حالات التداعي بشكل متتال ليس من الممكن الجزم أين تقف حدوده.
فالتجزئة إذن، من هذا المنطلق، مسؤولة عن محاولات الإنفصال المستمرة للأقلية الكردية في شمال العراق، ومسؤولة أيضا عن محاولات قرنق للإنفصال بجنوب السودان، بل مسؤولة عن كل حالات التمزق والتفتت والضياع التي تمر بها الأمة العربية الآن، فمصالح التجزئة وعقيدتها هي التي تدفع بالجزائر والمغرب إلى التطاحن حول الصحراء، بين مؤيد لإقامة جمهورية البوليساريو وبين معارض لها، وهي التي أدت إلى استعار الحرب الأهلية الطائفية الطاحنة في لبنان منذ عام 1975م… والتجزئة هي البيئة التي في ظلها نشطت محاولات خلق هويات طائفية تحل محل الولاء للأمة والوطن كالمارونية والشيعية والدرزية، أو بعث هويات مندثرة كالفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، والبربرية في المغرب، والإفريقية في السودان، وهكذا… بدعم وتأييد كاملين من القوى الإستعمارية التي ترى في بعث هذه الهويات أو خلقها ضمانا لاستمرار هيمنتها على الأمة العربية.
والحقيقة أن هناك جدلية واضحة بين التجزئة وبين نتائجها، فالتجزئة هي التي أدت إلى بروز هذه التحديات، لتكون معوقا رئيسيا من معوقات الوحدة والتطور.
فالأقطار العربية التي تواجه تحديات خارجية مباشرة بمفردها يتكون لديها احساس شديد بأن مسؤوليتها الراهنة هي مواجهة تلك التحديات دون غيرها. فحين غزت اسرائيل مدينة بيروت في صيف 1982م كان الجيش العراقي مشغولا في الدفاع عن مدينة البصرة، وكانت الحكومة العراقية تعتبر مسؤوليتها الأولى صد الإجتياح الإيراني في جنوب العراق وليس الدفاع عن مدينة بيروت المحاصرة بالصهاينة.
وليس غريبا أن يكون الوضع الإقتصادي المتدهور في مصر هو الذي مكن الرئيس السادات من قبل السير في طريق الإستسلام وتوقيع معاهدة كامب ديفيد دون خشية من غضبة الشعب المصري.
ولربما كانت حالة الصراع بين ليبيا وتونس، وليبيا ومصر، مسؤولة أيضا عن تقاعس أنظمتها في تقديم العون المادي للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية في قتالهما ضد الكيان الصهيوني، وهكذا..
لقد أثقلت القضايا القطرية على هذه الأنظمة، وفي أحيان كثيرة قدمت لها مبرر التهرب من مسؤولياتها القومية، وفي أحيان أخرى حجبت عنها المقدرة العملية عن المشاركة، إما بسبب تراكم الأحداث القطرية وثقلها، أو بسبب الضغط الشعبي المطالب بحل جذري لقضاياه. فليس ببعيد عن الذاكرة تلك المظاهرات الصاخبة التي طافت شوارع مصر في عام 1972-1973 مطالبة بانهاء حالة اللاحرب واللاسلم، واجتماع عدد من الكتاب والمفكرين المصريين وفي مقدمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ للمطالبة بإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم[32]. ولعل من المفيد التذكير بموقف الحركة الوطنية المصرية من قيام اتحاد الجمهوريات العربية الذي ضم مصر وسوريا وليبيا والذي أعلن عنه في 17 نيسان/ ابريل عام 1971م. فقد نظر إلى هذا المشروع “الوحدوي” من قبل القوى الوطنية المعارضة على أنه هدر لطاقات مصر، ومحاولة للتهرب من مواجهة الإحتلال الصهيوني لشبه جزيرة سيناء، وبالتالي فهو مؤامرة ضد تحرير الأراضي العربية المغتصبة.
وسواء صح هذا التحليل أو لم يصح، فالنتيجة أن الضغط الشعبي في مصر بعد عدوان الخامس من حزيران/ يونيو 1967م لم يكن باتجاه قضية الوحدة العربية، وإنما كان باتجاه تحرير الأراضي المصرية التي احتلتها اسرائيل في عدوانها عام 1967م، وباتجاه حل المشاكل الإقتصادية المستعصية، وعلى رأسها أزمة الخبز.
