العجز العربي إلى أين؟!

0 172

يبدو أن التهديدات الأمريكية التي أطلقتها إدارة الرئيس جورج بوش، والمتضمنة إعادة تشكيل الخارطة السياسية لعموم منطقة الشرق الأوسط، في إطار الحرب المعلنة على ما يدعى بالإرهاب، والتي تمخض عنها، في آخر محطة لها، احتلال العراق ومصادرة ثرواته، وتغييب حضوره هوية ودولة وكيانا، قد بدأت تفعل فعل السحر، وتلقى كثير من الإستجابة لدى كثير من الحكام العرب، الذين آثروا السير فيما حسبوه درب السلامة وتجنيب أنفسهم ويلات المواجهة ومصاعبها مستمدين حكمتهم من المثل الدراج “كن جبانا إذا أردت أن تعيش زمانا”.

 

وهكذا وجدنا، في الآونة الأخيرة، بعض الأنظمة العربية تنقلب 360 درجة على سياساتها ومواقفها. وقد باشرت فعلا، أو هي في طريقها للتحضير لانقلابات دراماتيكية “سلمية” على سياسات وتوجهات وتحالفات تبنتها لعقود طويلة.. ورأينا البعض ينتقل بشكل حاد من الآيديولوجيات القومجية والوحدوية والثوروية والمواقف “الجذرية” من الصراع العربي-الصهيوني إلى مواقف متماهية مع التطبيع وكسر الحاجز النفسي، والعولمة والشرق أوسطية والتنسيق السياسي والإقتصادي، وحتى الأمني مع إسرائيل، وفتح الأبواب مشرعة لتتسلل منها آليات ومصالح الهيمنة الأمريكية، ورأينا أنظمة أخرى، تتجه بشكل حثيث لتحقيق مصالحات داخلية وتسلم بقيام فيدراليات، ومحاصصات إثنية وطائفية كان الحديث عنها، في تلك البلدان، حتى وقت قريب يكتسب حكم التابو.

 

وانسجاما مع الإملاءات الأمريكية، تمارس كثير من الحكومات العربية الآن إعادة النظر في برامجها الدراسية والتربوية والثقافية، وتتجه نحو صياغتها بشكل يتواءم مع الرغبات الأمريكية في ما يدعى باجتثاث جذور الإرهاب وتجفيف منابعه، بما يعني حذف أية إشارات أو إيماءات دينية أو ثقافية أو إعلامية تشير إلى العداوة أو الكراهية بحق الصهاينة، أو تلك التي تحض على الجهاد والمقاومة في وجه الإحتلال. أما ما عدا ذلك من تطوير في الكيمياء والفيزياء والجبر والهندسة والرياضيات، وإعادة صياغة كتابة التاريخ العربي بشكل يبرز الجوانب المشرقة والمحرضة على البناء والتنمية، وغير ذلك من الأمور التي تدفع بمسيرة التطوير فهي أمور لا تعني الساسة الأمريكان من قريب أو بعيد. بل ربما وجدوا في تكريس الجهل والتخلف والتبعية ضمانا لاستمرار إحكام قبضتهم وهيمنتهم على مقدرات ومصائر وثروات أبناء هذه المنطقة.

 

ومن جهة أخرى، يجرى العمل، على قدم وساق، نحو استكمال المصالحة العربية مع المشروع الصهيوني، وتباشر أنظمة عربية مفاوضات في السر والعلن مع العدو من أجل التوصل إلى حلول سلمية وصيغ مقبولة من الحكومة الإسرائيلية.

 

وإذا كان من السهل علينا أن نتفهم أسباب ودوافع السياسات الأمريكية، وتهديداتها المستمرة بحق منطقتنا وشعوبنا، كونها لا تخرج في ذلك عن النسق الإستعماري التقليدي والمألوف، فإن سياسات الحكام العرب ومواقف بعض المثقفين العرب من المشاريع المشبوهة المطروحة هي مبعث الحيرة والإستغراب.

 

فهذه السياسات والمواقف تفتقد أساسيات القراءة الموضوعية ووعي التاريخ، واستيعاب حجم الفجيعة والدمار والخراب وهتك الأعراض التي يمر بها أهلنا في العراق الذين تصور بعضهم أن أبواب الجنة قد فتحت على مصاريعها بالغزو الأمريكي لبلاد الرافدين، فإذا بهم يكتشفون في وقت متأخر جدا، أن التي فتحت هي أبواب الجحيم بحممها وقذائفها.. بحيث أصبحت جرائم القتل وحالات الإغتصاب موضع حديث كبريات الصحف العالمية، قبل أن نتحدث بها نحن أصحاب القضية.

