العروبة وأسئلة الخطاب القومي
العروبة وأسئلة الخطاب القومي
تمهيد:
في البداية أتقدم بالشكر للسيد وزير الثقافة، الأستاذ عصام خليل، الذي شرفني بالدعوة إلى المشاركة في هذه الندوة المهمة التي تحمل عنوان العروبة وأسئلة النهضة، في مرحلة دقيقة من مراحل النضال العربي، لم تشهدها الأمة في تاريخها المعاصر، حيث أصبح التمسك بثوابت الأمة، أقرب إلى القبض على جمر من نار.
وما يمنح هذه الندوة أهميتها، هو تزامن عقدها مع ذكرى إسقاط نظام الإنفصال، في الثامن من آذار عام 1963م، وانعقادها في دمشق عاصمة الأمويين، ومنطلق الفكر القومي، وقلب العروبة النابض. لقد تزامن حدث الثامن من آذار مع ثورات في العراق واليمن، واندلاع حركات مقاومة مسلحة ضد الاستعمار التقليدي بالجزائر والشطر الجنوبي من اليمن، مهيأة مناخا مناسبا لاندلاع الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي اندلعت في أوائل عام 1965.
كما تكتسب هذه الندوة أهميتها، من الوضع السياسي الراهن، بالوطن العربي حيث يحتدم الصراع بين قوى الظلام الشر، الهادفة لتفتيت المفتت، والقضاء المبرم على أية بارقة أمل في نهوض الأمة وتحقيق وحدتها، وبين قوى التقدم والنهضة، التي تمكنت بعد منازلة أسطورية باسلة، من وضع حد لتمدد قوى الظلام، ملحقة الهزيمة بها وبالقوى الاستعمارية التي تقف من خلفها، وتمنحها دوام الاستمرارية.
لقد تأثر المشروع القومي العربي، بنتائج الحرب العالمية الأولى، وبشكل خاص اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 ووعد بلفور عام 1917. فقد أسست اتفاقية سايكس- بيكو لقيام الدولة القطرية في بلاد الشام، ووضع هذا الجزء من المشرق العربي، تحت الهيمنة الفرنسية والبريطانية، وقد نظر إلى وعد بلفور، الذي هيأ لقيام قومي للصهاينة على أرض فلسطين، كعنصر لجم حاسم لأي تطور تنموي موضوعي بالبلدان العربية، وكمعوق رئيسي من معوقات تحقيق الوحدة.
انطلق مشروع النهضة، بالكفاح ضد السلطنة العثمانية، وحمل قادته على عاتقهم، بعد تكشف النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى، مسؤولية التصدي لتبعات سايكس– بيكو ووعد بلفور. وقد اعتبروا القومية العربية، عقيدة تحشيدية ونضالية من أجل تحقيق هدف الوحدة العربية. وجرى تعريفها على أنها الهوية الجامعة لأفراد ينتمون إلى أرض واحدة، تمتد من الخليج إلى المحيط, يجمعهم أنهم ناطقون بالعربية، وينتمون إلى جغرافيا وتاريخ مشترك، ويدين غالبيتهم بعقيدة الإسلام.
تم النظر في حينه من قبل المنظرين القوميين الأوائل بشكل سلبي، وعدائي وصريح إلى الهويات الأخرى، بما في ذلك الهويات الوطنية. فوفق الرؤية القومية، اعتبرت الدول الوطنية نتاج مشروع التجزئة. وعلى أساس هذه النظرة تشكلت حركات وأحزاب سياسية، اتخذت موقفا عدائيا من الدولة الوطنية العربية، متأثرة بإفرازات ما حدث في بلاد الشام، وجرى تعميم هذه الرؤية على بقية بلدان الوطن العربي.
نظر المشروع النهضوي القومي إلى المجتمعات العربية، على أنها مجتمعات كسيحة وعاجزة عن الاضطلاع بمشاريع التنمية ونقل المجتمع العربي، ليكون في مصاف الأمم الراقية. لقد ظل تحقيق الوحدة العربية، مفتاحا لمعالجة كل المشاكل، وتحقيقها يتم من الأسفل إلى الأعلى، نتيجة تلاقح بين حركات التحرر الوطني التي قادت الكفاح ضد الاحتلال.
وسكن في يقين معظم المفكرين العرب الأوائل، أن النهوض يتحقق بالاندماج التام، وأن ليس هناك ما يمنع العرب من تحقيق ذلك، طالما يجمعهم التماثل في اللغة الثقافات والعادات والمصالح المشتركة.
قراءة نقدية:
أثبت التطور التاريخي عدم دقة هذه النظرة، وحتمية تجازها من قبل رواد الفكر العربي، إذا ما أرادوا لهذه الأمة التقدم والنماء. فالبلدان العربية، لم يتشكل معظمها بإرادات خارجية، كما كان ينظر له، منذ بروز نتائج الحرب العالمية الأولى إلى وقت قريب من القرن المنصرم، وبشكل خاص بعد وضع اتفاقية سايكس- بيكو موضع التنفيذ. فكثير من هذه البلدان هي من صنع التاريخ، ومضى على بعضها، بسياقها الحالي، آلاف السنين، مثل مصر وتونس.
