العدوان على غزة والمواقف المغلوطة
بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من هذا التاريخ، يكون قد مر قرن من على وعد بلفور المشؤوم، الذي وعد، بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. وطيلة هذه الفترة، تأكد باستمرار أن المشروع الصهيوني، هو مشروع حرب. وخلال الحروب التي شنت على الأمة العربية، لم يكن الصهاينة، بحاجة إلى أسباب موجبة، لشن عدوانهم على الأمة العربية، والهجمة الهمجية الوحشية على قطاع غزة ليست استثناء من هذا السلوك.
لقد ناقشنا في حديث سابق، أهداف العدوان الأخير، والذي لا يزال في أوجه على قطاع غزة. وكم هو مؤسف أن تحمل بعض الأقلام العربية، الضحية مسؤولية ما يجري، معتبرة هجمة الكيان الصهيوني الغاصب، على أهلنا في القطاع حربا دفاعية، مستندين في ذلك إلى ما سبق العدوان من أسر ثلاثة مستوطنين صهاينة، وقتلهم من قبل جهة مجهولة، سببا مباشرا ووجيها للحرب على غزة. أقلام أخرى، رأت في هذه الحرب معاقبة إلهية لحركة حماس، التي تسيطر على القطاع، بسبب تدخلها في شؤون البلدان العربية.
نحاول هنا بشكل هادئ، مع التسليم بصعوبة ذلك، أمام ما يجري من مجازر بحق الفلسطينيين، أدت حتى تاريخه، إلى استشهاد ما يزيد على الألف ومائة شهيد، وأكثر من ستة آلاف جريح، وتسوية حيين كاملين هما حي خزاعة، وحي الشجاعية في قطاع غزة بالأرض، وتشريد أكثر من مائة ألف من سكان الأحياء الشمالية من القطاع عن منازلهم، ليبقوا في العراء، وتحت رحمة القصف.
الإدعاء بأن ما يقوم به الكيان الصهيوني، هو حرب دفاعية، استنادا إلى حادثة الأسرى الإسرائيليين، يتناسى جملة من الحقائق. أولاهما أن هؤلاء المستوطنين، يقيمان على أرض، هو بموجب القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة أراض محتلة، لا يجوز بناء مستوطنات فوقها. وهم بهذا المعنى محتلون، تجوز مقاومتهم، بمختلف الوسائل، للحيلولة دون تمكينهم من الأرض.
والحقيقة الثانية، أن الكيان الغاصب، يمارس القتل بحق المدنيين الفلسطينيين العزل، أصحاب الأرض الشرعيين، كل يوم ومن غير سبب، ويفرض عليهم الحصار الجائر، ويبني الجدران العازلة، والمجتمع الدولي يتفرج، ولا تلحق به أية عقوبة.
والثالثة، أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، خضعت لسياسة الأمر الواقع، وقبلت منذ نهاية السبعينات، في الدورة الثامنة المجلس الوطني الفلسطيني، التي عقدت عام 1978، بوجود دولتين على أرض فلسطين التاريخية، وعلى هذا الأساس، دخلت مفاوضات مباشرة مع الإسرائيليين، منذ مؤتمر مدريد عام 1990، أي قبل ما يقرب من ربع قرن، ووقعت اتفاقية أوسلو عام 1993، التي نصت على قيام دولة فلسطينية المستقلة، بعد خمس سنوات من التوقيع على الاتفاقية. وقد مضى على اتفاقية أوسلو أكثر من عشرين عاما دون تحقيق أي تقدم، على طريق تحقيق صبوات منظمة التحرير في الدولة المستقلة. وبدلا عن تطبيق قرار أوسلو، ضاعف الصهاينة من بناء المستوطنات، حتى لم يتبق مما يمكن التفاوض عليه سوى أقل من 48% من الأراضي التي احتلها الكيان الغاصب في حرب يونيو/ حزيران عام 1967م.
وأخيرا وليس أخرا، تم أسر المستوطنين الثلاثة وقتلهم، في الضفة الغربية، التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وليست حركة حماس. والقاتل لا يزال مجهولا. والتهمة لحماس وجهت من قبل الحكومة الإسرائيلية، التي نصبت من نفسها مدعيا عاما وقاضيا ومنفذا للحكم. والتنفيذ لم يشمل حركة حماس، ولم يكن متوازنا، بل شمل المدنيون العزل من أبناء قطاع غزة، الذين ليست لهم علاقة البتة، بحادثة الأسر.
وإذا فهو عدوان همجي وحشي، يتسق، مع جملة الاعتداءات التي نفذها الكيان الغاصب بحق العرب جميعا. وفي كل مرة، ذريعة واهية، لا يقبل بها عقل أو منطق. وحتى لو صحت تلك الذرائع، وهو ما لا تدعمه الوقائع، فهل يستقيم، على سبيل المثال، إطلاق صاروخ من هنا أو هناك، كما في حرب عام 2012 مع التدمير الشامل الذي شنه جيش الاحتلال. وكذا الحال، مع أسر المستوطنين الثلاثة، الذين قتلوا من قبل جهة مجهولة، بينما قاتل الشهيد خضير، معروف ومؤكد بالصوت والصورة.
أما فيما يتعلق بالتشفي من حركة حماس، والذي عبرت عنه أقلام ووسائل أعلام مرئية، وتمنيات البعض، بأن لا يبقى في غزة، حجر على حجر، فإن ذلك لا يتسق مطلقا، مع الأخلاق العربية، والمبادئ القومية، التي اعتبرت فلسطين، منذ البداية، قضية العرب المركزية. وحماس ليست فلسطين، وهي أيضا ليست شعبها.
وليس من المنطق تعميم الموقف السلبي من حركة حماس، وله تبريراته وأسبابه، على الموقف من الفلسطينيين جميعا، الذين هم أهلنا ورمز عزتنا وكرامتنا. والذين تقاتل مقاومتهم، بفصائلها المختلفة، فتح والجهاد والشعبية… باسمنا، ويستشهد شعبهم، دفاعا عن ثوابتنا. كما أنه ليس من المنطقي، أن يعمم أشقاؤنا الفلسطينيون موقف بائس من قلة ناشزة، من الإعلاميين والكتاب، على العرب جميعا.
فلسطين هي قضية العرب المركزية، وستبقى كذلك، إلى أن يتحقق الحلم العربي في تحريرها، ورفع العلم الفلسطيني خفاقا، فوق قبة الصخرة، وبيت لحم ونابلس ورام الله وأريحا، وبقية الأراضي المحتلة. والانتصار للمقاومة، ودعمها في مواجهتها البطولية والأسطورية للعدوان، ليس شأنا فلسطينيا محضا، بل إنه يمس كل العرب جميعا، بدون استثناء.
وقد علمتنا المقاومة الفلسطينية، بكل تشعباتها وانتماءاتها، طيلة تاريخها الطويل، أن تخرج من تحت الرماد، ومن التاريخ إلى صناعة التاريخ، وقد أكدت عبر إرادة الصمود جدارة الفلسطينيين، وجدارتنا جميعا بالحياة.