العراق الجديد والنموذج الإسرائيلي

0 257

في آخر تصريحات الرئيس الأمريكي، جورج بوش، طالب بالتحلي بالصبر، واعدا بنجاح استراتيجيته في العراق، آملا أن تكون إسرائيل مثلا يحتذى به في التجربة العراقية. وقال في كلمة ألقاها بكلية الحرب البحرية في نيوبورت بولايد رود إيلاند إن بلاده تعمل من أجل أن يصبح العراق دولة ديموقراطية تتعامل مع العنف، تماما مثل إسرائيل، وإن قيام الدولة الديموقراطية ليس شرطه إنهاء العنف، بل إقامة “ديموقراطية فعالة”، رغم استمرار العنف. إن النجاح يقاس، بقدرة الحكومة على حماية الشعب وتوفير الخدمات لكل مواطنيها، ومرة أخرى، فإن الكيان الصهيوني ينبغي أن يحتذى به في هذا السياق.

 

لقد جاء هذا الخطاب في وقت تتصاعد فيه المعارضة لسياسة الإدارة الأمريكية الحالية في العراق، ووسط تنامي الدعوات لانسحاب سريع للقوات الأمريكية من العراق.

 

فالمنافسون الديموقراطيون، وعلى لسان زعيمة الأغلبية في الكونجرس الأمريكي، السيدة نانسي بيلوسي، يعلنون صراحة، أنهم سوف يستغلون نتائج التقرير المرتقب صدوره في سبتمبر، حول سير خطة بوش الأمنية في العراق، باتجاه المطالبة بوضع جدول زمني لسحب القوات وهو أمر يعارضه بوش بشدة. ويلاقي هذا المطلب دعما شعبيا واسعا في صفوف المثقفين والكتاب والفنانين وعوائل الضحايا، ومن قطاع واسع من أهالي أفراد القوات المسلحة المتواجدة في ساحات القتال.

 

والأنكى من ذلك، بالنسبة للرئيس بوش، أن تصريحات الديموقراطيين هذه قد تزامنت مع تنامي المعارضة داخل الحزب الجمهوري للحرب في العراق، ومع انسحابات لأعضاء جمهوريين لامعين من الحزب، احتجاجا على سياسة بوش، تمهيدا لانتخابات عام 2008م. فقد أعلن رتشارد لوجار، وهو جمهوري بارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ هذا الأسبوع أن استراتيجية بوش في العراق ليست مجدية، وأن من الضروري البدء في سحب القوات الأمريكية، ولحقه بعد يوم واحد السناتور جورج فوينوفيتش الذي دعا إلى تبني خطة “متدرجة لفض اشتباكنا عسكريا” من العراق.

 

وهكذا فإن القراءة المعمقة لخطاب الرئيس بوش، وربطها بالتراجع السريع لقائمة مؤيدي سياساته في العراق، توضح أن الخطاب قد حمل عدة إيماءات عن تقييم سلبي ومتشائم سيتضمنه تقرير سبتمبر المتوقع صدوره من البنتاجون. ولا شك أن ذلك سيشكل نكسة أخرى للسياسة الأمريكية في العراق، خاصة وأنه يجيء بعد إرسال أكثر من 38 ألف جندي إضافي إلى ساحة الحرب، اتساقا مع توصيات تقرير بيكر- هاملتون. إن النتائج السوقية تؤكد أن الحل الحقيقي للمحنة الأمريكية في العراق، لا يكمن في زيادة عدد القوات، واستمرار التواجد الأمريكي هناك، ولكنه في اعتماد حل سياسي، يعترف بفشل مشروع الاحتلال، وما تمخض عنه من دساتير ولوائح ومؤسسات. كما يؤكد تقدم المشروع الوطني المناهض لغطرسة القوة، والمطالب بانسحاب القوات الأمريكية من بلاد النهرين، دون قيد أو شرط.

