العراق: من المحاصصات الطائفية والإثنية إلى الحرب الأهلية
قبيل وبعد الحرب العدوانية على العراق، التي انتهت باحتلاله كيانا ودولة، كتبنا على صفحات هذه الجريدة الغراء، مقالات مكثفة، محذرين من السقوط في وهم الظن بأن العدوان هو خطوة على طريق التمدين، وتحقيق الديمقراطية في المنطقة. وأشرنا إلى أن التاريخ السياسي للإمبراطورية الأمريكية الحديثة لايحمل ما يشجع على ذلك الظن. وقد تناولنا بالمناقشة والتفنيد مجموعة من المقالات والآراء التي اعتبرت مخطط الهيمنة الأمريكية الجديد مرحلة مغايرة في طبيعتها للسلوك اليانكي فرضته عاصفة سبتمبر أيلول عام2001.
قلنا إن الديمقراطية تعني في بديهياتها، وكما تبرزها الأدبيات السياسية الغربية، هي حكم الشعب. بمعنى أن تكون المؤسسات التنفيذية والتشريعية منتخبة بشكل مباشر من قبل الجمهور، وعن طريع الإقتراع السري. إن ذلك يعني أنها التزام ووعي متطور لمفهوم المواطنة، بحيث تصبح عضوية كاملة في الدولة، ووحدات الحكم. وأنها ينبغي أن تضمن حق المواطنين، من خلال مؤسسات دستورية وقضائية وتنفيذية ومؤسسات مجتمع مدني وسلطة رابعة، ممثلة في دستور وبرلمان وحكومة وقضاء مستقل وصحافة حرة. بمعنى آخر، المواطن ليس نسخا مشوها يردد صدى ما يقترحه الحاكم، وليس تابعا له، بل العكس صحيح، ذلك أن سلطة الحاكم يفترض فيها أن تكون منبثقة ومن اختيار الشعب.
إن هذه المقدمة تعني أن يكون الشعب مصدر السلطات، بما يصحب ذلك من حق السؤال والمحاسبة والمشاركة في صناعة القرار. وفي منطقة تجلس فوق فوهة بركان، وتختزن في باطنها عصب الحياة للنماء والحضارة الغربية، فإن ذلك يعني حق العراقيين في تحديد الكميات التي ينتجونها من النفط، والمشاركة مع الدول المنتجة للنفط في تحديد سعره، بما يتوافق مع الطموحات والأماني الوطنية. وأن من حقهم أيضا اختيار البلدان التي يتعاملون معها، بإرادة مستقلة، على كافة الأصعدة، وتحديد نوع المنتج الذي يستوردونه وفقا لمتطلبات خطط التنمية، وبالمواصفات والأسعار التي يرونها في صالحهم. وعلى الصعيد السياسي، فإنهم يرتبطون بأمة عربية، من خلال الجغرافيا والتاريخ واللغة والثقافة والدين والمعاناة المشتركة، ويعتبرون البلدان العربية بعدهم الإستراتيجي. ولهم أيضا موقف تاريخي وخاص فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. ومن المؤكد أن جميع هذه العوامل تجعل تحقيق الديمقراطية والتنمية والتمدين نقيضا للمصالح الإمريكية والإمبريالية. ومن خلال هذه البديهيات، وأيضا من خلال استقراء التجرية الأمريكية عبر حقب طويلة وممتدة، نقول بوضوح أن ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية تحقيق أي نوع من الإصلاح السياسي الحقيقي في المنطقة. وأن جل ما تسعى إليه هو إما أشكال ديكورية “حديثة” تشجع الحركة الإستهلاكية، وتضعف من صمود الأمة ومقاوماتها وسعيها نحو الإستقلال والتحرر من الهيمنة الأجنبية، أو التوصل إلى مقايضات، عن طريق الإبتزاز والتهديد. فيكون التطبيع مع الكيان الصهيوني، على سبيل المثال، أو التخلص من “أسلحة الدمار الشامل” والتسليم بمتطلبات الهيمنة واستحقاقاتها بديلا حتى عن المظاهر الديكورية للتحديث والتمدين.
