العراق من المحاصصات الطائفية والإثنية إلى الحرب الأهلية
قلنا إن الديمقراطية في بديهياتها، وكما تبرزها الأدبيات السياسية الغربية، هي حكم الشعب. بمعنى أن تكون المؤسسات التنفيذية والتشريعية منتخبة بشكل مباشر من قبل الجمهور، وعن طريق الاقتراع السري. إن ذلك يعني أنها التزام ووعي متطور لمفهوم المواطنة، بحيث تصبح عضوية كاملة في الدولة، ووحدات الحكم. وإنها ينبغي أن تضمن حق المواطنين، من خلال مؤسسات دستورية وقضائية وتنفيذية ومؤسسات مجتمع مدني وسلطة رابعة، ممثلة في دستور وبرلمان وحكومة وقضاء مستقل وصحافة حرة. بمعنى آخر، المواطن ليس مسخا مشوها يردد صدى ما يقترحه الحاكم، وليس تابعا له، بل العكس صحيح، ذلك أن سلطة الحاكم يفترض فيها أن تكون منبثقة من اختيار الشعب.
إن هذه المقدمة تعني أن يكون الشعب مصدر السلطات، بما يصحب ذلك من حق السؤال والمحاسبة والمشاركة في صناعة القرار. وفي منطقة تجلس فوق فوهة بركان، وتختزن في باطنها عصب الحياة للنماء والحضارة الغربية، فإن ذلك يعني حق العراقيين في تحديد الكميات التي ينتجونها من النفط، والمشاركة مع الدول المنتجة للنفط في تحديد سعره، بما يتوافق مع الطموحات والأماني الوطنية. وإن من حقهم أيضا اختيار البلدان التي يتعاملون معها، بإرادة مستقلة، على كافة الأصعدة، وتحديد نوع المنتج الذي يستوردونه وفقا لمتطلبات خطط التنمية، وبالمواصفات والأسعار التي يرونها في صالحهم. وعلى الصعيد السياسي، فإنهم يرتبطون بأمة عربية، من خلال الجغرافيا والتاريخ واللغة والثقافة والدين والمعاناة المشتركة، ويعتبرون البلدان العربية بعدهم الإستراتيجي. ولهم أيضا موقف تاريخي وخاص فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. ومن المؤكد أن جميع هذه العوامل تجعل تحقيق الديمقراطية والتنمية والتمدين نقيضا للمصالح الأمريكية والإمبريالية. ومن خلال هذه البديهيات، وأيضا من خلال استقراء التجربة الأمريكية عبر حقب طويلة وممتدة، نقول بوضوح إنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية تحقيق أي نوع من الإصلاح السياسي الحقيقي في المنطقة. وإن جل ما تسعى إليه هو إما أشكال ديكورية “حديثة” تشجع الحركة الاستهلاكية، وتضعف من صمود الأمة ومقاوماتها وسعيها نحو الاستقلال والتحرر من الهيمنة الأجنبية، أو التوصل إلى مقايضات، عن طريق الابتزاز والتهديد. فيكون التطبيع مع الكيان الصهيوني، على سبيل المثال، أو التخلص من “أسلحة الدمار الشامل” والتسليم بمتطلبات الهيمنة واستحقاقاتها بديلا حتى عن المظاهر الديكورية للتحديث والتمدين.
والغريب في الأمر أن هناك كثيراً ممن صدق الأكذوبة وبنى عليها أوهاما وآمالا، وتناسى تاريخاً طويلاً حافلاً بالقسوة والمرارة، بلغ فيه صلف قوى الهيمنة حد حرماننا من القمح والماء والدواء. وتاهت وسط الزحمة أفكار ورؤى برزت منذ ما يقارب القرن من الزمان، رافضة الفكرة القائلة بأن الاستعمار يمكن أن ينقل البلدان المتخلفة التي يحتلها من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية والتصنيع عن طريق استثمار أمواله في البلدان المستعمرة. موضحة أن الاستعمار في سعيه لاحتلال البلدان المتخلفة لا يهتم مطلقا باستثمار أمواله في بناء وتعزيز القدرة الإنتاجية للبلد المستعمر. وإن ما يهم هو الحصول على المواد الخام، خاصة النفط والحديد والفحم، والمواد الأخرى التي غالبا ما يكون التنافس في الحصول عليها على أشده في البلدان الصناعية المتقدمة, ولذلك فالاستعمار باحتلاله لدول العالم المتخلف الذي تتوفر فيه المواد الأولية يحسم التنافس لصالحه. إضافة إلى أن الاحتلال، هو وجه آخر وقبيح للاستعباد، وأنه على هذا الأساس مرفوض أخلاقيا وعمليا.
