العدوان على العراق: تحديث أم تدمير 3/2
في الحديث الماضي وعدنا القارئ الكريم بمناقشة الأطروحات التي تروج لفكرة القبول بالعدوان على العراق وقتل روح المقاومة، تحت ذريعة أن هذا العدوان سيكون السبيل، ليس لتحديث العراق وتحقيق الديموقراطية فيه فقط بل ولتعميم نموذجه المستقبلي على المنطقة باسرها.
سنتناول في هذا الحديث تفكيك ومناقشة وجهة نظر الدكتور فؤاد عجمي التي وردت في مقالته “الحرب على العراق ومستقبل العرب” المندمجة بشكل كامل وصريح مع مشروع العدوان، والتي لخصناها فيما مضى.
يشير الدكتور عجمي إلى وجود مشكلة ثقافية في الوطن العربي تقتضي معالجتها القيام بعملية تحديث كبرى تتم من الخارج وبقيادة الإدارة الأمريكية. وإن العدوان على العراق يأتي في إطار هذه العملية. ويرى إن أحداث سبتمبر عام 2001م هي التعبير الحقيقي عن حالة الإحباط السائدة لدى معظم الشباب العربي من أنظمتهم المستبدة والتي تحظى بالدعم والرعاية من قبل الأمريكيين. وبما أن هؤلاء الشباب قد وجدوا أنفسهم عاجزين عن مهاجمة تلك الأنظمة التي شبهها بالذيل فقد اتجهوا إلى الرأس الأمريكي، وصبوا جام غضبهم على واشنطون ونيويورك.
والواقع أن وجهة النظر هذه، رغم ما يبدو فيها من تناسق وتماسك وبلاغة لغوية، فإنها تتهاوى بسرعة عند أية محاولة أولية لتفكيكها. إن أولى نقاط الضعف في وجهة النظر هذه هي اختزالها لعملية التحديث، واعتبار أن بالإمكان تحقيقها عبر الإحتلال والغزو المسلح، متناسية أن تلك العملية هي، كما أثبتتها التجربة، نتاج تراكم تاريخي واسع من القوى الذاتية المحركة، ولا يتحقق بعملية استلاب ثقافي وقسر خارجي. وليس من شك في أن المكونات الثقافية لأي أمة من الأمم هي جزء من هويتها وموروثها ومخزونها الحضاري، لا يمكن نزعها من وجدانها بقدرة الطائرات والدبابات وحملات الإبادة. وبالمثل، فإن عملية التحديث ليست عملية مكانيكية يمكن أن تتحقق بين ليلة وضحاها، بل هي حاصل عملية تاريخية مضنية ومثابرة وبعيدة المدى ينتج عنها انتقال كبير وهائل في مراكز القوى الإجتماعية الفاعلة ومنظومة القيم السائدة.
إضافة لذلك، فإن التاريخ الإنساني لم يسجل لنا حادثة واحدة هدف فيها المحتل إلى إجراء تحولات جذرية في الهياكل الإجتماعية بما يخدم مشاريع التحديث. إن القوى الإستعمارية، كما هو ثابت تاريخيا، والإمبريالية الأمريكية ليست استثناء في ذلك، إنما تضع نصب أعينها ثروات البلد المستهدف وطاقاته الكامنة والتحكم في معابره ومواقعه الإستراتيجية.
الجانب الآخر في ما يدعى بعملية التحديث التي يروج لها الدكتور عجمي، أنها كما يتصورها تتم عبر احتلال عسكري مباشر، وعبر عملية إبادة للبشر وتدمير شامل للبنى التحتية والمؤسسات الإنتاجية والثقافية للبلد المطلوب إخضاعه، ويجرى ذلك خلافا للقوانين والأعراف والمواثيق والتقاليد الدولية والقواعد الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان المعمول بها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. إنه بمعنى آخر، تبشير بعودة أخرى لقانون الغاب ومنطق التفويض الإلهي الذي ساد في القرون الوسطى، مغلف بالديموقراطية والتحديث وبعث لحق الفتح الذي كان معمولا به قبل نشوء عصبة الأمم. والأكثر سوءا في وجهة النظر هذه هو أنها تشكل إعلانا صريحا لنهاية دور المؤسسات والمواثيق والقوانين الدولية، إذ أن الغاية المعلنة تبرر مجمل الوسائل القذرة المستخدمة في الحرب. والنتيجة المنطقية أن عملية الإحتلال هذه قد وضعت سابقة خطيرة تتيح لأي من الدول الكبرى، وتحت يافطة الذرائع ذاتها التي تطرحها الإدارة الأمريكية الإنقضاض على أي بلد من بلدان العالم واحتلاله.
وإذا افترضنا جدلا صدق نية الغزاة الأمريكان على إجراء عملية التحديث، وهو أمر تدحضه بحدة الوقائع اليومية التي تجري على الأرض الآن في العراق الشقيق، فإن ما هو متوفر لدينا من حقائق وما يسود المنطقة بأسرها من احتقان كبير سببته المواقف المستسلمة والمتخاذلة للأنظمة العربية تجاه العدوان الأمريكي البريطاني يؤكد على أن المنطقة مقبلة على أعاصير وبراكين. إن مرحلة جديدة من العنف وعدم الإستقرار، ونمو لا شك فيه للإتجاهات الراديكالية التي لن تقتصر مستقبلا على الإتجاهات الإسلامية، بل ستدخل فيها الإتجاهات الوطنية والقومية، والليبرالية أيضا. وربما تشهد المنطقة، في الأيام القادمة، تداعيات وانهيارات سياسية بالغة الخطورة يصبح معها الحديث عن عملية التحديث وتحقيق المشاركة السياسية أكذوبة ووهم وتزييف. ولسوف تعم المنطقة، ليس فقط تنامي العداء للسياسات الأمريكية، بل ولمفهوم الديموقراطية ذاته، إذ من غير الممكن أن يرحب أبناء المنطقة بديموقراطية ورموز تأتي لهم على ظهور الدبابات.
الجانب الآخر والمهم الذي يدحض مجمل ادعاءات الدكتور عجمي التي اشار فيها إلى علاقة احتلال العراق بحوادث سبتمبر عام 2001م في الولايات المتحدة الأمريكية هو أن العدوان على العراق لم يبدأ بتلك الحوادث بل سبق ذلك بوقت طويل، وعبر عنه بشكل لا لبس فيه الحصار الإقتصادي الظالم الذي فرض عليه منذ مطلع التسعينيات وحتى يومنا هذا، كما عبرت عنه فرق التفتيش عن ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل التي جابت مدن العراق وأريافه طيلة السنوات المنصرمة. والقول بعلاقة ما يجري في العراق بالحرب على الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية بعد حوادث سبتمبر هو افتراء باطل لا يستند على أية حجة، حيث لم يثبت حتى الآن إن للعراق، سواء على المستوى الرسمي أو الأفراد، علاقة بتلك الحوادث.
ومن جهة أخرى، فإن العراق لم تكن له علاقة دبلوماسية أو ودية في السنوات الأخيرة بالإدارة الأمريكية، فقد قطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ نكسة حزيران عام 1967 أثناء حكم الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف، ولم تعد تلك العلاقة إلا في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. ومع أن العلاقة أعيدت بين البلدين وحصل تعاون وتنسيق بينهما في بعض المجالات، وبضمنها المجال العسكري فإن ما حدث لم يؤد أبدا إلى انسجام تام في مواقف الحكومتين كما لم ينتج عنه قيام شهر عسل بينهما. فقد رافقت تلك العلاقة منذ البداية تعقيدات وخلافات ومشاكل، لعل أبرزها ما نتج من تداعيات في تلك الحقبة بسبب ما عرف بفضيحة إيران جيت، التي كشفت عن تعاون وثيق بين الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني من جهة والحكومة الإيرانية من جهة أخرى. وقد تلقت الأخيرة صفقات سلاح كبيرة من أمريكا لدعم حربها على العراق.
وإثر انتهاء الحرب العراقية الإيرانية بفترة قصيرة وتكشف القدرات العسكرية العراقية للجميع بدأت مرحلة جديدة من العداء الأمريكي تجاه العراق، وبشكل خاص بعد تهديد الرئيس العراقي، صدام حسين بحرق إسرائيل بالأسلحة الكيماوية إذا ما قامت بعدوان عليه. وكان ذلك العداء موجه مباشرة، وبشكل معلن، ضد القدرات العلمية والتكنولوجية وتصنيع السلاح في العراق. ولم يعد ذلك العداء سرا على أحد، وقد حاولت بعض الدول الخليجية ودول عربية أخرى احتواء الخلاف بين البلدين آنذاك، ووصل وفد من الكونجرس الأمريكي برئاسة السناتور بوب دول الذي رشح من قبل الجمهوريين لاحقا لتولي الرئاسة الأمريكية، للتوسط بشأن تلك الخلافات. وعقد مؤتمر قمة عربي قبيل غزو الكويت للتضامن مع العراق في وجه التهديدات الأمريكية.
وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن التحديث هو حاصل تراكم شامل في عملية التطور، وبضمنه الجوانب العلمية والتكنولوجية والإجتماعية تصبح الحرب على العراق حربا على التحديث0 وهنا تتداعى وجهة نظر الدكتور عجمي في أن حوادث سبتمبر عام 2001م هي انتقام من المستبدين المحليين العرب الذين يرتبطون بأمريكا، لأن العراق حكومة وأفرادا، ليس لهم علاقة بتلك الحادثة، وهو بالتأكيد وباعتراف الجميع ليس أقل الدول حداثة في المنطقة، بل هو الأكثر تقدما وحداثة على مختلف الأصعدة. والصحيح أن الباعث لعملية الإحتلال الأمريكية، كما يكشفها التنافس الضاري في الحصول على العقود لما يدعى بإعادة إعمار العراق، هو ثروته وإمكانياته الإقتصادية الهائلة.
وإذن فالحرب الجارية الآن على العراق هي حرب على التحديث، تماما كما كان الإحتلال الفرنسي والبريطاني لمصر في عهد محمد على باشا حرب على التحديث والمحاولات للخروج من نفق التخلف، وكما كانت الحرب الإسرائيلية على مصر عبد الناصر حرب على واحتكار السلاح وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وعلى محاولت التحديث أيضا.
ويبقى أن نناقش وجهة النظر الأخرى التي تبناها الدكتور تركي الحمد في مقالته التي نشرت في جريدة الشرق الأوسط بعنوان “وعسى أن تكرهو شيئا وهو خير لكم”، وهو ما سوف نقوم به في الحديث القادم بإذن الله.
تاريخ الماده:- 2003-04-09