يضاف إلى ذلك أن التجارب التاريخية، أكدت أن الوحدات السياسية، تأتي لتلبي الحاجة لواقع موضوعي، وأن المجتمعات الإنسانية، لا تتماثل حتى وإن جمعتها لغات وثقافات مشتركة. إن وجود لغات وثقافات مشتركة، هي عامل مساعد، لقيام وحدات سياسية واقتصادية، ولكنها بمفردها لا تحتم تحقيق ذلك. فقانون الوحدة هو التفاعل والتكامل وليس التماثل.
ثم أن اعتبار الاندماج شرطا لمعالجة التخلف والانطلاق للبناء والتنمية ليس أكيدا، لأن التفاعل يتم بين أجزاء صحيحة، وليست عليلة. إن مثل هذا الطرح القومي التقليدي إن تم تعميمه، يعفي الدولة الوطنية من مهامها التاريخية, ويقدم المبررات لتقصيرها في أداء مهامها، نظرا لأنها لن تكون قادرة على تحقيق مهام النهوض إلا في ظل دولة الوحدة.
ووفق هذه النظرة النقدية لرؤية المشروع النهضوي للهوية، تم النظر إلى الدولة الوطنية، كهوية جامعة، وليس مجرد هوية فرعية. إن ذلك يفترض فيها أن تنهض كدولة مستقلة بمجتمعاتها، على كافة الأصعدة. وأن تلبي حاجة مواطنيها من صحة وتعليم وسكن وأمن ورخاء، وتأمين لمستلزمات الدفاع عن الوطن، وما يستوجبه ذلك من بناء جيش قوي وأجهزة أمنية حديثة، وما إلى ذلك من مستلزمات بناء الدول العصرية. وأن الوحدة في هذا السياق، تأتي تلبية للاحتياجات الوطنية، ومتطلبات النهوض بالمجتمعات العربية.
ووفقا للرؤية القومية المعاصرة، المعبر عنها بالعروبة الجديدة، نظر إلى العلاقة بين بلدان الأمة، على أنها تكاملية، حيث يعج الوطن العربي، بطاقات حية، وثروات مختلفة، وقدرات بشرية متباينة، من حيث الكم والخبرات، بما يعني أن التكامل بين هذه القدرات من شأنه أن يوجد كيانا عربيا قويا، بما يلغي مقولة التماثل.
إن هذا التطور الجديد لمفهوم الهوية، يعني أن مقولة قوة الأمة في وحدتها، لا تعني بالضرورة، تحقيق وحدة اندماجية بين الأقطار العربية. فما تحتاجه الأمة، هو تلبية حاجات الناس ومتطلباتهم واستحقاقاتهم في الحرية والكرامة، والتنمية والنمو الاقتصادي. وفي هذا السياق، جرى التنظير لنظام عربي، لا مركزي، يتجه نحو أنموذج سياسي عملي وواقعي، يستلهم من نماذج الاتحادات، التي شهدها العصر الحديث، حيث لا تناقض بين الهوية الوطنية، وهوية الأمة، بل تكامل وتفاعل بينهما، فيغدوان مصدر قوة وحيوية للأمة بأسرها.
ويمكن أن يتحقق هذا النوع من الاتحادات بشكل تدرجي، يشمل القضايا الأساسية، المرتبطة بالحاجات اليومية للبشر. فيكون البدء على سبيل المثال، بالوحدة الاقتصادية، وبتوحيد الأنظمة الجمركية، والكهرباء، ومد السكك الحديدية، واستكمال ما بقي من خطوط المواصلات البرية والجوية. ويتم ذلك أيضا، من خلال إحياء معاهدات واتفاقيات، وقعها القادة العرب، في شؤون الأمن والدفاع، وبقيت لعقدة عقود دونما تفعيل، كمعاهدة الدفاع العربي المشترك والأمن القومي العربي الجماعي، والوحدة الاقتصادية والثقافية شرط أن يتحقق تفعيل ذلك وفق سياقات وطنية وبإرادة حرة ومستقلة، ومن غير تبعية للخارج.
هذا المنظور هو تطور نوعي جديد لمفهوم الهوية، لدى دعاة المشروع العربي النهضوي. وهو تطور يمثل استجابة للتطور التاريخي، ولنمو وعي شعوب المنطقة، بحقائق العصر، التي تتجه بثبات نحو اقتصادات الأبعاد الكبيرة، والكتل التاريخية. وهو وعي يضعنا على السكة الصحيحة، وفي المكان اللائق من خارطة التطور البشري، بما يحقق صبوات الجميع في مجتمع عربي قوي ومتطور، يكون الإنسان العربي عماده وركنه الأساس.