وهكذا فالنتيجة التي يمكن أن نخلص لها أن المشاكل القطرية التي عانى منها الوطن العربي، وطبيعة معالجتها من قبل الأنظمة العربية، كانت ولا تزال معوقا رئيسيا من معوقات العمل الوحدوي العربي.
خـاتـمة
تلك كانت باختصار الأسباب الرئيسية التي أدت إلى حالة العجز والتردي الراهنة في الواقع العربي، وهي على كل حال، ليست عوامل ثابتة ونهائية، أو عوامل مطلقة. فالفعل الإنساني هو الذي يصنع التاريخ، والإرادة الإنسانية، بالرغم من كل عوامل الضعف التي تنتابها، لها دورها الذي لا يستهان به.
فضعف التشكيلات الإجتماعية، والآثار السلبية لزيادة انتاج النفط وتصحيح أسعاره، والتحديات المصيرية التي تواجهها الأقطار العربية منفردة، ليست عناصر أصيلة في التاريخ العربي، بل دخيلة عليه، شأنها في ذلك شأن كل المتغيرات التي تصاحب انتقال المجتمعات الإنسانية الكبرى من مرحلة تاريخية رئيسية إلى مرحلة أخرى
فقد مرت أمم عديدة من قبلنا، بل لقد مررنا نحن أيضا بحالات تداع وحالات نهوض، وكانت الوحدة والحرية والإبداع مؤشرات رئيسية لمراحل النهوض، كما كان الإرهاب والشعوذة والسحر وضحالة الفكر مؤشرات لعهود التردي والسقوط.
هكذا كان التاريخ الإنساني دائما وأبدا…
فعندما حاصرت اسبارطة مدينة أثينا وأنزلت الهزيمة بها في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، تحولت السيادة السياسية من أثينا منبع الفلسفة اليونانية والفن، وكان نتيجة ذلك انحطاط نشاط العقل الأثيني واستقلاله. وعندما توفي القائد اليوناني الإسكندر المقدوني وبدأ التمزق والإنحدار يطبعان الحضارة اليونانية تدفقت على حضارة اليونان التي لازال العقل فيها فتيا الأفكار الخرافية وروح الإستسلام، وبدأ انتشار المذاهب الرواقية واللاأدرية والأبيقورية التي لم تكن تعني غير القبول بالهزيمة والإستسلام، ومحاولة تحقيق التوازن النفسي للشعب المهزوم، بإحلال اللذة والسرور بدلا من النضال والكفاح.
لقد برزت نظريات عديدة آنذاك حول كيفية بلوغ الإنسان السعادة على الرغم من ذل الإستعباد والخضوع، وجاءت فلسفة زينون الرواقية الجامدة لتحقق راحة البال للمهزومين، مقنعة إياهم أن النصر إذا كان مستحيلا ينبغي احتقاره، و “أن سر السلام يكمن في أن لا نجعل منجزاتنا متساوية مع رغباتنا” و “وإذا كان ما لديك لا يكفيك، عندئذ ستكون بائسا حتى لو ملكت العالم”[33].
وليس غريبا أن يتكرر بعث الفلسفة الرواقية القديمة في القرن التاسع عشر على يد رينان الإبيقوري البائس، بعد أن أجهضت الثورة الفرنسية التي رفعت رايات الحرية والإخاء والمساواة، وبعد أن فتك الثوار بعضهم ببعض، وأصبحت فرنسا محطمة وعرضة للإحتلال والضياع.
وقد أشار فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض إلى أن حالة العنف التي تسود مواسم الفرح وبعض الطقوس الدينية عند بعض القبائل الأفريقية تعبير خارجي عن التأزم النفسي والإرهاب والكبت الذي تجسده سيطرة المستعمر الأوروبي. إن رقصة السيف التي تذهب بالكثير من الضحايا من السكان الأصليين تعبير عن رفض غير خلاق للواقع القائم، بل رفض لعنف المستعمر يعبر عنه بعنف آخر غير موجه توجيها سليما. إن تنظيم الجماهير وتعبئتها وتحشيدها لمقاومة المستعمر، كما يرى فانون، كفيل بإزالة هذه الظواهر الإجتماعية السلبية، وهو وحده الذي يوجه العنف باتجاهه الصحيح ضد المحتل الأبيض[34].
وفي تاريخنا العربي، أمثلة حية متطابقة مع هذا التحليل، ففي مواجهة طغيان العصر الأموي برزت فلسفة المرجئة، قائلة بالجبرية وبتأجيل العقاب. أما فاجعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين بن علي فقد أدت إلى انتشار ظاهرة الحزن والرثاء في الشعر العربي، بحيث طبعت الحياة الأدبية في البيئة التي حدثت فيها الكارثة حتى يومنا هذا. بل لعلنا نستطيع القول بأن مراسيم عاشوراء، بما يتبعها من ضرب بالسيوف ولطم على الصدور في حقيقتها رفض سلبي عاجز لممارسات الظلم التي أحاقت بأهل بيت النبي في العصرين الأموي والعباسي، وحالات التأزم والكبت اللذين عاشهما الشعب العربي في العراق على أثر سقوط بغداد ومجئ التتار. ولعل مثل هذا القول يصدق أيضا على الكثير من ممارسات السحر والشعوذة التي تمارس في البيئة الأكثر تخلفا من وطننا العربي كطقوس الرفاعية في العراق والسيد البدوي في مصر.
وليس ببعيد ما حدث في كنيسة الزيتونة في القاهرة عام 1967م، حيث أعلنت أجهزة الإعلام المصري، وفي مقدمتها جريدة الأهرام على أثر نكسة الخامس من حزيران/ يوليو عن ظاهرة بروز السيدة العذراء في تلك الكنيسة، معلنة تضامنها مع شعب مصر في كفاحه من أجل إزالة آثار العدوان، بحسب تصريح وزير الداخلية آنذاك، السيد شعراوي جمعة.
هكذا تلجأ المجتمعات الإنسانية، حين تعجز عن مواجهة مصائرها وأقدارها، إلى الحيل الدفاعية لتحقيق توازنها النفسي، وهكذا أيضا استمد الشعب العربي حيله من ماضيه ليقاوم محاولات التغريب، فكان إحياء الرممية السلفية تعبيرا عن التداعي والإنهيار، بعد أن عجزت قيادات الحركة القومية عن تحقيق الحلم اللذيذ في التحرر والإنعتاق.
فالأمة العربية حقيقة تاريخية لا تحتاج إلى إثبات، والتوجه القومي ليس توجها طارئا على التاريخ العربي… وطريق الأمة إلى النهوض والإنبعاث هو طريق الوحدة العربية. ولأن قيادات الحركة القومية عجزت فيما مضى عن تحقيق هذا الهدف، بحكم ضعف تشكيلاتها الإجتماعية، وبحكم تعارض مصالحها مع تحقيقها، فإن على هذه القوى أن تندحر الآن عن مواقعها بالوطن العربي، وتفسح المجال لحركة التاريخ كي تواصل مسيرتها.
وعوامل التردي مهما كان حجمها أضعف من أن تقهر الفعل الإرادي الإنساني، والتغيرات الإجتماعية الكبرى في التاريخ هي ناتج مجموعة من التراكمات والتفاعلات التي تؤدي وظائفها بشكل ديالكتيكي غير ميكانيكي، ذلك لأن في الديالكتيك يولد السلبي نقيضه، ويبقى دور الإنسان وقدرته على الفعل الأساس في كل تغيير.
ففي روسيا، على سبيل المثال، لم تكن ظروف التشكيلات الإجتماعية قد اكتملت عام 1917م، ولكن ثورة تشرين الأول/ أكتوبر الإشتراكية انتصرت، وأخذت مكانها في التاريخ، وكان العامل الحاسم في تفجير تلك الثورة ليس نضح الحركة التاريخية للبروليتاريا، بل عبقرية قيادتها ونضجها.
والأمة العربية تمر الآن بمخاض تاريخي، وطريقها إلى التقدم أن تعبر مرحلة هوامش على دفتر النكسة، عهد التشاؤم وتقريع الذات والإنطلاق من نظرة سطحية في رفض كل ما هو قائم… تلك التي عبر عنها الشعر والمسرح والأدب العربي في الثلاثين سنة التي أعقبت هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967م.
إن مرحلة جديدة في التاريخ العربي تبدأ الآن، فالأطفال الصغار، قد كبروا الآن، وهم بثورتهم وحجارتهم في فلسطين الجريحة يقومون بعملية تطهير وبعث جديد للنفس العربية، وهم بذلك أيضا، يطبقون شرع الله في الزناة الصهاينة مغتصبي أرض فلسطين. ولا شك أن التهيؤ لهذه المرحلة الجديدة يقتضي فهم أسباب الهزيمة التي منيت بها الأمة. وتفكيك الظواهر وتحليلها وإعادة تركيبها هو الخطوة الأولى على هذا الطريق، إذ لا بد من كسر الجوزة لمعرفة ما في باطنها.
هوامش الفصل الرابع
[1] غالي شكري: النهضة والسقوط والسقوط في الفكر المصري المعاصر، )بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر)، الطبعة الثانية، عام 1982م، ص 135.
[2] يعتبر جورج أنطونيوس في كتابه اليقظة العربية أهم من أرخ لمرحلة الإنبعاث القومي منذ النصف الثاني للقرن التاسع وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى وتقاسم تركة السلطنة العثمانية في الوطن العربي بين الإستعمارين البريطاني والفرنسي.
[3] سمير أمين: التطور اللامتكافئ- دراسة في التكشيلات الإجتماعية الرأسمالية المحيطة. ترجمة برهان غليون، (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر)،عام 1985، ص 232.
[4] المصدر نفسه ص، 233.
[5] المصدر نفسه، ص 233.
[6] المصدر نفسه، ص 237.
[7] المصدر السابق، ص 238.
[8] غالي شكري: الثورة المضادة في مصر، (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر)،عام 1978، ص 26-2.
[9] المصدر نفسه، ص 194.
[10] هشام شرابي: البنية البطركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر. (بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر،)، عام 1987 ص 116.
[11] برهان غليون: بيان من أجل الديمقراطية. ط. 4 (بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية)، عام 1987 ص56.
[12] هشام شرابي: المصدر نفسه، ص 120-21.
[13] Frantz Fanon: The Wretched of the Earth, preface by Jean Paul Sartre, translated from French by Constance Farrington. (New York, Grove Press(, 1965) pp. 148-205
[14] سمير أمين: التطور اللا متكافئ- دراسة في التشكيلات الإجتماعية للرأسمالية المحيطة، ص248.
[15] المصدر السابق، 248.
[16] محمد أحمد محجوب: الديمقراطية في الميزان, (بيروت، دار النهار للنشر)، عام 1973م، ص178.
[17] المصدر نفسه، ص 178.
[18] المصدر نفسه، ص 183.
[19] المصدر نفسه، 231.
[20] المصدر نفسه، ص 245.
[21] محمد لبيب شقير: الوحدة الأقتصادية العربية، تجاربها وتوقعاتها. ج 2، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،)، عام 1986م، ص. 877.
[22] المصدر نفسه، ص 882.
[23] جورج قرم: انفجار المشرق العربي من تأميم قناة السويس إلى اجتياح لبنان، سلسلة السياسة والمجتمع (بيروت، دار الطليعة)، عام 1987م، ص 77.
[24] المصدر نفسه، ص 114.
[25] شقير، المصدر نفسه، ص 896.
[26] قرم: المصدر نفسه، ص 141.
[27] المصدر نفسه، ص 51.
[28] المصدر نفسه، ص 81.
[29] رجاء النقاش: الإنعزاليون في مصر، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر) عام 1976م، ص 9.
[30] المصدر نفسه، ص 150.
[31] المصدر نفسه، ص 165.
[32] محمد حسنين هيكل: خريف الغضب، قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات، ط 4 (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، عام 1983، ص. 126-133.
[33] ول ديورانت: قصة الفلسفة، (بيروت، منشورات مكتبة المعارف)، عام 1975، ص 126-128.
[34] Frantz Fanon, The wretched of the Earth, pp. 35-106.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-06-05