العروبة مشروع إنقاذ
قبل فترة وجيزة من انطلاق الحركات الاحتجاجية في عدد من الأقطار العربية، نَشرتُ سلسلة من المقالات، حملت عناوين مختلفة، وهدفت إلى محاولة صياغة رؤية جديدة لمفهوم العروبة.
وشهدنا بعدها مرحلة جديدة في التاريخ العربي، بدأت بحركات احتجاجية عفوية، تحولت سريعا، إلى انقسامات وتفتيت وحروب أهلية، أكلت الأخضر واليابس في تلك الأقطار، لتترك بصماتها على البقية الباقية، ممن لم تمر عليها عواصف “الربيع”.
لقد انهمكنا كما انهمك غيرنا، بهذه المرحلة وتداعياتها، محاولين قدر ما نستطيع، مع غيرنا من المهتمين، فك طلاسم ما يجري، وتقديم تفسيرات له، علها تمنح شيئا من الأمان والأمل، في مستقبل أفضل لهذه الأمة.
تكشف بالدليل، ومن خلال الواقع المعاش، الفارق الكبير بين الهبة والثورة، وبين الانطلاقة العفوية ومشاريع التحولات الاجتماعية الكبرى.
واتضح أن أي تغيير حقيقي للخروج من حالة الانسداد التاريخي الذي تعيشه الأمة، بحاجة إلى حامل اجتماعي وإلى أهداف واستراتيجيات.
واتضح أيضا أن الهويات الجزئية، لا تحافظ على الأوطان، بل هي من أسباب ضياعها.
والأوضاع في ليبيا والسودان والعراق وسوريا واليمن ماثلة أمامنا، يضاف إليها مخاطر تفتيت أخرى، لمصر وتونس والجزائر ولبنان.
وإذا ما أمعنا النظر فيما يجري، سنجد السر يكمن في تغول الهويات الجزئية طائفية وقبلية ومناطقية وعرقية ودينية.
تراجع الفكر القومي، منذ نكسة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، ومع تراجعه تراجعت الدعوات للوحدة العربية، واتهم المتمسكون بعروبتهم، تارة بالتمسك بمواقف عدمية أو خشبية.
برزت حقبة تطور فيها التنظير للكيانات الوطنية.
ومعها طور الفكر القومي من رؤيته للدولة القطرية، ولفكرة الوحدة.
أصبحت الدولة الوطنية قاعدة يبنى عليها، للوصول إلى الأعلى، بدلا من النفي المطلق لها، كما كان ذلك في أدبيات الفكر القومي في مرحلة صعودها، بالخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
نظر الفكر القومي الجديد إلى الدولة الوطنية، كظاهرة تاريخية، ليس بالمقدور تجاوزها إلى الأعلى، من دون خلق مناخات اقتصادية واجتماعية وسياسية تمكن من ذلك.
وأن الأساس هو بناء هذه الدولة، حتى تصطدم بالحاجة إلى توسيع أبعادها الاقتصادية والبشرية بالتلاحم مع غيرها من الأقطار العربية، في تكامل اقتصادي وسياسي.
الدولة الوطنية العربية، بوضعها الحالي مثقلة بالكثير من المشاكل، ولا يستثنى عن ذلك بلد دون آخر.
فكل البلدان العربية، تعاني حاليا من مشكلة أو أكثر.
ووحدة هذه البلدان في أوضاعها هذه، هو أشبه بجمع أصفار، لا ينتج عنها شيئا يستحق الذكر.
والمعالجة العربية الصحيحة، تأتي في تنمية موارد وطاقات الدولة الوطنية، صعودا إلى الأعلى، إلى أن تحين لحظة الاصطدام بما يفرض، تخطي الحدود الوطنية، وتحقيق التكامل العربي، على كل الأصعدة، وصولا إلى الوحدة.
والوحدة العربية، لم تعد في الفكر القومي، عملية دمج منفعل، بل يمكن أن تأخذ أشكالا لا تلغي الكيانات الوطنية، وتعتمد اللامركزية في السلطة، فتكون على شكل نظام فيدرالي، كما في الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أخرى.
