العدوان على العراق: تدمير أم تحديث؟!
قد يبدو طرح هذا السؤال غريبا على القارئ الكريم، وسط القصف الجوي المستمر على المدن العراقية، وهول الدمار والخراب والحرائق وجثث القتلى من المدنيين من نساء وشيوخ وأطفال من أبناء العراق العظيم، ووسط المقاومة الأسطورية الباسلة التي أبداها هذا الشعب ولا زال والتي أذهلت العالم بأسره. والأمر لشدة غرابته، يدخل في خانة الخروج على الثوابت ومنظومة القيم الثقافية والدينية والأخلاقية التي تلتزم بها الأمة. ولكننا مع ذلك نجد أنفسنا مضطرين لتناوله في هذا الحديث، ليس من جهة الإختلاف مع من يجدون غرابة في طرحه، وربما عملا شائنا وخروجا على الثوابت، ولكن من باب التصدي للتنظيرات التي تسعى، من خلال الحديث عن التحديث، أن تروج لفكرة القبول بالعدوان وتساهم، بقصد أو بغيره، في قتل روح المقاومة وإضعاف التفاف الغالبية العظمى من العرب حول المقاتلين الشجعان الذين يدافعون عن التخوم الشرقية العربية، ويردون المعتدين على أعقابهم. وهي ظاهرة، برزت للإسف، في صفوف بعض الكتاب من المندمجين أو المتماهين مع مشروع العدوان أو المفتونين بالقدرات الأمريكية الخارقة,
ومن المؤكد أن مقالة قصيرة كهذه لن يكون بوسعها تناول جميع المقولات التي تنظر لـ “إيجابيات” المشاريع العدوانية الأمريكية على الأمة العربية، ولا أن تتعرض لكثير من الكتابات التي نشرت في هذا الإتجاه. ولذلك فإننا سنتناول هنا مثالين فقط من تلك الكتابات الأول يعبر عن حالة اندماج كامل بالسياسات العدوانية الأمريكية، والثاني يعبر عن حالة افتتان بتلك السياسات، وأمل في أن تساهم في التسريع بعملية التحديث في منطقتنا.
المثال الأول، ويجسده الدكتور فؤاد عجمي، ويمكن أن نقتبس ملخص وجهة نظره من مقالته التي نشرت في دورية الفورين افيرز تحت عنوان “العراق ومستقبل العرب” والتي أوضحها الأستاذ حسن نافعة، في مقالته التي نشرت في مجلة وجهات نظر المصرية بعددها الصادر في مارس 2003 تحت عنوان “المثقف” العربي و”الأمير” الأمريكي: فؤاد عجمي نموذجا. وقد جاء فيها أن فؤاد عجمي يرى أن الصراع بين الحكام العرب المستبدين وشعوبهم أصبح قضية أمريكية بعد أن تحول الإحباط لدى الشباب العربي الذي فشلت أنظمته في تعليمه وتوظيفه إلى غضب مكتوم ما لبث أن تفجر وبشكل عنيف في وجه الولايات المتحدة والعالم. ولأنه يصعب على هؤلاء الشباب النيل من أنظمتهم المستبدة الراسخة التي تسببت في إحباطهم، فقد قرروا مهاجمة الرأس لا الذيل، وبالتالي صبوا جام غضبهم على واشنطون ونيويورك، فكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وتمكنوا من النيل من الولايات المتحدة الأمريكية بسهولة بسبب وجود الديموقراطية التي جعلت المجتمع الأمريكي أكثر شفافية وقابلية للإختراق ويمكن أن تشكل هدفا يمكن النيل منه بسهولة. وهكذا يرى عجمي أن ضمن ما كشفت عنه أحداث الحادي عشر من سبتمبر هو وجود مشكلة ثقافية كبرى في الوطن العربي ككل لا سبيل لمعالجتها إلا بعملية تحديث كبرى تتم بضغط هائل من الخارج، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. والعدوان على العراق، على هذا الأساس، يتيح الفرصة لبدء هذه العملية الكبرى.
وفي هذا السياق يبدو الهدف من العدوان على العراق نبيلا جدا، بعد أن وصلت حالة التردي مرحلة تستدعي إنقاذ الشعب العربي من نفسه الضائعة وحكامه المستبدين ومن ثقافته المتخلفة، وإعادة بناء المنظومة العربية بكل أبعادها السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية تحت شعار واحد فقط هو التحديث. ولا ينسى الدكتور عجمي التنبه إلى أن هناك محاذير ومخاطر يمكن أن تنتج عن احتلال العراق، ولكن تلك المحاذير والمخاطر يجب أن لا تدع الإدارة الأمريكية تتردد عن تحقيق أهدافها. إن كل ذلك يهون في سبيل تحقيق الهدف الكبير. إن التراجع عن هدف الإحتلال سيؤدي إلى التشكيك في مصداقية الولايات المتحدة، وأن قدرها كدولة عظمى هو الإستمرار في الحرب، وأن تقدم الحماية والعون لمن يتألمون من غلظة الأيدي التي تدعي حمايتهم، والحملة على العراق هي الإتساق الصحيح مع هذه الرؤية.
وقد قدر لي أن أتابع في القناة اللبنانية ال بي سي ندوة حوارية شارك فيها الدكتور عجمي بتاريخ 30 من شهر مارس حملت ذات الأفكار بتطرف وحدة أكبر.
المقالة الأخرى كتبها الدكتور تركي الحمد تحت عنوان: “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، نشرت في جريدة الشرق الأوسط اللندنية يوم الأحد الموافق 23 مارس 2003 حاول الكاتب فيها أن يستشهد بأثر احتلال نابليون إلى مصر عام 1799 ليس في تحديثها فقط بل وامتداد تأثير ذلك إلى الحياة الثقافية العربية خارج ذلك القطر. لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر شيئا مثل صدمة كهربائية أعادت الوعي إلى مجتمعات كانت غائبة عن الدنيا وما جرى فيها خلال قرون من الإستكانة والسكون.
ومع أن المقالة لا تنفي أن هدف نابليون لم يكن نشر مبادئ الثورة الفرنسية أو إدخال الحداثة في مجتمعات أغفت على أمجاد غابرة، أو تقديم مساعدة إنسانية لمجتمعات رازحة تحت أغلال الجهل والخرافة والإستبداد والفقر، وذلك هو ما كان مرفوعا من شعار، بل إنه غاية استعمارية بالكامل وجزءا من استراتيجية دولة عظمى للسيطرة على عالم ذلك الزمان، وإزاحة من قد ينافسها في ذلك. ولكن مكر التاريخ كان يفعل فعله لصالح المجتمع المصري. ولا يفوت الكاتب أن يستعرض بعضا من معارفه الفلسفية، فينتقل إلى نظرية هيجل في قدرة المطلق: الروح أو العقل أن يتجسد في التاريخ حتى دون أن تعي تلك الوسائل أنها تحقق إرادة المطلق في ما هي تحقق أو تعتقد أنها تحقق غاياتها الخاصة، مستنتجا من ذلك أن الغايات التي تطمح لها القوى الإستعمارية، ربما تواجه بمكر التاريخ، الذي يجعل من تلك الحوادث مطية للعقل المطلق كي يحقق تجسده في التاريخ. ومن هذه المقدمة التي استغرقت ما يقارب من نصف المقالة، يستنتج الحمد إمكانية أن يمكر التاريخ، فيعيد استنساخ ذاته ميكانيكيا مرة أخرى، فتحدث معجزة تحديث العراق كنتيجة للإحتلال الأمريكي له. فالصدمة الكهربائية التي سيحدثها الإحتلال ستلغي حالة السكون والجمود وثبات الحال.
ولكي يدلل الدكتور الحمد على سلامة تنبؤه، ينتقل بنا إلى أمثلة أخرى في ألمانيا واليابان مشيرا إلى أن الإحتلال الغربي ساهم في تحديث تلك الدول، متوقعا أن يؤدي العدوان على العراق إلى القبول بالعولمة ذات المنشأ الجغرافي الأمريكي، والمساهمة في إحداث تغيرات جوهرية في المنطقة، بذات الطريقة التي قبلت بها مصر وألمانيا واليابان بعملية التحديث. والنتيجة التي يريد الكاتب إقناع قراءه بها هي أن الإحتلال الأمريكي للعراق ربما يكون مكروها ولكنه خير.
ذلك باختصار هو ما ورد في مقالتي الدكتور عجمي والدكتور الحمد، وقد اقتضت الأمانة أن نعرض لهما بشيء من التفصيل، استغرق حيزا كبير من حديث هذا اليوم، بما يجعلنا مضطرين لمتابعة هذه المناقشة في حديث آخر. وهو ما سوف نتناوله بعون الله في حديثنا القادم.
تاريخ الماده:- 2003-04-02