الانهيارات التي تشهدها البلدان العربية الآن، ليست قدرا مقدرا علينا. فالعرب ليسوا أمة خارج التاريخ، وكان لهم إسهاماتهم الحضارية. وقد امتدت إمبراطوريتهم، في فترة قياسية قصيرة لم يشهدها التاريخ قبلهم ولا بعدهم، فوصلت إلى السند شرقا، وأسبانيا غربا. ولم يبتعد الخليفة العباسي هارون الرشيد عن الحقيقة، حين خاطب غيمة: أمطري حيث شئت، فسيكون لنا فيك نصيب حيثما أمطرت.
سقطت دولة الخلاقة، وكان حالنا في ذلك حال معظم الإمبراطوريات التي قامت على وجه هذه البسيطة. نحن أيضا خاضعون لقوانين الدورة التاريخية، حيث النشوء والعمران والشيخوخة، وحيث كما يقول المتصوفة، ليس بعد الاكتمال سوى النقصان. سقطت الحضارة العربية، وتفككت دولة الخلافة إلى إمارات وممالك صغيرة، بعد هجوم التتار، وهيمنة الاستبداد العثماني.
لكن أمور الناس المعتادة، ظلت على ما هي عليه. الناس يأكلون مما ينتجون، يكدون ويتعبون، ويحافظون على شيء من الاستقلال الذاتي، حيث ظل العرب في غنى عن الخارج… يزرعون ويتاجرون وينتجون بحرف بدائية متواضعة لكنها، كافية لسد حاجاتهم.
معوقات حركة اليقظة:
كانت بداية الوعي القومي، الذي بلغ حد تشكيل حركة سياسية مناهضة للعثمانيين قد أخذت مكانها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان للتشكل ظروفه المحلية والإقليمية والدولية. ذلك لا يعنى أن مقاومة العرب للعثمانيين لم تبدأ إلا في ذلك الوقت. فقد بدأت محاولات الاستقلال منذ وقت مبكر حين قاد الأمير ظاهر العمر في فلسطين محاولة استقلال لم يكتب لها النجاح طويلا، وفي بلاد الشام، قادت الإمارة المعينية، أيضا محاولة للاستقلال عن العثمانيين، وكذلك الحال مع مصر محمد علي باشا، وعراق مدحت باشا. لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، بسبب التضامن الدولي مع السلطنة، ورفض قوى الهيمنة عودة الحضارة العربية، وتأسيس إمبراطورية عربية، حتى ولو كانت بمضامين حديثة ومعاصرة.
تزامنت حركة اليقظة العربية، بحقائق موضوعية، أعاقت تحقيقها لأهدافها، وكان لهذه الحقائق انعكاسات النفسية والسياسية والاقتصادية على الواقع العربي، وبخاصة في مراكز الإشعاع الحضاري. فاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي كان كشفا جغرافيا عظيما، تسبب في انهيار الموانئ العربية، على الجزء العربي من حوض البحر الأبيض المتوسط.
وهذا هو الإخفاق الأول للنهضة العربية، حيث تسبب ذلك في انهيار اقتصادي لعموم البلدان الواقعة على حوض البحر الأبيض. والمحزن في الأمر، أن مشروع اليقظة انطلق من هذه البلدان، من مصر والعراق وبلاد الشام، قبل تطبيق اتفاقية سايكس بيكو، والعمل حثيثا من قبل القوى الاستعمارية لغرس الكيان المغتصب بفلسطين، في القلب من الأرض العربية.
وضاعف من هذه المعضلة تزامنها، بصعود كاسح للتصنيع الغربي، مما أدى إلى انهيار الصناعات المحلية، التي لم يعد بمقدورها التنافس مع المنتجات الصناعية الغربية، إن من حيث الكم أو النوع. انهارت الصناعات الحرفية، في البلدان العربية، التي انطلق منها مشروع اليقظة، كما انهارت من قبل موانئها البحرية. وهنا تأتي المحطة الثانية في انهيار مشروع النهضة.
فنتائج الانهيار الاقتصادي، بشقيه، الخدمي والصناعي، أديا لتغيير في الهياكل السياسية والاجتماعية، وفي البينة النفسية لطبقة كبار الملاك، مسهما بشكل مشوه، في استمرار شبكة العلاقات البطركية القديمة. فقد تحولت الطبقة البورجوازية، من طبقة منتجة إلى طبقة وسيطة، بين المنتج خارج الوطن والمستهلك المحلي. وأول الإسقاطات النفسية لهذا التحول، هو انعدام الإبداع والمبادرة، والبعد عن المخاطرة، ومحاولة إرضاء المنتج الإمبريالي والمستهلك المحلي معا. وأصبحت هذه الطبقة خاضعة لمقولة “جبن رأس المال”.
والأنكى من كل ذلك، أن هذه الطبقة هي التي قادت مشروع النهضة في طوره الأول، وأنيط لها دور التصدي للسلطنة العثمانية. لقد وضعتها الأحداث في حالة لا تحسد عليها. فقد كانت الوريث للثقافة التقليدية، ومن جهة أخرى، القائدة لعملية التنوير. حالة الشوزيفرينيا هذه، خلقت شكلا مشوها لمرحلة التنوير، عكست نفسها في التحالفات التي أجرتها هذه القوى مع بريطانيا وفرنسا، للتخلص من السلطان العثماني، فيما عرف بالثورة العربية التي قادها شريف بمكة، بتشجيع من زعماء حركة النهضة في الشام.
كان الخلاص، كما تصوره هؤلاء يكمن في الاتصال بالمندوب السامي البريطاني، اللورد مكماهون في مصر، والاعتماد على شريف مكة لقيادة مشروع التحرير والتنوير. هذا السلوك هو ما يعكس حقيقة الانفصام، بين هدف الاستقلال وأدواته. فكانت النتيجة تنفيذ معاهدة سايكس- بيكو والشروع في تطبيق وعد بلفور. الأول حال دون قيام إمبراطورية عربية بالمشرق العربي، والأخر، أوجد إسفينا مسموما يحول دون وحدة مشرق الوطن العربي مع مغربه.
والنتيجة أننا تحولنا إلى مجتمع غير منتج، وتحولنا إلى مستهلكين. وما دام الاستهلاك هو القدر المقدر في تلك اللحظة من التاريخ، صرنا نستهلك كل شيء، بما في ذلك الأفكار. أصبحنا نستورد مع ما نستورده من البضائع، قيم المستعمر ونتأثر بالليبرالية واليسارية الكاريكاتورية، وكان استقبال هذه الأفكار بالطريقة التي جرت، هو الصدى الواهن للعجز عن إنتاج أفكار تليق بماضينا الحضاري. وكان ذلك تعبيرا عن ضعف مقاومتنا وعدم قدرتنا على التفاعل الخلاق مع ما يجري من حولنا، وعجزنا عن توطين ما هو إنساني، ووضع بصمتنا عليه. وتلك محطة أخرى في إخفاق مشروع النهضة العربي.
إثر وضع اتفاقية سايكس بيكو، ووعد بلفور موضع التنفيذ، تكشفت حقائق موضوعية جديدة، فالعرب الذين واجهوا الاحتلال العثماني بأرضية واحدة، وسقف مشترك، اكتشفوا أن المحتلين الجدد، حين قسموا غنائم الحرب فيما بينهم، رسموا حدودا غيبت حقائق الجغرافيا والتاريخ. وكانت نتيجة ذلك أن غدا التشكيل الجديد لخريطتهم السياسية والاقتصادية، مختلا ومشوها وزائفا، لكنه في الوقت ذاته أصبح أمرا واقعا، ترك بصماته واضحة على محاولات العرب لنيل استقلالهم الوطني، حين امتشق كل بلد على حدة، سلاحه للتخلص من الاحتلال، وبناء دولته المستقلة، وتأمين مستقبل أجياله.
وعندما تمكنت البلدان العربية من انتزاع الاعتراف باستقلالها، تأكد أن الطموحات في التنمية والبناء، وصلت إلى طريق مسدود، بسبب حالة الاحتقان التي نتجت عن القسمة، وغياب التكامل الاقتصادي بين البلدان العربية، حديثة الاستقلال. وتلك هي محطة أخرى في أخفاقات النهضة، لتتبعها أسباب أخرى لإخفاقات المشروع النهضوي القومي العربي.
العرب في ما بعد نكبة فلسطين:
مثلت نكبة فلسطين عام 1948، وعجز الجيوش العربية المستقلة مجتمعة، آنذاك عن مواجهة المشروع الصهيوني، كارثة الكوارث بالنسبة للعرب، في تاريخهم المعاصر. وقد أكدت أن العجز في ساحات القتال هو وجه آخر، للعجز عن التنمية. وكشفت أن الجندي المغيبة حقوقه هو أعجز عن تحقيق النصر. فكان أن نفخت روح التمرد والغضب.
ومن هنا جاء الرد، متمثلا في طرح شعارات الاستقلال الوطني، والتنمية المستقلة، ومكافحة الفساد، وبناء جيوش عربية قوية. ولأن القوى الاجتماعية التي قادت عملية التغيير، ظلت كسيحة أو مغيبة، فإن المنطقة شهدت تحولات عمادها الجيوش، من الشباب الذين شهدوا بأم أعينهم نكبة فلسطين، كانت أرض الكنانة هي المحطة الأولى في هذه التحولات.