وربما تكون على نمط الإتحاد الأوروبي.
وشكل ذلك هو رهن بطبيعة اللحظة التاريخية التي تنشأ فيها دولة الوحدة ومتطلباتها.
لقد ساد التمسك بالهويات الوطنية، قرابة خمسة عقود، منذ نكسة حزيران.
لكن تطورات العقد الأخير، منذ احتلال العراق عام 2003، وخاصة بعد ما عرف بالربيع العربي، حيث أصبحت الدولة الوطنية أوطانا، وتفتت بعض هذه الكيانات إلى ثلاث أو أربع دول… ومشاريع التفتيت لا تزال مفتوحة على أبوابها، أمسى من الضروري مراجعة مفهوم الهوية الوطنية.
أين هي حدودها التاريخية والجغرافية والسياسية؟ وهل هي قابلة للتغير السريع، بسرعة الرمال المتحركة؟. أو ليس للهوية صفة الثبات النسبي؟ وكيف تتماهى التبدلات السريعة لحدود وجغرافية الوطن مع التغيرات السريعة في الخرائط العربية.
البديل الممكن، كما نراه، هو الاستعاضة عن ذلك بهوية ثقافية، تمتلك ثباتا نسبيا، غير قابل للنفي، مع التحولات السياسية الهائلة التي تجري في منطقتنا ومن حولنا.
وهنا تأتي العروبة، كهوية ثقافية، وكمشروع إنقاذ من حالة التشظي الراهنة.
لقد تمكن العرب، بالعروبة، في مرحلة يقظتهم الأولى، من الفكاك عن سلطان الاستبداد العثماني.
وأساسها النظري، أن المجموعات البشرية، التي تعيش على البقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي واحد، بل نضال ومصير مشتركان.
وهي بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، فإن قدرها الانضواء في شكل من أشكال الوحدة.
إن ذلك يجعل من رفض الأمة للعدوان، رفضا غير منفعل، أدواته ومقوماته عمق الأمة، حين تضع إمكاناتها ومواردها، في خدمة هذا الرفض، بما يصون استقلالها، ويؤمن تقدمها.
وانطلقت هذه الرؤية من التسليم بأن الحرية التي هي الهدف الأثير لكل المجتمعات الإنسانية، مجرد طنين لا تربطه بالواقع صلة، أمام تفشي الهويات الصغيرة، وضعف الانتماء للهوية الجامعة.
فالحرية بالمعنى العميق والشامل، هي التي تبلغها الأمة بتخطيها لنزعات الانتماء للهويات ما قبل التاريخية، واكتسابها لسيادتها، وبنائها لقدراتها الذاتية، على أساس المواطنة، وليس القسمة بين الطوائف والأقليات.
لقد وجدت الأمة من خلال حادثة تاريخية هامة وبارزة، هي بروز الدعوة الإسلامية التي انطلقت من جزيرة العرب، ونشوء الدولة التي ارتبطت بتلك الدعوة.
وعلى هذا الأساس فإن الإنجاز التاريخي الذي حققه الإسلام للعرب لا يمس في جوانبه الإيجابية العرب المسلمين وحدهم، بل هو إنجاز لكل العرب، ذلك لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة من خلال هذه الدعوة.
ومن خلالها أيضا، استطاعوا أن ينشروا رسالتهم الحضارية في مختلف أرجاء الكرة الأرضية.
ولذلك فإن على العرب، إذا أرادوا أن يحققوا تواصلهم الحضاري، أن يستلهموا من ذلك الإرث محفزات في انطلاقتهم الجديدة، لتحقيق التنمية والتقدم، وبناء الوحدة.
وليس بالمقدور تحقيق المشروع النهضوي العربي، إلا من خلال نقلة تاريخية، تلامس عقل الإنسان العربي وروحه، توضح الرؤية وتقوي العزيمة.
وفي معمعان التحول الذي يحدث في العقل والروح، تؤدي العروبة دورها، مهيأة الطريق لتحولات رئيسية في البنيان الاجتماعي والسياسي للأمة.
د. يوسف مكي