 

والأغرب من ذلك أن الأنظمة العربية التي خضعت للمطالب الأمريكية، لا تتراجع عن سياساتها، رغم أنها ترى بأم أعينها أن تلك المطالب ليس لها حدود، وأنها تتجه إلى الأعلى في متتاليات لا نهاية لها. لنأخذ على سبيل المثال، موقف الإدارة الأمريكية من ليبيا، فرغم أن القيادة الليبية قد أقدمت على تعويض ضحايا ركاب طائرة لوكربي، ومن ثم ركاب الطائرة الفرنسية، والإعلان من طرف واحد عن الرغبة في التخلص من أسلحة الدمار الشامل، والإتجاه نحو تطبيع العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وربما فتح أبواب التفاوض مع الكيان الصهيوني، حسب بعض الأنباء، فإن الإدارة الأمريكية لا زالت تصر على استمرار العقوبات على ليبيا وبقاء إسمها معلقا ضمن قائمة الدول التي ترعى أنشطة الإرهاب.

 

لم يعد مقبولا بعد أن تكشف للقاصي والداني بطلان الذرائع والحجج الأمريكية التي بموجبها تم احتلال العراق، وبعد أن اتضحت معالم تقسيم العراق، لتتماهي مع خطوط حظر الطيران التي رسمتها إدارة الرئيس بيل كلينتون عام 1998 وبرنامج تحرير العراق، وبعد أن جرى توزيع العراق حصصا على أسس طائفية وإثنية تحت يافطة الكونفدرالية، واتضحت معالم التحرير والديمقراطية في هدم البيوت وحرق المزارع وحملات المداهمات والإعتقالات الجماعية الكيفية وفرض الحصار ومختلف الممارسات الفاشية، بطرق مماثلة لتلك التي تمارسها قوات الإحتلال الصهيوني في أرض فلسطين. نقول، لم يعد مقبولا بعد أن رأت هذه الأنظمة حجم الإنسحاق الإنساني والتمزق الذي تعيشه المنطقة بأسرها أن يبقى النظام العربي الرسمي سلبيا وعاجزا عن الحركة، وأن تستمر حالة الصمت الرهيب تجاه ما يجري لأهلنا في فلسطين والعراق.

 

لقد استغلت حكومة الليكود الصهيوني هذا الصمت والخنوع الرسمي للنظام العربي، فضاعفت من سياسات الإغتيالات والإعتقالات وإغلاق المعابر، ومحاصرة المدن والقرى والمخيمات، وقامت ببناء الجدار العازل، وتعمل الآن على فك الإرتباط بالأراضي الفلسطينية المحتلة، من طرف واحد، بما ينسجم مع رؤيتها واستراتيجياتها والحدود التي تقررها. وكانت المقدمات لإنجاز هذه السياسة قد تحققت فعلا عن الأرض باغتيالات واسعة لخيرة القيادات الفلسطينية، واعتقال أو نفي عدد آخر منها، ومحاصرة رئيس السلطة الفلسطينية السيد ياسر عرفات في مقره بأريحا لأكثر من عامين حتى الآن، وأخيرا تهديد الحكومة الإسرائيلية الفاضح بقتل الشيخ أحمد ياسين رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس). كل ذلك يجري بتنسيق ودعم وتأييد من قبل إدارة الرئيس الأمريكي بوش، التي عجزت عن فرض خارطة الطريق، وهي خطة لم تشمل الحد الأدنى من تلبية حقوق الشعب الفلسطيني.

 

ستستمر حالة التراجع والإنهيار، وستتعرض بلدان عربية أخرى للإحتلال والتقسيم والتفتيت ما لم يرن في آذان المسؤولين ناقوس الخطر، وما لم يتدارك المخلصون من أبناء هذه الأمة حجم المخاطر، ويوقفوا الإنهيارات النفسية التي بدأت فعلا تأخذ مكانها لدى كتل عريضة من الشعوب العربية. فليس أمامنا سوى مواجهة المزيد من الفشل والخراب والدمار.

 

حان الوقت لإعادة الروح للنظام العربي وتفعيل مواثيق جامعة الدول العربية، بما في ذلك ميثاق الأمن القومي العربي الجماعي ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، والوحدة الإقتصادية العربية.

 

وحان الوقت أيضا، لإعاة تفعيل الحركة الشعبية المساندة للإنتفاضة الفلسطينية الباسلة، والإلتزام بقواعد وأحكام قوانين المقاطعة الإقتصادية للعدو الصهيوني.

 

وحان الوقت أيضا لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية على قاعدة التمسك بحق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة. فعسى أن نفيق جميعا ونستيقظ قبل وقت الرحيل.

 

تروى كتب التاريخ أنه حين سقطت دولة بني الأحمر في الأندلس وجدت إحدى السيدات آخر الخلفاء من بني أمية يبكي ويندب حظه العاثر وفقدان ملكه فقالت له

 

ابك مثل النساء ملكا مضاعا

 

لم تحافظ عليه مثل الرجال

 

˜™˜™˜™˜™˜™˜™˜™˜™™˜™

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-01-21

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

13 − ستة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي