العدوان على غزة وجدل الصراع مع الصهاينة
لحقب طويلة، ساد اعتقاد عام لدى النخب العربية، وكثير من القادة العرب، بأن صراع العرب مع المشروع الصهيوني، هو صراع محكوم بالخلل في التوازن الإستراتيجي، لصالح الصهاينة. وقد عزز من هذا الاعتقاد، أننا خضنا ثلاثة حروب، كانت نتيجتها هزائم عسكرية، للجيوش العربية، وانتصار واضح لعصابات دولة الاحتلال. وقد تسلل إلى اليقين العربي، أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
لقد فشلنا عام 1948، في تحرير فلسطين، وكانت نتيجة ذلك أن قرار تقسيم فلسطين، رقم 181 الذي رفضناه، أصبح شيئا من الماضي، وأن الصهاينة تمكنوا من احتلال ما يزيد على 80% من أرض فلسطين التاريخية، وأن سبعمائة ألف فلسطيني، أصبحوا لاجئين، خارج بلادهم، في البلدان العربية المجاورة. وقد عرت النكبة، أوضاع الجيوش العربية، التي افتقرت في حينه للخبرة والكفاءة والتنظيم والقدرة على التنسيق، والتفاعل فيما بينها.
لم تمض سوى ثمان سنوات على الإعلان عن تأسيس الكيان الغاصب، إلا والعدو يمطرنا بعدوان آخر على مصر، شاركت فيه بريطانيا، التي رأت فيه محاولة للتعويض عن المهانة التي لحقت بها بتأميم قناة السويس، وفرنسا التي رأت في النظام الوطني المصري، الداعم الرئيسي للثورة الجزائرية، المطالبة بالحرية والاستقلال، وإعادة الوجه العربي للجزائر. وقد قاتل المصريون ببسالة، لكن سيناء سقطت برمتنها منذ الأيام الأولى للعدوان. وساهمت جملة من الظروف الدولية في ردع العدوان وإيقافه، وفي انسحاب العدو عن المناطق التي احتلها. وكانت النتيجة نصرا سياسيا، ولم تكن نصرا عسكريا.
في حرب الستة أيام في يونيو 1967، هزمت جيوش مصر وسوريا والأردن من قبل العدو الصهيوني بشكل ساحق، وتمدد الكيان الغاصب عدة مرات، باستيلائه على شبه جزيرة سيناء كاملة، وقطاع غزة والضفة الغربية ومدينة القدس، من الأراضي الفلسطينية، وهضبة الجولان السورية، وليضاف إلى القاموس السياسي العربي، تعبير نكسة حزيران.
وإذا كانت حرب التحرير، التي انتهت بالنكبة، هي كما بدا على السطح من صنعنا، فإن العدوان الثلاثي، وحرب الأيام الستة، قد خطط لها في ليل دامس، بطريقة تآمرية من قبل العدو، ضد مصيرنا ومستقبلنا.
وكانت حرب أكتوبر، 1973م، هي الوحيدة، بين كل الحروب، التي جرى التخطيط لها عربيا، ونفذت بقرار عربي, والهدف فيها لم يكن منازلة العدو حتى إلحاق الهزيمة الكاملة به، بل خلق مناخ ملائم لكسر حالة الجمود، وإنهاء مرحلة اللاحرب واللاسلم، والدخول في تسويات سياسية، تتيح لمصر وسوريا، تحرير أو استرجاع الأرضي التي احتلها الكيان الغاصب في حرب يونيو 1967.
ولأن قرار خوض حرب أكتوبر عربي، منذ البداية، وجرى تخطيطه والتنسيق له، من قبل بلدين عربيين، نفذا القرار، باجتياح جيشيهما على جبهتي القتال المصرية السورية، فإن نتائج المبادرة كانت أسطورية بكل المقاييس. وقد أكد المقاتل العربي، في معاركها شجاعته واستبساله، وقدرته على هزيمة العدو.
لقد أكد السلاح قدرته على الفعل، ونفذ الجيشان العربيان، ما هو موكل لهما. لكن الخلل بقي في السياسة, في التكتيكات والإستراتيجيات، والأساس في الخلل هو عدم الثقة بالنفس، والخشية، من فقدان استمرارية القدرة على الإبداع والمناورة والقتال. فكانت أول معركة عربية، بقرار عربي وإستراتيجية عربية، ينتصر فيها السلاح، وتهزم فيها الإرادة السياسية، رغم أن من المفترض أن تكون تلك الحرب هي نهاية أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
ومنذ حرب أكتوبر عام 1973، التي مثلت إرادة التحدي، وشجاعة الجيش العربي المقاتل، لم يخسر العرب، معركة واحدة في المنازلة القتالية مع العدو الصهيوني.
خاض الفلسطينيون في صيف عام 1982، أثناء الغزو الإسرائيلي لمدينة بيروت حربا ضروسا، فرضت على العدو محاصرة المدينة اللبنانية لثمانين يوما، لم يرفع خلالها الفلسطينيون الراية البيضاء. قاتلوا بشجاعة وبسالة، وألحقوا خسائر كبيرة بالعدو، رغم أن معادلة التوازن، بالمعنى التقليدي لم تكن في صالحهم.
وجاءت الضغوط الأمريكية، التي بذلها ممثل الرئيس الأمريكي رونالد ريجون، والمساندة العربية لتلك الضغوط، وموقف بعض الزعامات اللبنانية التقليدية، مناشدة قائد الثورة الفلسطينية، السيد ياسر عرفات، بالرحيل عن بيروت، وأن لا يكون سببا في ضياع لبنان، كما ضاعت من قبل فلسطين. ورحلت المقاومة عن بيروت، وبنادقها مرفوعة وسارياتها عالية.
وكما مثلت نتائج انتصار أكتوبر، انتقال إستراتيجي عربي نحو التسوية السلمية، مثلت نتائج حرب بيروت، انتقالا فلسطينيا حاسما نحو التسوية، والقبول بالتعايش في دولتين على أرض فلسطين التاريخية.
منذ ذلك التاريخ، خاضت الأمة العربية حروبا دفاعية، على جبهتي لبنان وقطاع غزة، لم ينتصر العدو الصهيوني عسكريا، في واحدة منها. بل اضطر في معظمها إلى التراجع عن أهدافه المعلنة. وفي معظم هذه المعارك، أثبت المقاتل العربي، رغم أنه لم يمتلك إلا القليل من السلاح والعتاد، أنه مقاتل صلب وشجاع، وأن ليس بالسهل إلحاق الهزيمة به.
ما يجري الآن من منازلة، بين الشعب المحتل وبين جيش الاحتلال، لا يمكن أن يكون محكوما بموازين القوة العسكرية. وذلك أمر طبيعي، وبديهي. فمن كان سيصدق أن شعب الجزائر، سيلحق الهزيمة بالفرنسيين، ومن كان سيعقل أن شعب اليمن الجنوبي الأعزل، سيلحق الهزيمة بالاستعمار البريطاني، ويجبره على الرحيل، مكللا بالعار.
لقد أكدت أحداث الأيام المنصرمة، أن إرادة الحياة، والتوق للحرية، هي أقوى من كل القيود، وكل الأسلحة، وبقي أن نعيد النظر في مقولة التوازن الإستراتيجي، فهذا التوازن ليس العتاد والسلاح، ولكن الذي يحققه ويسنده هو الوعي والإرادة والقدرة على الفعل، وقد أثبت شعب غزة، أنه عصي التسليم والاستسلام. وتبقى محاور الجدل مفتوحة، للمناقشة في حديث قادم بإذن الله.