ولأن طبيعة الاصطفافات الدولية، ونتائج الحرب العالمية الثانية، قد توجت الولايات المتحدة الأمريكية، والإتحاد السوفييتي على عرش الهيمنة في صناعة القرارات الأممية، فإن العالم انقسم في تحالفاته وتبعيته إلى معسكرين، وخاصة بعد اندلاع الحرب الباردة، بين الأمريكان والسوفييت. وعندما تغيرت الأوضاع السياسية في عدد من البلدان العربية، كمصر وسوريا والعراق والجزائر والسودان واليمن، فإن الخارطة السياسية للنظم العربية، تشكلت على مقاسات التجربة الدولية، والحرب الباردة التي كانت في ذروة تصاعدها في تلك الحقبة.
وكما انقسم العالم، إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي، انقسم العرب أفقيا إلى معسكرين متشابهين، بفارق أن الأصل، هم صناع قرار، أما نحن فلم نكن سوى صدى واهنا للانقسامات بين المعسكرين. وفي حينه صارت الصراعات فيما بيننا محكومة بالوهم. وكان لذلك تأثيراته السلبية على النظام العربي الرسمي، والحركة الجماهيرية، متسببا في حدوث انقسامات أخرى، أفقية ورأسية بالواقع العربي.
والترجمة الحقيقية لهذا الانقسام، هي مرة أخرى، أننا نستهلك ولا ننتج. واستهلاكنا في الأفكار، كان استهلاكا شرسا. قادت الانقسامات الجديدة، إلى صراعات اجتماعية وحروب محلية، وكانت نكسة حزيران 1967، هي ذروة العجز عن تشخيص الواقع، وإيجاد آليات عملية للتعامل معه. وقد أدت النكسة إلى نهاية مرحلة في التاريخ العربي، بدأت منذ مطالع الخمسينات من القرن المنصرم، وكانت الأنصع في تاريخنا المعاصر، حيث كسر احتكار السلاح والتأميم وبناء السد العالي، والتنمية المستقلة، وهزيمة العدوان الثلاثي الغاشم.
مرحلة النهوض القومي:
قيل الكثير عن المناداة بفكرة الوحدة العربية… قيل أنها حلم رومانسي، وأنها توق لاستعادة ماض سلف, وقيل أنها دعوة لجمع متضادات، باعتبار أن الأمة هي ظاهرة حديثة، شرطها الانتقال إلى الدولة البورجوازية والمجتمع الصناعي. ورأى البعض أن العرب لا يزالون يبحثون عن هوية، وأن الأمة العربية ليست قائمة، وهي في أحسن الأحوال مشروع قابل للتحقق.
جاءت أحداث الخمسينيات العاصفة، من القرن المنصرم، وبخاصة بعد التحولات السياسية الكبرى التي حدثت في مصر، لتدحض الكثير من هذه المقولات. وكانت حركة التحرر الوطني في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، قد أكدت بما لا يقبل الشك، أنه بينما ولدت الأمم الأوروبية في السوق، فإن بلدان العالم الثالث قد اكتشفت هوياتها الوطنية والقومية، وهي تناضل ضد السوق.
الوحدة والقضية الفلسطينية:
وإثر النكسة، تقاسمنا الموقف من صراعنا مع الصهاينة، وانشطرنا شطرين: شطر تمسك بالرؤية التاريخية للصراع، ببعده الحضاري، الذي يرى في الصهيونية، إسفينا غرس في قلب الأمة، ليفصل شطريها الأسيوي والأفريقي عن بعضهما، وليحول دون تحقيق وحدتها، وتحقيق نهضتها، وأن صراعنا مع الكيان الغاصب، هو صراع وجود.
أما الشطر الآخر، وقد أكد حضوره بقوة للأسف، بعد معركة العبور العظيم في أكتوبر عام 1973م، فرأى أن الصراع مع الصهاينة، هو صراع مرحلي، لا بد من وضع حد له، بالاعتراف بالأمر الواقع، والعمل على تحسين الأوراق التفاوضية العربية والفلسطينية، من خلال التسويات السياسية. وكان هذا الانتقال استراتيجي، بكل ما تعني كلمة استراتيجية من معنى. فالصراع وفقا لهذه الرؤية تحول من صراع وجود إلى صراع حدود.
انقسم الفلسطينيون، ومعهم الحركة السياسية العربية في موقفهم من هذه التطورات، إلى رؤيتين: رؤية عدمية، تطرح تحرير فلسطين التاريخية، من النهر إلى البحر. وترى أن السبيل لتحقيق ذلك هو الكفاح المسلح. ولم تكن تحمل برنامجا سياسيا، مرحليا أو غيره، لتحقيق ذلك. ورؤية تصفوية، تفرط في كل شيء وتقبل بالمستوطنات، وتغيير الحدود، وإلغاء الذاكرة التاريخية، بما في ذلك حق العودة، وتتسامح تجاه يهودية الدولة الصهيونية، بما يضع المقدمات القانونية والعملية، لطرد بقية الفلسطينيين من وطنهم.
ورغم مضي أكثر من أربعة عقود، على هذه الحقبة التي استمرت طويلا، بقي الطرفان، العدمي والتصفوي متمسكان، بموقفهما من غير تغيير. وكان للموقفين تبعاتهما السياسية على الانتقال الاستراتيجي للصراع، في عموم المنطقة، وتلك هي معضلة أخرى واجهها مشروع النهضة.
وحين هبت الطفرة النفطية، منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، نقلت مجتمعاتنا من حال إلى حال. لكن المعضلة أن الطفرة، نقلت اقتصاداتنا من أنماطها البدائية، إلى نمط الاقتصاد الريعي، الذي يأتي في شكل هبات من الأعلى إلى الأسفل. وقد نتج عن ذلك تحول المواطن من فرد منتج، وفقا للسياقات التاريخية، قبل الطفرة الاقتصادية، إلى فرد ينعم بما توفره الثروة في البلدان المنتجة للنفط، وإلى حالة من الاستتباع والتسول من قبل الدول العربية غير المنتجة له. وأدى ذلك بقوة وشراسة، لانتشار ثقافة الاستهلاك. وفي ظل هذا الواقع تخلت الطبقة المتوسطة عن وظيفتها في الفنون والفكر والإبداع.
وقد قادت تحولات المجتمعات العربية، من النمط المنتج إلى النمط الاستهلاكي غير المنتج، إلى تحولات أخرى سلبية. كان لذلك تأثيراته المباشرة على البنية النفسية للمجتمع العربي. ففي الأسفل انعدم الإبداع وفقدت المبادرة. وفي الوسط، غاب الدور الريادي للطبقة المتوسطة، الذي عرفت بممارسته في المجتمعات المتقدمة، وظلت في حيرة دائمة في ولاءاتها وانتماءاتها بين الأعلى والأسفل، واقتصر دورها على العمل بالقطاعات الخدمية، وملحقاتها، والمشاركة في الصفقات الاحتيالية مع الشركات الكبرى الوافدة. وأصبحت متماهية مع الواقع، وجزءً لا يتجزأ من الواقع الذي طبع بصماته، على مختلف جوانب الحياة العربية، حتى يومنا هذا..
والنتيجة، أن أفضل تعريف لسلوكنا هو المراوحة، بين الإقدام والتراجع، بين التريث والمغامرة، وبين الأصالة والمعاصرة، وبين الجغرافيا والتاريخ. وذلك أمر طبيعي، فنحن لم نقطع مع الماضي، في بنية شبكة العلاقات القديمة، لكننا أصبحنا بالقوة خارج هذا الماضي، في أنماط حياتنا الجديدة، ولم نتجه بقوة نحو الحاضر. أصبحنا كما يقول المعتزلة بين بين. ومضى علينا أكثر من قرن، منذ بدأت طلائع عصر النهضة، في منتصف القرن التاسع عشر، ونحن تائهون لم نحدد بعد دروبنا، لأننا لم نتحول بعد إلى منتجين.
لم يكن الشعب العربي، الذي هو بالتأكيد في القلب من العالم الثالث، وكان دوره مركزيا في النضال، من أجل التحرر والانعتاق وتقرير مصائره، بحاجة للكثير من التنظير والتبشير بحقيقة انتماءه للأمة العربية، ولترسيخ فكرة الوحدة في وعيه، فتلك كانت من مقومات شخصيته، ومن محركات نهوضه. فكان التداخل واضحا وجليا بين القومي والوطني، في كل الشعارات والأهداف التي طرحتها حركات التحرر الوطني، التي قادت النضال ضد الاحتلال الغربي، على امتداد الأرض العربية.
وحين توج الحلم الكامن لدى غالبية أبناء الأمة، وتحول إلى إرادة بقيام وحدة مصر وسوريا، التي نحتفل كل عام في الثاني والعشرين من فبراير بذكرى قيامها ، لم تعد قضية الوحدة مجرد شعار يتفجر من حناجر الشعب العربي، بل أمرا واقعا، وإن كان على بقعة صغيرة ومحدودة من الأرض العربية..
لماذا نعقد ندوة الآن تستعيد روح مشروع النهضة، وقد تراجعت فكرة الوحدة إلى الخلف، وأصبحت من تركة مرحلتي الخمسينات والستينات، وجاء ما عرف بالربيع العربي، ليكرس شعارات وأهداف أخرى؟!.
نتجاوز هنا كل ما قيل عن الوحدة من مواقف سلبية، لأن مناقشات كهذه تبدو عدمية، وغير ذات معنى، حين تستعيد قوى الهيمنة مشروع سايكس بيكو وروح وعد بلفور، من خلال مشاريع تفتيت لا ترى في الكيانات الوطنية سوى تراكيب شمعية، فرضت بقوة الأمر الواقع، بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن أوان تفكيك هذه التراكيب قد حان، رغم أن الجميع يدرك أن بعض هذه الكيانات هو حصيلة قسمة لا جمع، وأن إعادة التركيب، إذا ما أخذت حقائق التاريخ والجغرافيا، تقتضي الجمع لا التفكيك.
