العراق بين كسر القيود والمخاوف من التفتيت
عاد العراق مجددا، لواجهة الأحداث، بعد اندلاع مظاهرات صاخبة بعدد من مدنه، بالأسابيع الأخيرة، شملت الفلوجة والرمادي والموصل وكركوك وسامراء. ويتوقع انتقالها لمدن أخرى. الحدث الذي فجر هذه التظاهرات، هو إقدام وزارة الداخلية في حكومة المالكي،
على اعتقال أفراد من حماية وزير المالية، رافع العيساوي، وتوجيه تهم ارتكاب جرائم إرهابية بحقهم. لقد رأى كثيرون، أن دوافع عملية الاعتقال هذه هي تصفية حسابات سياسية، في بلد شيد المحتل بنيانه السياسي على أسس المحاصصة الطائفية.
وعلى هذا الأساس، بدا على السطح، أن الأسباب المباشرة لتفجر الأحداث الأخيرة، هو الصراع بين أطراف جمعتها الشراكة بالعملية السياسية، التي دشنها المحتل الأمريكي. لكن هذا التفسير يبدو غير كاف. فليس بوسع حدث بسيط بمفرده، كاعتقال أفراد حماية لأحد الوزراء، وإن كان بحجم وزير المالية، أن يشعل فتيل انتفاضة شعبية، في مناطق واسعة من البلاد.
ما يعزز من هذه القناعة، هو أن نقطة الانطلاق في هذه التظاهرات هي مدينة الفلوجة، التابعة لمحافظة الأنبار، التي عرفت بمقاومتها العنيدة للاحتلال الأمريكي. وجاءت التظاهرات تلبية لنداءات من رجال عشائر وأئمة المساجد. وقد تركزت هتافات المتظاهرين على اتهام حكومة بغداد، بالطائفية والفساد، وخوض معركة ثأرية واستفزازية من الخصوم، وإلصاق تهم الإرهاب بحقهم، وتوجيه الصراع نحو الطيف المذهبي السني، واستخدام قضاء مسيس وفاسد، من قبل رئيس الوزراء المالكي، لتعضيد موقفه في الصراع مع خصومه.
لقد كان اعتقال أفراد حماية وزير المالية، العيساوي، القيادي في القائمة العراقية التي يتزعمها أياد علاوي، هي القشة التي قصمت ظهر الجمل. فبعد ما يقرب من عشر سنوات على الاحتلال الأمريكي لأرض السواد، ومرور عام على الانسحاب الأمريكي، لا يزال العراق مثقل بالكثير من الأزمات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والخدمية، وآخرها أزمة المناطق المتنازع عليها بين السلطة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان شمالي العراق.
إن حالة الاحتقان التي يعاني منها شعب العراق، بسبب تفاقم أزماته، هي ما تفسر عنف الانتفاضة الشعبية التي تجري فيه، والتي وصفها البعض بالثورة، وهي أيضا ما تفسر تطور مطالب المتظاهرين، التي اقتصرت، في بداية انطلاقتها، على المطالبة بإطلاق سراح بعض النساء المعتقلات، ومحاسبة الضباط الذين انتهكوا أعراض السجينات بالاغتصاب، على خلفية اتهام أزواجهن أو أخوتهن بمقاومة الاحتلال.
ثم تطورت المطالب إلى إطلاق سراح الرجال الذين تعتقلهم حكومة المالكي، والذين يتجاوز عددهم السبعمائة معتقل، يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والمهانة. وخلال أيام قليلة، ارتفع سقف المطالب ليشمل المطالبة بمعاقبة المجرمين، بما فيهم رأس السلطة، الذي أصدر أوامره، أو تغاضى عن انتهاك الحريات، بما أدى إلى ارتكاب جرائم، توصف بجرائم إبادة.
وشملت مطالب المتظاهرين أيضا، محاسبة اللصوص وسراق المال العام، الذي بلغ بحسب تقارير دولية، أرقاما فلكية. وتشمل المحاسبة، عددا كبيرا من السياسيين والمسؤولين في الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ بداية الاحتلال الأميركي عام 2003 وحتى تاريخه. لقد اتهم هؤلاء جميعا بتبديد ثروة البلاد، في أوجه صرف وهمية، في الوقت الذي يعاني منه المواطن من الفاقة والجوع، ونيل أبسط مستلزمات العيش الكريم في بلد غني بثرواته.
يضاف إلى ذلك، هناك استياء لدى عموم العراقيين، بسبب بقاء البنية التحتية، التي دمرها القصف الهمجي، دون إصلاح، حتى هذا التاريخ. فلا كهرباء ولا أجهزة صرف صحي، ولا صحة ولا اهتمام بشبكة الطرق والمواصلات. لقد أدى السطو على مقدرات العراق وثرواته، إلى تحوله إلى مصاف أفقر الدول. لكل هذه الأسباب يجد كثير من العراقيين، فيما يجري من تظاهرات واسعة، بداية ثورة حقيقية على الحكم القائم، متسقة مع ما يجري من تحولات سياسية، دراماتيكية في عدد من الأقطار العربية.
الخشية هي أن تستمر هذه التظاهرات، في المناطق التي يشكل الطيف السني غالبية سكانها، وأن لا تنتشر لبقية المحافظات العراقية. إن اقتصار المظاهرات، على محافظات الأنبار وصلاح الدين وكركوك والجزء الغربي من العاصمة بغداد، المناطق المتعارف عليها منذ الاحتلال، بالمثلث السني، يسم الانتفاضة بالطائفية، ولا يجعلها معبرة عن إرادة جميع العراقيين، بمختلف طوائفهم.
ويعزز من هذه الخشية، رفع شعارات طائفية، في هذه المظاهرات حتى وإن كانت من عناصر محدودة وهامشية، ولا تمثل غالبية المشاركين في الحركة الاحتجاجية. وأيضا دعوة بعض رجال الدين في محافظة الأنبار، وعلى رأسهم الشيخ مشعان العيساوي، رئيس مجلس علماء مدينة الفلوجة، بكلمة ألقاها أمام المتظاهرين وسط المدينة، “ابناء المكون السني بالانسحاب الفوري من حكومة المالكي الطائفية دون تأخير”، مطالبا باحترام المكون السني والكف عن استهداف رموز السنة، والابتعاد عن منهج الإقصاء الذي يتعرض له هذا المكون في كافة مؤسسات الدولة”.
إن اقتصار هذه التظاهرات على هذه المناطق، وعدم امتدادها لوسط وجنوب العراق، من شأنه إعادة الملف الطائفي، الذي أسهم في تفتيت العراق، وإعادة تشكيله، استنادا على الهويات الجزئية، خاصة وأن هناك تأكيدات عدة، من قبل قادة وسياسيين عراقيين، من أن الاعتقالات تطال في غالبيتها رموزا من المكون السني، وان قانون الإرهاب يطبق عليهم دون غيرهم من مكونات العراق.
خلال هذا الأسبوع، خرجت مظاهراـت، في مدينة بغداد ومحافظتي النجف وكربلاء، مؤيدة لرئيس الحكومة نوري المالكي، ومنددة بالانتفاضة الشعبية التي تجري في مواجهته. إن ذلك يعني أن المجتمع العراقي، منقسم، في موقفه السياسي، على أساس طائفي، بما يهدد العراق ومستقبل وحدته الوطنية.
الخطورة في هذا الأمر، أنه يتسق مع المشروع الغربي، والهادف لتحقيق سايكس- بيكو جديدة، وشرق أوسط جديد، ينبثق، بفوضى خلاقة ومخاض ولادة، تكون من نتائجها، تفتيت أرض السواد، إلى ثلاث دول. دولة كردستان، في شمال العراق، وقد أصبحت أمرا واقعا، ودولة شيعية في الجنوب، وأخرى سنية فيما صار معروفا بالمثلث السني، لتضيف إلى تجزئة الأمة، تجزئة جديدةـ تشمل الكيانات الوطنية، في متتاليات لا يبدو أن لها نهاية.