العراق بعد الإنتخابات: قراءة أولية
لم تكن النتائج الإنتخابية التي أعلنت في العراق هذا الأسبوع مفاجئة لأحد، فمنذ فترة ليست قريبة كانت القوى التي تصدرت القوائم التي أعلن فوزها، تهيء نفسها لمثل هذه النتائج. وقد ساعدت جملة من الظروف على ذلك. فقد تمتع مرشحوا تلك القوائم بتأييد ودعم من قبل الإدارة الأمريكية. وكانت التحالفات المعلنة وغير المعلنة بين هؤلاء المرشحين ودول الجوار، عاملا في تهيئة المستلزمات والظروف لبروز هذه النتائج. كما كان إلحاح إدارة الإحتلال على إجراء الإنتخابات، في ظل وجود قواتها، وإقصاء شرائح كبيرة لا يستهان بها من مكونات المجتمع العراقي وقواه السياسية والوطنية الفاعلة عاملا آخر في النتائج التي تحققت على الأرض. لكن الأسئلة المركزية هي ماذا بعد الإنتخابات؟ وهل ستغادر قوات الإحتلال أرض العراق وينعم أهله بالأمن والإستقرار، أم أن الأوضاع ستتجه صعودا في تدهورها، بالنسبة للقوى التي راهنت على إخضاع العراق، بما يعني تصاعد أوار المقاومة وصولا إلى طرد القوات المعتدية وانتزاع الإستقلال والسيادة؟.
إن الإجابة على هذه الأسئلة هي التي سترسم لنا صورة المشهد العربي في المرحلة القادمة، وبخاصة ما يتعلق بالقضية المركزية للعرب، قضية فلسطين. ذلك أن الإدارة الأمريكية لم تخف نواياها في أن العراق هو الحقل الأول في استراتيجيتها لصياغة خارطة سياسية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط. ولا نبالغ إذا قلنا أن الحضور الفلسطيني في القضية العراقية لم يقتصر فقط على المواقف التاريخية المشهودة للعراق في كل الحروب التي خاضها العرب مع الصهاينة دفاعا عن أرضهم وكرامتهم، وفي دعمه المستمر لقضية فلسطين ومقاومتها واستشهادييها والتي كانت سببا رئيسيا في حصاره، ثم الحرب عليه، فاحتلاله والسعي الى تدميره ككيان وتمزيقه كمجتمع وانهائه كدولة ومؤسسات.، كما يتجسد الحضور الفلسطيني في الوجدان العراقي بما نشهده من طغيان صهيوني في ادارة الحرب الامريكية على العراق، تخطيطا وتمهيدا واسلوبا، وفي ممارسات قوات الإحتلال وتفننها في التدمير والوحشية، بل ان أي محلل موضوعي يدرك، ان نتائج المعركة الدائرة رحاها اليوم في العراق ستنعكس حتما على مستقبل القضية الفلسطينية سواء من الناحية السلبية او الايجابية، حيث نذكر جميعا ان “ضمان امن الكيان الصهيوني كان دائما من ابرز اهداف الحرب الامريكية على العراق، بل ان جنرالا اميركيا مرموقا، كان حتى وقت قريب من اركان ادارة بوش، هو الجنرال زيني قال: “لقد ذهبنا الى العراق لضمان امن اسرائيل” ذلك ان الاهداف الاخرى كان يمكن الوصول اليها بغير الحرب وتكاليفها الباهظة.
وذاكرتنا لا تزال تحتفظ في سجلاتها أن اول الموضوعات التي طرحت بعد الإحتلال الأمريكي للعراق، كان إلحاح الإدارة الأمريكية على خروج أرض الرافدين من الصراع العربي – الصهيوني، واعادة فتح خط انابيب النفط بين كركوك وحيفا”، وافساح المجال لدخول الشركات الاسرائيلية إلى العراق، ناهيك عن دور الموساد الصهيوني المعلن في مطاردة العلماء والاكاديميين العراقيين والتجسس على النشاط النووي الايراني من خلال قواعد في شمال العراق، وتشجيع ظاهرة الانفصال الكردي، واحتضان عملية تأجيج الصراع الطائفي السني – الشيعي عبر عمليات تفجير واغتيال متنقلة بين العلماء من المذهبين وبين المناطق ذات الكثافة السكانية من هذا المذهب او ذاك.
وكما كان حل الجيش العراقي هدفا صهيونيا، من إجل إفراغ الأمة العربية من مخزونها الإستراتيجي العسكري، كان القضاء على عروبة العراق هدفا رئيسيا آخر. واللافت في هذا الأمر أن الذين يطالبون باستحقاقات القوى الإثنية والمدهبية في العراق، ويطرحونها بقوة عبر مصطلحاتهم السياسية وممارساتهم، شطبوا من سجلاتهم أية إشارة لعروبة العراق، ولم يتحدثوا عنه باعتباره قطرا عربيا وبلدا إسلاميا، بل صوروه كمجموعة من الشظايا المذهبية والعرقية، التي لا يجمع بينها جامع، متناسين أن الهوية العربية والإسلامية للعراق ليست صناعة لحظة في التاريخ، بل هي سيرورة حفرت مساربها بعمق في ذاكرة ووجدان شعب هذا البلد العريق.
من هنا تطرح هذه الأسئلة نفسها علينا بإلحاح، كونها تلقي بظلالها ثقيلة على مصيرنا، وحاضرنا ومستقبلنا..
وابتداء ينبغي التنويه إلى أن القوى التي تصدت للإحتلال، منذ اليوم الأول لسقوط بغداد قد استبعدت تماما من العملية السياسية، تارة تحت شعار اجتثاث البعث وأخرى تحت يافطة عدم السماح للعراقيين ببناء جيش قوي يمكن أن يهدد الجيران في المستقبل. وإذا ما تناولنا ذلك من الناحية العددية، فإن اجتثاث البعث يعني إبعاد أكثر من مليوني عضو ومؤيد للحزب عن العملية السياسية برمتها، وبالنسبة للجيش فإن أفراده والمرتبطين به يتجاوز تعدادهم المليون شخص. إن ذلك يعني شريحة كبيرة من المجتمع العراقي لم يجر إبعادها عن العملية السياسية فحسب، ولكن جرى حرمانها من العمل والعيش الكريم، وهذه الشريحة تتحمل أعباء رعاية ملايين العوائل، وطبيعي أن يتعاطف أفراد تلك العوائل مع معيليهم.
وقد شكلت هذه الشريحة، منذ اليوم الأول، عصب المقاومة العراقية وعمودها الفقري. ومع مرور الأيام ارتبطت المقاومة قوى سياسية أخرى، ذات توجهات عروبية ودينية، وتوسعت الدائرة. وكانت فرصة لا تعوض، لقوى أصولية تحمل نزعات جذرية وإرث عداء للسياسة الأمريكية في المنطقة. والتقت مع هذه القوى مجموعات تناضل سلميا من أجل طرد المحتلين كالمؤتمر الوطني التأسيسي.
لقد برزت المقاومة مباشرة بعد سقوط بغداد. وكان الدرس الأول الذي أثبتته هو أن نتائج الصراع بين الشعب المقاوم وبين قوى العدوان ليس محكوما بموازين القوى، قدر ارتباطه بموازين الارادات، وأن النتائج تحكمها الإرادات والقدرة القتالية وليست التكنولوجيا والمعدات الحديثة. وهكذا انطلقت المقاومة بتصميم استثنائي ورؤية استراتيجية واضحة في عملياتها، كما ونوعا. وتمكنت من إلحاق خسائر كبيرة في قوات الإحتلال، متجهة إلى الأمام في خط بياني متصاعد. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى تقرير البنتاغون الصادر في مطلع شهر يناير من هذا العام، والذي أشار إلى أن نسبة الخسائر الأمريكية قد تصاعدت إلى مستوى 440% منذ إعلان انتهاء الحرب، وإلى تضاعف عمليات المقاومة العراقية، بعد مجزرة الفلوجة، والتي جرت بهدف القضاء على المقاومين العراقيين في محافظة الأنبار.
ولعل حادثة قطع وزير الدفاع الإسترالي لرحلته لتفقد أوضاع جنوده في بغداد، بعد هبوط طائرته في مطارها الدولي، نظرا لصعوبة وصولة بالسيارة إلى المنطقة الخضراء، وتعذر توفير طائرة مروحية له، حيث مقر السفارة الإسترالية والأمريكية والبريطانية، ومقر مجلس الحكم المعين من قبل الأمريكيين، وهي مسافة لا تتجاوز الثلاثين كيلو مترا من المطار إلى السفارة الأسترالية، مؤشرا آخر، على حجم فاعلية المقاومة العراقية.
يضاف إلى ذلك تصريحات المسؤولين الأمريكيين المتكررة، وفي مقدمتهم رامسفيلد وكونداليزا رايس وكولن باول بأن المقاومة ستستمر وتتصاعد بعد الإنتخابات، ومطالبة مسئولين آخرين بجدولة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، بل وإلحاح بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي، وفي مقدمتهم السناتور إدوارد كنيدي على المباشرة فعليا في تحديد برنامج الإنسحاب.. إن هذه التصريحات والمطالبات مؤشرات لا يخطئها المراقب بطبيعة المستنقع الذي وجد الأمريكيون أنفسهم غارقين فيه. ومن هنا، فإن بعض المراقبين يؤكدون أن إلحاح الأمريكيين على إجراء الإنتخابات في هذا الوقت هي محاولة لخلق واقع جديد، يتيح لهم الهروب من العراق، إذا ما اشتد عنف المقاومة، تحت ذريعة أن العراق أصبح بلدا مستقلا وأنهم لا دخل لهم في مستقبله. بل وربما يضغطون على الأمم المتحدة لتلعب دورا إحلاليا وبديلا.
ما الذي يعنيه ذلك، بالنسبة للأسئلة المركزية التي طرحناها في صدر هذا الحديث؟!
المؤكد أن المقاومة ستواصل عملياتها بشكل متصاعد، وأنه لم يتحقق شيئا جديدا في المسرح السياسي العراقي بفعل الإنتخابات. فالنتيجة التي شهدها العراقيون بأنفسهم هي أن ذات القوى التي قدمت على ظهور دبابات المحتلين، ستتسلم السلطة بمسميات جديدة، كانت في المرحلة الإولى باسم مجلس الحكم الإنتقالي، ومن ثم انتقلت إلى الحكومة المؤقتة، والآن سوف تمارس مهامها باعتبارها ممثلة للعراق “المستقل”، والمكبل باتفاقيات ومعاهدات تحد من حريته واستقلاله.
ومع أنه من المبكر جدا التنبؤ بمدى مصداقية الوعود الأمريكية بالإنسحاب من العراق، واحترام خياراته شعبه وحقه في رسم مصائرة وأقداره، فإن المؤكد أن الخارطة السياسية الجديدة للعراق وللمنطقة بأسرها، لن ترسمها المخططات الأمريكية والصهيونية، بل سوف تحددها، سلبا أو إيجابا، طبيعة المنازلة العسكرية الدائرة الأن على أرض الرافدين، وهي منازلة لن ننتظر طويلا حتى نتعرف على نتائجها.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-02-02
2020-05–0 2-:02
web master من Saudi arabia
test for the new PostNotes sys