إن ذلك يعني في ابسط بديهياته أهمية استعادة روح الكفاح الوطني، في الربط بين مواجهة مشاريع التفتيت والوقوف بحذر من مشاريع الأسواق العالمية، بالدقة كما كان نضال الأمة ضد السوق. فالثابت لدينا أنه في ظل العولمة المتوحشة تم تفكيك السودان والعراق، وقضم الجزء الأكبر من فلسطين، وتراجع الحديث عن عروبتها وعن حق العرب في تحريرها من ربقة الصهانية. ويجري الآن الحديث عن تقسيم اليمن وليبيا وسوريا، ومشاريع أخرى بعضها معلن، وبعضها لا يزال في الخفاء، وجميعها تهدف إلى تفتيت الكيانات الوطنية العربية، بحيث يتم القضاء نهائيا على العناصر، التي جعلت من العرب جميعا أمة واحدة.
التنازل الذي اعتبره البعض، من ذوي النوايا الحسنة، تكتيكيا عن فكرة وحدة الأمة، قاد في واحدة من نتائجه إلى القبول بمشاريع القسمة التي صنعها الفرنسيون والبريطانيون، بحسبانها أمرا واقعا، لا يمكننا إلا الاعتراف به، بعد أن أصبح هذا الاعتراف عنصرا حيويا ولازما ومتماهيا مع متطلبات “الشرعية الدولية”، ومواثيق أممية أخرى فصلت خصيصا لتنال من حصة مناعتنا وحصانتنا القومية والوطنية.
مواجهة المتتاليات المتجهة نحو الأسفل، تتم بمتتاليات تتجه إلى الأعلى، وصولا لاستعادة روح وحدة مصر وسوريا، وميثاق السابع عشر من نيسان، واستلهام جوهر مرحلة النهوض القومي العربي، ورفق متصور جديد، كمحفز للانطلاق في المتتاليات المتجهة صعودا، والتي تأتي، ضن قانون الفعل والاستجابة، لتكون الرد الموضوعي والمنطقي على حالة التردي.
أكدت الوحدة المصرية- السورية، وميثاق السابع عشر من نيسان عام 1963 بين مصر وسوريا والعراق إمكان تحقيق الوحدة بين العرب، وتأكد أيضا أن الحضور العربي على الساحة الدولية وقابلية الأمة على الفعل، لا يقاس بحاصل الجمع بين الأقطار العربية، بل بما يحدثه حاصل الجمع من تفاعل وتأثير مضاعف، ينتج عنه طريحة مختلفة تماما، وفقا لتعبير هيجل. فالوحدة هي التي تكشف ما في داخل الجوزة، من قوة فعل، وقدرة على صناعة المستقبل.
وفي كل الأحوال، فليس في هذا الحديث نظرة تشاؤم، بل توجه نحو المستقبل، بآليات ومفاعيل تتجه مع طبيعة المرحلة الكونية التي نجتازها، وهي مرحلة انتقال، بمختلف المقاييس، في توازن القوة، بين صناع القرار في العقدين المنصرمين، وبين من دخلوا من بوابات صناعة التاريخ للعقود القادمة. وإذا ما أردنا وقف نزيف التشظي، فليس مكاننا الوقوف على أعتاب الراحلين أو القادمين الجدد، من صناع الهيمنة، بل الدخول في القلب من صناعة التاريخ القادم.
ولأن سمة هذا العصر، أنه عصر تكتلات كبرى، وثورة رقمية، وليس فيه مكان للضعفاء والخائرين، فإن قدرنا أن نجترح آليات جديدة للفعل. وذلك يتطلب استعادة لترتيب الأولوياـت وتركيبا جديدا للمفاهيم، تنتقل من التنظير إلى صياغة آليات الفعل. وكلما أسرعنا، في الانتقال بمجتمعاتنا نحو هذا العصر، والتماهي مع عناصر قوته، كلما اقتربنا من تحقيق هدفنا، في الاندماج إلى الأعلى، وليس في تفكيك ما هو كائن.
خلاصة تنفيذية:
ما كان لليقظة العربية، والكفاح ضد الهيمنة العثمانية، أن يأخذا مكانهما، ويشغلان حيزا كبيرا في التاريخ العربي، لولا تراجع سطوة سلطان الاستبداد العثماني بالاستانة وفقدانه لممتلكاته في البلقان، وتحرر أجزاء كبيرة من بلدان أوروبا الشرقية، من سطوته، وتكالب الدول الاستعمارية الفتية على ممتلكاته.
انهيار الدولة العثمانية، واكتساب سلطانها للقب الرجل المريض، ورغبة الغرب في إطلاق رصاصة الرحمة على السلطنة، مكنت زعماء اليقظة العربية، من التحالف مع البريطانيين والفرنسيين، والالتحاق بجيوشهما في الحرب العالمية الأولى أملا في تحقيق الاستقلال. وقد وضعت هذه البداية حجر الأساس، في التطورات اللاحقة، وصولا إلى انبثاق حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، وبشكل خاص في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
الأمة العربية، كانت دائما تجد فرصتها في الانعتاق، أثناء ضعف الامبراطوريات المهيمنة على العالم. ويكون ضعف الأمة هو نتاج حسم الصراع، والقسمة بين الكبار.
فعندما سقطت فرنسا بيد النازية، وتضعضعت قوة بريطانيا العظمى الاقتصادية، بفعل كلف حربين كونيتين، اندلعت حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، ليس في الوطن العربي وحده، بل وفي معظم بلدان العالم الثالث. ومن حسن طالع هذه الحركات، أن القطبين الجديدين الطالعين آنذاك: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، لم يكونا في وارد تقديم الدعم لحلفائهم بالحرب. فقد كانا يطمحان لوراثتهما.
الولايات المتحدة، طرحت بعد الحرب مباشرة سياسة الباب المفتوح، الذي يتلخص في حق مستعمرات بريطانيا وفرنسا بتقرير المصير. وشهدت بداية الخمسينات، أثناء عهد الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور استراتيجية إزاحة الاستعمار التقليدي والحلول محله. وجاء ذلك صريحا، حين تحدث الرئيس الأمريكي، عما أسماء بملء الفراغ، في مطالع الخمسينيات من القرن المنصرم، وعمل على إنشاء تكتلات سياسية لتحقيق ذلك. وكانت تلك مقدمة لنشوء أحلاف وتكتلات عسكرية، على مستوى العالم، بمسميات مختلفة كحلف بغداد وحلف المعاهدة المركزية “السنتو” والحلف الإسلامي.
أما الاتحاد السوفييتي، فخاض كفاحا أيديولوجيا، من أجل نشر عقيدته السياسية. واعتبر ذلك سبيلا لتعزيز حضوره على الساحة الدولية. ومن هذا المنطلق، اتخذ موقفا مساندا لحركات التحرر الوطني على صعيد العالم. أمام هذا الانقسام الحاد بين المعسكرين الرأسمالي والإشتراتكي، أتيح للأمة العربية إنجاز مشروع الاستقلال السياسي، وكان لها الخيار النسبي، في أن تكون مع هذا الفريق أو ذاك، وقد تعددت خياراتها بشكل أو بآخر. اختارت قوى التقدم والنهوض التحالف مع المعسكر الاشتراكي، وكان عصرها الذهبي، هو في الفترة التي ترصنت فيها العلاقات الدولية، وقبل تضعضع قوة الاتحاد السوفيتي، وتغول الأحادية القطبية.
تلازمت هزيمة يونيو 1967م، بتغير في المعادلة الدولية. وقد بدأ هذا التغيير بما عرف بالتعايش السلمي، وتوقيع معاهدات حظر السلاح النووي، بين السوفييت والأمريكان وصولا إلى شيخوخة النظام في الاتحاد السوفييتي. وكان تدخله عسكريا، في أفغانستان، بمثابة المسمار الأخير في نعشه، تمهيدا لسقوطه في مطالع التسعينيات من القرن المنصرم.
تربع اليانكي على عرش الهيمنة، كان حدثا استثنائيا، وليس له سابقة في التاريخ. فمثل هذا التربع يلغي مبدأ صراع الإرادات، الذي هو قانون إنساني. ولذلك لم يكن له أن يمتد طويلا. لم تتجاوز حقبته أكثر من عقد من الزمن، عادت بعدها روسيا مجددا بصمت إلى المسرح الدولي، وأطلت بالعلن برأسها بعد ما عرف بالربيع العربي، لتتشكل محاور سياسية وعالمية جديدة في السنوات الأخيرة. لكن نظاما دوليا جديدا، يستعد للانبثاق لم يتشكل بعد.
هذه القراءة، تعيدنا إلى مقوله أن الوجود لا يقبل الفراغ. ففي ظل غياب ترصين للعلاقات الدولية، وعدم اتفاق الكبار على القسمة، تنتشر الفوضى، وتستباح الأعراض، ويستهان بالكرامة الإنسانية. ولكن بؤس هذه المرحلة، لا يدفع إلى التشاؤم، فهي حقبة قصيرة، لن تطول أبدا، والعالم بأسره ومن ضمنه نحن العرب، يستعد لمرحلة قادمة، ربما لا تكون بنفس الخرائط والأعراف السابقة، ولكنها ستشهد ترصينا ووضوحا بالعلاقات الدولية. كيف سيكون مشهد الخارطة السياسية العربية القادمة؟ وهل سنتمكن من عبور نفق الأزمة؟ أسئلة من الصعب الإجابة عليها، لأنها محكومة بصراع الإرادات وبالوعي والإرادة والقدرة على الفعل. وهذا ما ينبغي أن نتهيأ له منذ الآن… وشرط تحققه هو الوعي والإرادة والقدرة على الفعل.