ولأن القانون الطبيعي، المستمد من رصد الحركة التاريخية للشعوب، هو أن يقاوم الشعب المحتل سلطات الاحتلال بكل ما أوتي من قوة ووسائل، فإن الفعل المضاد من قبل قوات الاحتلال هو العمل على تعطيل حركة المقاومة، من خلال تفتيت وحدة الشعب. كان ذلك هو ديدن الاستعمار البريطاني، أثناء احتلاله لعدد من دول العالم الثالث. وقد طبق سياسة فرق تسد في الهند، وحصل شعب الهند على الاستقلال، بقيادة مهاتما غاندي، ومن خلال عصيان مدني فريد في نوعه واستبسال صانعيه. ولكن السياسات البريطانية قادت إلى تجزئة القارة إلى ثلاثة أقسام. ولا تزال تبعة ذلك قائمة، حتى يومنا هذا، بعد أكثر من نصف قرن في النزاع على كشمير. وتحقق ذلك أيضا في إشعال فتن عشائرية محلية في فلسطين والسودان، وفي معظم البلدان التي شاءت مقاديرها أن تقع تحت هيمنة البريطانيين. ولم يكن الفرنسيون أقل فظاعة وقسوة من نظرائهم البريطانيين.
ووفقا لهذا القانون تصرف الأمريكيون مباشرة إثر احتلالهم للعراق. البلد العريق الذي أسست دولته الحديثة على أسس المواطنة، وليس على أسس المحاصصات الإثنية والطائفية. لقد تصرف الأمريكيون منذ اليوم الأول، وعن عزم وسابق إصرار على تفتيت وحدة الشعب العراقي. فشكلوا ما دعوه بمجلس الحكم الانتقالي على أسس المحاصصات. وهي سابقة في التاريخ العراقي، وكان أول من دشنها في المنطقة العربية هم الفرنسيون، حين جمعوا القيادات التقليدية السياسية اللبنانية، فيما عرف لاحقا بالميثاق الوطني، وقسموا الغنيمة حصصا بين تلك القوى على أسس طائفية.
لقد كانت المقاومة العراقية هي الحصن الحصين للدفاع عن الوحدة الوطنية العراقية، كون المتوقع منها أن تشمل كافة العناصر الرافضة للاحتلال بغض النظر عن اختلافاتها الدينية والمذهبية والإثنية. لكن جملة من الظروف الإقليمية المحيطة تكالبت على هذه الوحدة، وساهمت في عملية التفتيت، مبرزة حالة مقيتة ومحدثة في تاريخ العراق، ظنا منها أنها بذلك سوف تتمكن من الحصول على جزء من الكعكة، لكن حالها في ذلك لن يكون سوى حال سنمار. وهكذا بدأت الصراعات داخل مجلس الحكم، وبعد ما دعي بتشكيل الحكومة المؤقتة، وأثناء حملة الانتخابات التي تمت تحت حراب الاحتلال، وتخلف عنها أو حرم منها أكثر من 42% من النسيج العراقي. وانتشى المنتصرون بالنتائج التي رشحت عن تلك الانتخابات، متناسين أن ثمن ذلك هو العراق كله. وكان المحتل ثملا بالنتائج التي توصل إليها. ثمل وهو يرى السكان العراقيين من العرب يطردون بالآلاف من مدينة كركوك، وثمل وهو يرى حملة التكريد لمدينة الموصل، وثمل أيضا وهو يسمع بعض الأصوات المأجورة تطالب بانفصال الجنوب عن الشمال، وبحق الجنوبيين في الاستفراد بآبار النفط الجنوبية، وأنهم ينبغي أن يحصلوا على ذات الحقوق التي حصل عليها الأكراد في الشمال، لاعتقاد راسخ لديه بأن العراق، شأنه شأن بلدان عربية أخرى ينبغي تقسيمه إلى كانتونات لا تقبل القسمة. وأن أهدافه في التمدين والتحديث لن تجد أمكنة أكثر ملاءمة لتحقيقها من الكيانات المجهرية والكانتونات الصغيرة، حيث لا إرادة ولا سؤال ولا محاسبة.
ما يجري في العراق الآن من تصعيد لصراعات إثنية وطائفية، وتهجير مذهبي من المدائن العراقية، وحملات تصفية في هذا الطرف أو ذاك ليس سوى الإفراز القبيح لوجود الاحتلال الأمريكي في أرض الرافدين.
ولسوف تتصاعد الحروب الطائفية والإثنية ويتحول العراق إلى ساحة حرب أهلية طاحنة، تذكرنا بما جرى في لبنان ما لم يتوحد شعب العراق حول هدف طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال. ويجب أن يقول العرب بكل صراحة إن المسؤول الأول والأخير عن حالة الانهيار والتداعي التي يعيشها المجتمع العراقي، هو المحتل الأمريكي، وما لم يخرج هذا المحتل من العراق، وتغادر القوى الرديفة له التي قدمت على ظهور دباباته مواقعها، وينتظم الشعب العراقي في وحدة وطنية حقيقية، من خلال التسليم بالحق في المواطنة الكاملة لكل عراقي، دون تمييز في الطائفة أو الدين أو اللغة، وصولا إلى دستور حقيقي واقتراع ومؤسسات دستورية حرة، فليس أمام العراق، إن لم تحث حركة المقاومة الوطنية سيرها، سوى التشظي والانهيار. وإذا حدث ذلك، لا سمح الله، فليس أمامنا سوى الطوفان.