والغريب في الأمر أن هناك كثير ممن صدق الأكذوبة وبنى عليها أوهاما وآمالا، وتناسى تاريخ طويل حافل بالقسوة والمرارة، بلغ فيه صلف قوى الهيمنة حد حرماننا من القمح والماء والدواء. وتاهت وسط الزحمة أفكار ورؤى برزت منذ ما يقارب القرن من الزمان، رافضة الفكرة القائلة بأن الاستعمار يمكن أن ينقل البلدان المتخلفة التي يحتلها من مرحلة الاقطاع إلى مرحلة الرأسمالية والتصنيع عن طريق استثمار أمواله في البلدان المستعمرة. موضحة أن الاستعمار في سعيه لاحتلال البلدان المتخلفة لا يهتم مطلقا باستثمار أمواله في بناء وتعزيز القدرة الإنتاجية للبلد المستعمر. وأن ما يهم هو الحصول على المواد الخام، خاصة النفط والحديد والفحم، والمواد الأخرى التي غالبا ما يكون التنافس في الحصول عليها على أشده في البلدان الصناعية المتقدمة, ولذلك فالاستعمار باحتلاله لدول العالم المتخلف الذي تتوفر فيه المواد الأولية يحسم التنافس لصالحه. إضافة إلى أن الإحتلال، هو وجه آخر وقبيح للإستعباد، وأنه على هذا الأساس مرفوض أخلاقيا وعمليا.
ولأن القانون الطبيعي، المستمد من رصد الحركة التاريخية للشعوب، هو أن يقاوم الشعب المحتل سلطات الإحتلال بكل ما أوتي من قوة ووسائل، فإن الفعل المضاد من قبل قوات الإحتلال هو العمل على تعطيل حركة المقاومة، من خلال تفتيت وحدة الشعب. كان ذلك هو ديدن الإستعمار البريطاني، أثناء احتلاله لعدد من دول العالم الثالث. وقد طبق سياسة فرق تسد في الهند، وحصل شعب الهند على الإستقلال، بقيادة مهاتما غاندي، ومن خلال عصيان مدني فريد في نوعه واستبسال صانعيه. ولكن السياسات البريطانية قادت إلى تجزئة القارة إلى ثلاثة أقسام. ولا تزال تبعة ذلك قائمة، حتى يومنا هذا، بعد أكثر من نصف قرن في النزاع على كشمير. وتحقق ذلك أيضا في إشعال فتن عشائرية محلية في فلسطين والسودان، وفي معظم البلدان التي شاءت مقاديرها أن تقع تحت هيمنة البريطانيين. ولم يكن الفرنسيون أقل فضاعة وقسوة من نظرائهم البريطانيين.
ووفقا لهذا القانون تصرف الأمريكيون مباشرة إثر احتلالهم للعراق. البلد العريق الذي أسست دولته الحديثة على أسس المواطنة، وليس على أسس المحاصصات الإثنية والطائفية. لقد تصرف الأمريكيون منذ اليوم الأول، وعن عزم وسابق إصرار على تفتيت وحدة الشعب العراقي. فشكلوا ما دعوه بمجلس الحكم الإنتقالي على أسس المحاصصات. وهي سابقة في التاريخ العراقي، وكان أول من دشنها في المنطقة العربية هم الفرنسيون، حين جمعوا القيادات التقليدية السياسية اللبنانية، فيما عرف لاحقا بالميثاق الوطني، وقسموا الغنيمة حصصا بين تلك القوى على أسس طائفية.
