العراق من الاحتلال الى التقسيم
تسارعت الاحداث في العراق، بالأيام الأخيرة بشكل دراماتيكي. وكانت النتيجة حتى الآن خروج ثلاث محافظات هي نينوى والأنبار وصلاح الدين عن سيطرة الدولة العراقية. وشمول الانتفاضة ثلاث محافظات أخرى، جميعها تقع ضمن ما أطلق عليه المحتل الاميركي بالمثلث السني.
هناك روايتان عن القوة السياسية التي تصدرت المشهد، وقادت عملية سلخ المحافظات التي اشرنا لها عن المركز في بغداد. رواية حكومية تقول، ان جميع ما جرى في المحافظات، التي خرجت على الدولة العراقية هو من فعل تنظيم داعش الارهابي. وبالتأكيد فإن مثل هذا الاتهام، يتيح لحكومة بغداد، بزعامة نور المالكي، تعاطفا دوليا واقليميا وعربيا، ويبرزه كضحية لقوى الارهاب. وهو بذلك يضع المجتمع الدولي أمام مسؤلياته في التصدي للإرهاب، وتقديم ما يجب لنصرته في المواجهة العسكرية مع داعش.
الرواية الأخرى، التي تعبر عن موقف الثوار. وتنفي ضلوع تنظيم داعش في كل ما جرى مؤخرا، في نينوى وصلاح الدين. إنما جرى، من وجهة النظر هذه، ثورة شعبية، قادتها العشائر العراقية. والدافع لهذه الثورة، هو الخلاص من نظام الاستبداد والفساد المدعوم من طهران، والمعتمد على سياسة الاقصاء والتهميش للمكون السني.
وعلى هذا الاساس، فإن ما جرى من وجهة نظر الثوار، هو خطوة أولى على طريق تحرير العراق بأكمله من الحكم الحالي، الذي يمثل احد افرازات الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، خاصة وأن معظم من يقودون العملية السياسية الآن، هم ممن عادوا من العراق على ظهور دبابات الاحتلال.
وأي يكن الموقف من التفسيرين، وسواء كان ما جرى عملا ارهابيا او ثورة شعبية فإن العبرة في النتائج.
أدى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 إلى تفكيك الدولة العراقية، وتصفية هياكلها. وكان أبرز ما أقدمت عليه قوات الاحتلال، هو حل الجيش العراقي. وفي حينه اعتبر وزير الدفاع الأمريكي، رونالد رامسفيلد ما جرى بأنه فوضى خلاقة، وأن حرق الجامعات والمكتبات والمتاحف من قبل الغوغاء، هو تعبير عن الحرية لشعب لم يتعود ممارستها من قبل. وتلا ذلك تشييد عملية سياسية، هندس لها وقادها المندوب السامي الأميركي بول برايمرز، تأسست على القسمة وتوزيع مصادر القوة السياسية حصصا بين المذاهب والأقليات.
وكان من نتائج حل الجيش العراقي، حدوث فراغ سياسي أمني في بلاد السواد، عوضت عنه ميليشيات الطوائف المسكونة بالكيدية وهواجس الانتقام من التاريخ. يضاف إلى ذلك، أن غياب الجيش غيب حالة التكافؤ في القوة، بين دولة المركز والحركة الكردية في الشمال، التي ظلت تحت حماية الطيران الأميركي من مطالع التسعينيات. والنتيجة أن الشمال الكردي أصبح يحظى بما تحظى به الدول المستقلة، وصار يمارس سلطته بمعزل عن المركز. وأصبحت مسألة الإعلان عن انفصال الشمال، مسألة وقت، ورهن لتسويات وتوافقات اقليمية ودولية.
لم يكتف المحتل الأميركي بحل الدولة العراقية، وتفكيك مؤسساتها، وتشكيل نظام قائم على اساس القسمة بين الطوائف والاقليات، بل عمد إلى خلق ظروف مواتية لتقسيم العراق إلى ثلاث دول: دولة كردية في شمال العراق، ودولة شيعية في الجنوب ودولة سنية فيما عرف بالمثلث السني. وقد توجت هذه الخطوات، بتقديم نائب الرئيس الأميركي جوزيف بادن مشروع قرار إلى الكونجرس الأميركي يدعوا إلى تقسيم العراق. وقد وافق الكونجرس على ذلك وأصدر قرارا غير ملزم به.
إن التطورات الأخيرة في نينوى وصلاح الدين والأنبار، إن هي اقتصرت على المحافظات التي يشكل فيها المكون السني غالبية السكان، فإنها تتسق حتما مع مشروع تقسيم العراق.
فالدولة الكردية في شمال العراق، هي أمر واقع يتحقق ولم يتبقى سوى الاعلان عنه. ودولة الجنوب الشيعة لم يكن لها أن تقوم في ظل هيمنة القوى الطائفية الموالية لإيران على المركز. وبالنسبة للأنبار، كان من المستبعد قبول القوى الاقليمية، وبخاصة إيران بخروجها عن المركز. فهذه المحافظة تشكل الطريق البري الوحيد، الذي يصل العراق بسوريا ولبنان وبالتالي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، بما يضمن تحقيق استراتيجية إيران، التي عبر عنها قادتها عدة مرات والتي تعتبر البحر الأبيض المتوسط عمق إيران الاستراتيجي غربا.
هناك ايضا الموقف التركي المرتبك والحائر تجاه ما يجري في العراق. ففي الوقت الدي يتعاطف فيه مع بعض التنظيمات الاسلامية فإنه يخشى باستمرار، قيام دولة كردية مستقلة على حدوده الجنوبية.
الاوضاع في العراق خطيرة جدا، والأيام القادمة ستشهد صراعا دمويا مريرا. ولن يكون بمقدور حكومة المالكي لجم تطلعات الشعب العراقي في المحافظات التي انتفضت مؤخرا. إن المعلومات الواردة من تلك المحافظات، تشير إلى أن كثيرا من ضباط الجيش العراقي، الذي جرى حله قد ارتبطوا بالثورة، وهم معروفون بكفاءتهم وقدراتهم العسكرية، وأنهم الآن يستعدون لقيادة المواجهة ضد قوات نظام المالكي، والحرس الثوري الإيراني، المتوقع مشاركته في القتال إلى جانب قوات حكومة بغداد.
مطلوب تدخل عربي فوري، لحماية العراق من التفكيك، ومنع المجازر وشلالات الدم، التي ينتظر أن تسيل قريبا. خروج العراق من محنته لن تتم إلا بمصالحة حقيقية وبميثاق وطني يلغي العملية السياسية التي اسس لها المحتل، وتشييد عملية سياسية تستند على مبدأ المواطنة والندية والتكافؤ، وتأسيس جيش قوي تشارك، فيه على قدم المساوة جميع مكونات النسيج العراقي للدفاع عن سيادة البلاد وصيانة استقلالها وحماية أرضها وسمائها وبحرها، وتأمين عودة العراق بلدا عربيا قويا وشامخا، ليمارس دوره في عملية النهضة والتقدم العربيين.