 

لن يجدي الرئيس الأمريكي بوش الاستمرار في إسماع الأمريكيين أسطوانته المشروخة، ومطالبتهم بالتحلي بالمزيد من الصبر، وإعلان نجاحات وهمية، ليس لها ما يسندها على أرض الواقع. كما لن يسنده القول بأن استراتيجيته الأمنية الفاشلة قد وضعها عسكريون أذكياء، وأن الأمريكيين مدينون لهم بالدعم ومدينون لهم بالوقت الذي يحتاجونه لإحراز النجاح. لأن ذلك يعني بالنسبة للأمريكيين المزيد من الخسائر.. والمزيد من القتلى والجرحى، والمزيد من الفوضى والمزيد من الفشل. وسيرى الأمريكيون في هذه التصريحات اعترافا ضمنيا من بوش بأن الاستراتيجيات الأمريكية السابقة، التي مورست منذ الاحتلال حتى تاريخه قد أعدت من قبل مجموعة من العسكريين الأغبياء.

 

أما مقاربة المشروع الأمريكي في العراق بالمشروع الصهيوني، فربما اعتبرها البعض زلة لسان أخرى، تضاف إلى سجل زلات الرئيس بوش اللسانية المعهودة، شأنها شأن الحرب الصليبية التي أعلن عنها، أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، وشأنها شأن التمييز بين قادته العسكريين وتقسيمهم إلى أذكياء وأغبياء.. وشأنها أيضا شأن فشله بامتحان ابتدائي في مادة الجغرافيا عجز فيه عن تسمية كثير من عواصم العالم. لكن عذره، أنه كان يحاول التقرب من اللوبي الصهيوني “الإيباك”، والتماس معونة ونصرة صقوره، اعتمادا على تأثيرهم في الكونجرس وأجهزة الدعاية والإعلام الأمريكية، والمؤسسات المالية، علها تسعفه بحل للخروج من المحنة، وهي استغاثة لن تعدو أن تكون غير استجارة من الرمضاء بالنار.. وهي أيضا كشف عن ومضة عبقرية غير مسبوقة في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية!.

 

ومن وجهة نظرنا، فإن المقاربة بين المشروع الصهيوني، والمشروع الأمريكي منطقية في أمور عدة، لكن الصواب يجانبها في أمور كثيرة. منطقية من حيث أن المشروعين استندا على العدوان. الأول قام على قتل المدنيين، وبقر بطون النساء، وتشريد السكان الأصليين من ديارهم، وإقامة كيان عماده شذاذ الآفاق، الذين قدموا من كل حدب وصوب، من مختلف بقاع العالم، ليشكلوا جدارا عازلا بين الحضارة الأوروبية المتمدنة، وبين السكان العرب، البرابرة والمتوحشين، بموجب نص لثيودور هرتزل. وبالنسبة للعراق، فإن نشرات الأخبار اليومية، تتحدث عن أعداد هائلة من مقطوعي الرؤوس، وعن فرق موت تقتل على الهوية… وعن تدمير للجسور، ونهب للمتاحف والجامعات ودور العلم.

 

وجه الشبه الآخر، أن كلا المشروعين فرضا من الخارج.. كان المشروع الصهيوني، نتاج وعد بلفور البريطاني. وقد تم بدعم مالي وعسكري وبشري من الغرب الاستعماري ومؤسساته، واستهدف حق العرب والفلسطينيين في تقرير المصير، وخرج على المواثيق العالمية، ومبادئ القانون الدولي. وبالمثل، كان احتلال العراق، خروجا على الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي والنداء العالمي لحقوق الإنسان. كان المشروع الأول أكثر صراحة من حيث نفيه لغريمه.. فقال أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، أما المشروع الثاني، فرأى أن الأمر لا يستقيم إلا بذبح العراقيين أو طردهم.. وفي هذا السياق، فإن أكثر من ستة ملايين من العراقيين يعيشون في المنفى الآن.