لقد كانت المقاومة العراقية هي الحصن الحصين للدفاع عن الوحدة الوطنية العراقية، كون المتوقع منها أن تشمل كافة العناصر الرافضة للإحتلال بغض النظر عن اختلافاتها الدينية والمذهبية والأثنية. لكن جملة من الظروف الإقليمية المحيطة تكالبت على هذه الوحدة، وساهمت في عملية التفتيت، مبرزة حالة مقيتة ومحدثة في تاريخ العراق، ظنا منها أنها بذلك سوف تتمكن في الحصول على جزء من الكعكة، لكن حالها في ذلك لن يكون سوى حال سنمار. وهكذا بدأت الصراعات داخل مجلس الحكم، وبعد ما دعي بتشكيل الحكومة المؤقتة، وأثناء حملة الإنتخابات التي تمت تحت حراب الإحتلال، وتخلف عنها أو حرم منها أكثر من 42% من النسيج العراقي. وانتشى المنتصرون بالنتائج التي رشحت عن تلك الإنتخابات، متناسين أن ثمن ذلك هو العراق كله. وكان المحتل ثملا بالنتائج التي توصل إليها. ثمل وهو يرى السكان العراقيين من العرب يطردون بالآلاف من مدينة كركوك، وثمل وهو يرى حملة التكريد لمدينة الموصل، وثمل أيضا وهو يسمع بعض الأصوات المأجورة تطالب بانفصال الجنوب عن الشمال، وبحق الجنوبيين في الإستفراد بآبار النفط الجنوبية، وأنهم ينبغي أن يحصلوا على ذات الحقوق التي حصل عليها الأكراد في الشمال، لاعتقاد راسخ لديه بأن العراق، شأنه شأن بلدان عربية أخرى ينبغي تقسيمه إلى كانتونات لا تقبل القسمة. وأن أهدافه في التمدين والتحديث لن تجد أمكنة أكثر ملائمة لتحقيقها من الكيانات المجهرية والكانتونات الصغيرة، حيث لا إرادة ولا سؤال ولا محاسبة.
ما يجري في العراق الآن من تصعيد لصراعات إثنية وطائفية، وتهجير مذهبي من المدائن العراقية، وحملات تصفية في هذا الطرف أو ذاك ليس سوى الإفراز القبيح لوجود الإحتلال الأمريكي في وادي الرافدين. ولسوف تتصاعد الحروب الطائفية والإثنية ويتحول العراق إلى ساحة حرب أهلية طاحنة، تذكرنا بما جرى في لبنان ما لم يتوحد شعب العراق حول هدف طرد الإحتلال وتحقيق الإستقلال. ويجب أن يقول العرب بكل صراحة إن المسئول الأول والأخير عن حالة الإنهيار والتداعي التي يعيشها المجتمع العراقي، هو المحتل الأمريكي، وما لم يخرج هذا المحتل من العراق، وتغادرالقوى الرديفة له التي قدمت على ظهور دباباته مواقعها، وينتظم الشعب العراقي في وحدة وطنية حقيقية، من خلال التسليم بالحق في المواطنة الكاملة لكل عراقي، دون تمييز في الطائفة أو الدين أو اللغة، وصولا إلى دستور حقيقي واقتراع ومؤسسات دستورية حرة، فليس أمام العراق، إن لم تحث حركة المقاومة الوطنية سيرها، سوى التشظي والإنهيار. وإذا حدث ذلك، لا سمح الله، فليس أمامنا سوى الطوفان.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-04-20
2020-05–0 4-:05
الرحبي من كويت
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
احيى الدكتور يوسف مكى علىتحليلاته القيمة ومنها هذا المقال ولكن ان يلقى بكل تبعات الازمة التى تمر بها امتنا وخاصة فى العراق على شماعة اللاحتلال والمحتلين دون النظر الى كثير من الاسباب الموضوعية ولاستبداد الممارس ولحقبة طويلة على شعوبنا العربية ومنها العراق يجعل قوى شعبية واسعة تضررت من تلك الممارسات الاستبدادية فى خانة الصف المؤيد للاحتلال وشكرا للدكتور الفاضل مرة اخرى
2020-05–0 4-:04
عبدالله الجفال – ممثل مسرحي من السعودية
نبدأ بتركيز أعيننا على السطور الأخيرة من المقال الذي تفضل به الدكتور / يوسف مكي والتي إنسابت منها هذه المفردات “فليس أمام العراق، إن لم تحث حركة المقاومة الوطنية سيرها، سوى التشظي والإنهيار. وإذا حدث ذلك، لا سمح الله، فليس أمامنا سوى الطوفان”، لكي نقول ذلك بكل صدق واقتدار ما زلنا نستشفهما من الواقع العراقي نفسه ، حيث أدرك الغزاة بعد كل هذه المقدمات ،أن الشعب بكافة أطيافه العرقية والفكرية في العراق ، قد توحد مشكلا طوابير لا تهدأ ولا تستكين ، من الفرق والمجاميع العسكرية المتدربة على كافة العمليات العسكرية ، مستهدفة كل مرتكزات العدوان في العراق.
ما نشهده في الإتجاه المضاد لفكر المقاومة ، لا يعدو كونه تهويشات إعلامية بحكم السيطرة على تلك الوسائل من قبل الدول الإستعمارية ومن يساندهافي الفعل والتوجه.
من هنا نشهد كثيرا من الضبابية واضحة على كل من استغنى عن فكره وعقله محللا أو باحثا عن الحقيقة الأزلية في سفر مقاومة الشعوب ،والتي تخبرنا دائما بأن نهاية سفر الاحتلال هي مزبلة التاريخ.
نحن نتذكر حديث الغزاة أنفسهم قبل مغادرتهم فيتنام بوقت قصير وهم يقولون ، بأن الوضع هناك مستقر ،وأن الحكومة المنتخبة تقوم بواجبها على أكمل وجه ،وأن ما نشهده على الساحة الفيتنامية لا يعدو كونه بؤرا إرهابية سرعان ما تنتهي وتزول ، كان هذا قبل اعلانهم الانسحاب المذل بـساعات قليلة فقط.
أما الحقيقة في سفر مقاومة الشعب العراقي ،وبرغم مجافاة الإعلان الدولي والعربي عنها قسرا، فإنها تقول : بأن المقاومة تسيطر على كل أرجاء وأرض العراق ، وأن العملاء وأعوانهم يتحصنون في المنطقة الخضراءوالقواعد الأمريكية المنتشرة في العراق والتي تنال نصيبها من الدك بصواريخ المقاومة على مدار الساعة…هذه هي الحقيقة المرة التي يجب أن يعترف بها الغزاة والعملاء.
وأخيرا جاءت على لسان رامسفيلد نفسه حينما قال : “بأن الجيش العراقي والذي اختفى من أرض المعركة قد عاد إلينا مرة ثانية يحاربنا بكافة الأسلحة ، وأنهم – على حد زعمه- يريدون القضاء على التوجه الديمقراطي في العراق “والذي أفاض عنه الدكتور العزيز بما فيه الكفاية.
هناك فرق كبير ما بين الدعاية الإعلانية المحتظنة من قبل الاحتلال وأعوانه والتي تحاول أن تشي بما ليس له وجود على أرض الرافدين، والوجود هنا لا اعني به العملاء أو الناطقون أو الحاضنون للفكر الإمبريالي بل أولئك الذين يشكلون قوة ضاغطة على هذه القوى العميلة في كل شبر من أرض الرافدين ، وبين الحقيقة المرة التي يتوالى الإفصاح عنها على لسان كبار القادة العسكريين في دول الاحتلال نفسها.
2020-05–0 4-:03
د. حسن كمال من السودان
الاستاذة هويدا طه السلام ورحمة الله وبركاته لقد اطلعت على المقال الذى جاء معبرا عن الوعى الذى نتطلع له فى هذا الواقع الاليم الذى تمر به الحركة القومية العربية ولك منى التقدير وللامة العربية النصر والتقدم