العلاقات السعودية الإيرانية والمتغيرات بالسياسية الدولية
د. يوسف مكي
في العاشر من هذا الشهر، مارس 2023م، صدر بيان عاجل عن عودة العلاقات السعودية الإيرانية إلى وضعها الطبيعي، وجاء في البيان أن جمهورية الصين الشعبية قد لعبت دور الوسيط بين البلدين، وأن المباحثات لتحقيق هذه الخطوة استمرت قرابة عامين، وأخذت مكانها في العراق وسلطنة عمان، بما استدعى تقديم واجب الشكر لقيادتي البلدين لاستضافتهما تلك المباحثات، وتقديم كل ما يلزم من التسهيلات لانجاجها.
وصف الإعلان عن عودة العلاقات بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية بالزلزال، وبالتحول الكبير، في مجرى الأحداث بمنطقة الشرق الأوسط، وتبارى المراقبون والمحللون السياسيون في تفسير ما جرى، اعتمادا على ما هو متوفر من حقائق ومعطيات.
الحدث في ذاته، لم يكن مفاجئا، فمنذ أكثر من عام والأنباء تتواتر عن لقاءات تجري بين ممثلين عن قيادة البلدين الجارين، وعن محاولات جادة لتضييق شقة الخلافات بين المملكة والجمهورية الإسلامية. ورغم عمق شقة المسافة وما بدى من استعصاء لحلول عملية للاختلافات بين البلدين، كونها تمس بشكل مباشر المصالح الخاصة والأمن القومي لكليهما، لكن التوصل إلى توافقات مشتركة حول تلك المسائل، لم يكن في خانة المستحيلات.
صحيح أن العلاقة بين المملكة وإيران اتسمت في الغالب بالتوتر، منذ قيام الجمهورية الإسلامية، لكن ذلك لم يحل دون قيام علاقات طبيعية بينهما، بلغت أوجها أثناء تولي هاشمي رفسنجاني رئاسة الجمهورية، وأيضا أثناء رئاستي أحمدي نجاد، وحسن روحاني. وقد سادت خلال تلك الفترة علاقة بين البلدين توصف في أقل تقدير بالجيدة. وحتى عندما بدت الخصومة جلية بين البلدين، بسبب جنوح السياسة الإيرانية للتوسع، شمال وجنوب المملكة، لم تتخل السياسة السعودية عن تمنياتها في أن تعود المياه لمجاريها، واحترام الجميع لمبدأ حسن الجوار، والاعتراف المتبادل بالمصالح الوطنية لمختلف الأطراف.
وإذن، فليس هناك وجه غرابة في عودة العلاقة بين البلدين. هذا الاستنتاج يبدو طبيعيا وبديهيا، حين لا يوضع في الاعتبار المرحلة التي تمت بها، وطريقة الاعلان عنها، والعنصر الدولي الفاعل فيها.
فقد جاء الاعلان عن عودة هذه العلاقة، وسط توتر في العلاقة بين أمريكا وإيران، وتلويح إسرائيلي، بشن الحرب على طهران لمنعها من حيازة التكنولوجيا النووية. وكانت دول الخليج العربية، وعلى رأسها السعودية، تعبر في العلن عن خشيتها من امتلاك إيران لأسلحة الدمار الشامل، وانتاج السلاح النووي. ومن المستبعد أن تكون هذه المخاوف بعيدة عن أجواء المباحثات بين البلدين.
إن توقيت إعلان عودة العلاقة بين البلدين، هو موقف شجاع يحسب للقيادة السعودية، كونها اتخذت قرارا، هو من حقها السيادي الكامل، كدولة حرة مستقلة، ولكن الغرب، وعلى رأسه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لا تتعامل مع هذه الأمور، من منظور احترام الاستقلال والسيادة ومنطوق القانون الدولي، بل خلال موقعها في الصراع بين الكبار. ولذلك فإن الخطوة السعودية، في هذا السياق هي بمثابة تأكيد صريح عن حق السيادة واستقلالية القرار.
ومما يضاعف من أهمية هذه الخطوة، أنها تأتي وسط احتدام الصراع بين الصين الشعبية، والولايات المتحدة، حول موضوع تايوان. وقد جاء الإعلان عن عودة العلاقة بين السعودية وإيران، في اليوم الذي توج فيه شي جين بينغ، رئيسا للصين لدورة رئاسية ثالثة، وأيضا وسط اتهامات أمريكية متصاعدة للصين، بدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وتقديمها أسلحة فتاكة لها. وتدرك أمريكا ما تعنية الوساطة الصينية لعودة العلاقات بين السعودية وإيران.
الصين لا تكتفي من التأكيد على أن تايوان خط أحمر، وأنها جزء لا يتجزأ من أراضيها ومن أمنها القومي، وتعلن جهوزيتها لمواجهة أي تهديد أمريكي محتمل لأمنها، بل تذهب أبعد من ذلك بكثير. فهي تعمق علاقتها بالمياه الدافئة بالخليج، وتحديدا مع المملكة العربية السعودية، البلد الذي يحتل مركز الصدارة في تصدير الطاقة النفطية، حيث جاء الرئيس الصيني والتقى مع القادة العرب، بالعاصمة الرياض، واتخذت العلاقات بين لبلدين، منحا استراتيجيا، وتتوسط لعودة العلاقات بين الرياض وطهران، في وقت تتصاعد فيه حمى الحرب الباردة، بين الصين وروسيا في جهة، والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى.
إن عودة العلاقة بين السعودية وإيران، هي أمر طبيعي، حين توضع في خانة العلاقات بين الدول، ولكنها غير ذلك، حين توضع في ميزان التحولات الكبرى التي تجري على الساحة الدولية، والتي تشي بقرب انبثاق نظام دولي جديد، على أنقاض النظام الذي انبثق بعد الحرب الكونية الثانية، ووفق حقائق القوة الجديدة.
التعليقات مغلقة.