 

وجه شبه ثالث: أن الكيان الصهيوني، قام على أساس إيجاد وطن قومي لليهود. وهؤلاء اليهود كانوا يعيشون في بلدان عديدة ممتزجين بثقافاتها، ويحملون هوياتها وجنسياتها. وقد أقيم الكيان استنادا على أسطورة الحق التاريخي، وهي أسطورة لا يتماهى طرحها مع روح العصر.. في العراق، البلد العريق، والمليء بالحيوية والنشاط والحضور السياسي لأحزاب مدنية عريقة، تأسست فيه، ومارست أنشطتها لأكثر من قرن، منذ الأيام الأخيرة للسلطنة العثمانية، وعاشت طوائفه وأقلياته القومية في سلام ووئام، وتفاعلت وتمازجت علاقات أبنائه بالتواصل والأرحام، أحدث المحتل انقلابا في ثقافاته وتقاليده، وشكلت أول حكومة انتقالية عينها الأمريكيون على أسس محاصصات طائفية وإثنية، وشكلت فدرالية مزيفة بنفس منطق التفتيت الذي عبر عنه منطق التشكيل لأول حكومة انتقالية بعد الاحتلال.

 

ومما لا شك فيه، فإن الادعاء بأن تشكيل الحكومة الانتقالية وإعلان الدستور والفدرالية، كانت خطوات على طريق قيام نظام ديموقراطي، هو ادعاء باطل وغريب، ولا يستقيم مع قوانين التطور، وتجارب الإنسانية واحترام خيارات الشعوب وحقها في تقرير مصائرها وأقدارها. وبالتأكيد هي إجراءات لم يوجد أبدا ما يماثلها في الأنظمة الديموقراطية في سائر بلدان العالم.

 

أما وجه الافتراق بين المشروعين الصهيوني في فلسطين، والأمريكي في العراق، فإن الأول كان مشروع استيطان أوروبي، نقل تقاليد لبرالية أوروبية، منحها للصوص الذي سطوا على أرض فلسطين، لكنها كانت على حساب شعب آخر. أما بالنسبة للعراق، فإن الشعب الذي يراد تطبيق المشروع الغربي عليه، هو شعب عربي عريق، بثقافات إنسانية، تمتد في عمق التاريخ، إلى عصر نبوخذ نصر، وسرجون، وقوانين حمورابي. وكان حاضرة عربية وإسلامية عتيدة، منذ عصر الخليفة العادل، عمر بن الخطاب، وقبلة للعالم بأسره في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وابنه المأمون. وقد احتضنت مدنه التاريخية، في البصرة والكوفة وبغداد مناهج علم الكلام، ومدارس الفقه، وشهدت تدوين الحديث وأيام العرب، وعلوم الأولين. وكان حتى وقت احتلاله، عضوا فاعلا في الأسرة الدولية، ولم يكن بحاجة إلى من يعلمه دروس الحرية والديموقراطية والحضارة… وكان الفعل الوطني المقاوم الذي بدأ مباشرة، قبل انبلاج صبح آخر لاحتلال بغداد، دليلا على رفض قطعي للمشروع الأمريكي.

 

ومن جهة أخرى، كان هذا الشعب ينعم بالخدمات… بالسكن والتعليم والعلاج والكهرباء قبل زمن الاحتلال، وكان الاحتلال إيذانا بحقبة مظلمة في تاريخه.. ولم تكن البلاد مرتعا للإرهاب، ولا للصوص وعصابات التخريب والقتل، وقد أصبحت بعد الاحتلال مرتعا للصوص وسراق المليارات، وفي مقدمتهم المندوب السامي، برايمرز.

 

عذر بوش الوحيد، في دعواته الأخيرة للتحلي بالصبر، والاقتداء بالتجربة الإسرائيلية، هو أن الناس قد تعودوا كثيرا على هفواته وهجره وزلاته، وهو عذر قد يغفره له كثير منهم، لكن سجل التاريخ، له أحكامه، وهي في مثل هذه الحالة أحكام قاسية، لا تعرف الرحمة على أية حال. وتبقى هناك نقاط أخرى في هذا السياق جديرة بالمناقشة.+

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة ناصر جميل)

 

ان الفشل بعينه لعقلية الرئيس الامريكى0 وممايؤسف0 كلامه فى واد والشعب يذبح على ايدى فارضى الديمقراطيه0 والجيش الامريكى فى واد

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة × 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي