الطريق الفلسطيني بعد عرفات

0 203

برحيل االرئيس والقائد الرمز ياسر عرفات تنتهي مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني، وتبدأ مرحلة أخرى، لعل واحدة من أهم خصوصياتها غياب الزعيم الذي يمتلك المشروعية التاريخية والثورية. فقد ظل عرفات القائد الذي لا ينازع قرابة أربعين عاما للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وكان رصيده ثريا ومتفردا. فهو الذي أطلق الرصاصة الأولى باتجاه تحرير فلسطين، بعد أن صمتت المدافع العربية لعقود. وهو الذي حقق معادلة جديدة في التوازن مع الرعب الإسرائيلي، في معركة الكرامة بالأردن، بعد أن هزمت جيوش مصر وسوريا والأردن في حرب حزيران، أو كما يطلق عليها الصهاينة، حرب الأيام الستة. وهو الذي حول اللاجئين الفلسطينيين، من حالة البؤس واليأس والعيش على فتات تقدمه “الأناروا”، وكالة غوث اللاجئين إلى مقاتلين وثوار. وهو أيضا الذي قاد الصمود الفلسطيني في الأردن عام 1970، وصمد للإجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978، وقاتل ثمانين يوما، بمفرده دون أي دعم عربي أثناء حصار بيروت.

 

وهو أيضا الذي أخرج القضية الفلسطينية من نفقها الباهت لدى الحكام العرب وجامعة الدول العربية، إلى المستوى العربي الشعبي والمستوى العالمي والمحافل الدولية، حاملا بندقيته بيد، وغصن الزيتون باليد الأخرى. وانتزع من القادة العرب، ولمنظمة التحرير الفلسطينية وحدانية تمثيل وقيادة شعبه. وتنقل في استراتيجياته للتحرير من التحرير الكامل، إلى الدولة الفلسطينية، إلى السلطة ومن ثم إلى غزة وأريحا- أولا. وكان رصيده النضالي قد منحه سلطة تكاد تصل حد اليقين والإطلاق، للموافقة على ما يراه مصلحة للشعب الفلسطيني. وهكذا قبلت غالبية الفلسطينيين بقراراته وتعهداته وخطواته. وكان دعمه للانتفاضة الأولى في نهاية الثمانينيات عاملا رئيسيا في صمودها وتواصلها. كما كان صموده الأسطوري، في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقبوله بعسكرتها، وإنشائه لكتائب شهداء الأقصى عاملا أقض مضاجع الإسرائيليين، وجاءت ردة فعلهم قاسية ومريرة على ذلك، ضحاياها العشرات من القادة المقاومين، وكانت قائمة الشهداء طويلة وعزيزة كان شخصه أول المتقدمين لها، وآخر المنضمين فيها.

 

وكان طيلة حياته الكفاحية رمزا لوحدة الفلسطينيين، وعنوانا لهويتهم وصمودهم، وسدا منيعا يحول دون تمزقهم وصراعهم. وكان الرجل الذي اتفقت كل المنظمات الفلسطينية، على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها على الالتفاف حول قيادته. وبقي حتى آخر يوم في حياته طودا شامخا، لم يساوم على القدس ولا على حق الفلسطينيين في الشتات بالعودة إلى ديارهم، ولا على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف. ورحل واقفا لم تلن له قناة.

 

هذا التفرد هو الذي يجعل من المنطقي القول بتفرده، وبأن رحيله يعني الانتقال إلى مرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني نحو التحرير والعودة. فما هي معالم الطريق الفلسطيني بعد عرفات؟. بل لعل السؤال الذي يجب طرحه هو ما الذي ينبغي أن يكون عليه هذا الطريق؟ وما هي إستراتيجية المواجهة المطلوبة للأيام القادمة؟. ذلك ما سوف نحاول أن نجيب عليه في هذا الحديث، وربما في أحاديث قادمة، بعون الله.

 

ابتداء تقتضي الإشارة إلى أن مفاوضات السلام بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية، بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية قد تعطلت عند نقطتين رئيسيتين، إضافة إلى نقاط أخرى ثانوية، رغم أهميتها.

 

تمثلت النقطتين الرئيسيتين في إصرار الرئيس عرفات، ومن خلفه منظمة التحرير والشعب الفلسطيني على التمسك بالقدس الشرقية كجزء من الدولة الفلسطينية المرتقبة وعاصمة لها. في حين أصر الإسرائيليون على أن القدس مدينة موحدة وأنها العاصمة الأبدية للكيان العبري. أما النقطة الثانية، فكانت تمسك عرفات بحق العودة للاجئين الفلسطينيين في الشتات، وعدم القبول بسياسة الترحيل أو فرض التعويض بدلا عن العودة. وكان الصهاينة يرون في عودة الفلسطينيين إلى ديارهم إخلالا بالمعادلة الديموغرافية في إسرائيل التي تستند أساسا على يهودية الدولة، وأن يكون غالبية سكانها من اليهود، وأن عودة الفلسطينيين إلى ديارهم ستكون إسفينا في خاصرة المشروع الصهيوني، ومقدمة لتدميره. وهناك خلافات أخرى كثيرة حول الحدود وحجم الدولة الفلسطينية المرتقبة وسلطاتها، وحول المعابر والمستوطنات والتعويضات، وأمور أخرى.

 

والواقع أن المفاوضات الحقيقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد توقفت عمليا منذ تسلم إرييل شارون رئاسة الوزارة الإسرائيلية، رغم محاولات ووساطات بذلت من قبل الأمريكيين والأوروبيين، ودول عربية في المقدمة منها مصر والأردن. ورغم مقترحات ومشاريع أمريكية، كان آخرها المشروع المعروف بخارطة الطريق. ولا شك أن انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي لحقها بعد فترة وجيزة استلام شارون للحكم، قد ساعد على تصليب وتماسك الموقف الفلسطيني من موضوعي القدس وحق العودة. وكان موقف الرئيس الراحل، من كلا الموضوعين واضحا وحاسما. ولذلك اعتبرت الإدارتان الأمريكية والإسرائيلية، وجود الرئيس الفلسطيني عقبة في طريق السلام. وطرحت شعارات فضفاضة للحد من صلاحياته، في مقدمتها الإصلاح السياسي والمالي والإداري للسلطة الفلسطينية. وجرت ضغوط كبيرة ومتواصلة من أجل فرض قيادات بديلة للسلطة، وقد وقف الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بالمرصاد لتلك المحاولات، وحال دون فرضها.

 

وحتى عندما تمكنت الإدارة الأمريكية من فرض أمين عام حركة فتح، “أبو مازن” رئيسا لحكومة السلطة، فإنه وجد نفسه عاجزا وغير قادر على الخروج من الثوابت والقيادة الشرعية للرئيس عرفات. واستقال من منصبه، واستلم رئيس الحكومة الحالي، السيد أحمد قريع “أبو علاء” رئاسة الوزارة، ليجد نفسه، هو الآخر، في وضع لا يحسد عليه، حيث يقذف به صراع الإرادات يمينا وشمالا، ولم يكن يبدو في الأفق بصيص أمل، بالنسبة له للخروج بموقف مشرف من النفق المظلم الذي وجد نفسه غارقا فيه.

 

والآن وبعد التصريحات التي أطلقتها الإدارتان، الأمريكية والإسرائيلية، بأن الظروف أصبحت مواتية لاستمرار مسيرة العمل نحو حل سلمي بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات الذي كان عقبة في طريق السلام، وبعد إعلان عناصر بارزة في السلطة الفلسطينية عن الاستعداد للعودة إلى طاولة المفاوضات، فإن من الواضح أن رحلات ماراثونية ستبدأ من جديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبالتأكيد بوساطة غير النزيهة للأمريكيين. وسيكون في أعلى سلم قائمة المطالب الأمريكية والإسرائيلية من القيادة الفلسطينية الجديدة إنها الانتفاضة الفلسطينية، ونبذ “الإرهاب”، وفرض سيطرة حديدية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وملاحقة “المارقين” الذين لا يقبلون بالتخلي عن الأرض والكرامة. وستكون هناك خطوط صهيونية حمراء على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، وعودة القدس الشرقية للسلطة.

 

وقد بدأ الحديث فعلا عن الانتخابات المرتقبة لرئيس السلطة الفلسطينية الجديد، والمتوقع إجراءها في كانون الثاني/ يناير المقبل. وأعلن الإسرائيليون بوضوح أنهم لن يسمحوا لمواطني القدس الشرقية بالمشاركة في الانتخابات. وفي ظاهرة لا تدل على أي نوايا حسنة تجاه القيادة الفلسطينية الجديدة أعلن الصهاينة أيضا أنهم لن يسمحوا للمعتقلين في سجونهم من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة بالمشاركة في الانتخابات، باعتبارهم إرهابيين، وكثير منهم يمثلون رموزا بارزة في القيادات والكفاح الفلسطينيين. بما يعني أن على الفلسطينيين كافة مراجعة استراتيجياتهم وتكتيكاتهم، وقراءة مستقبل نضالهم على ضوء وعي الموقفين الأمريكي والإسرائيلي من جهة. ومن جهة أخرى، التمسك بالثوابت الفلسطينية، وتصعيد الكفاح باتجاهها بما يؤدي إلى تصليب وتماسك الوحدة الفلسطينية، والحفاظ على ألقها وتدفق روافدها، وصولا إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة فوق ترابه الوطني.

 

ما هي معالم الإستراتيجية التي ينبغي تبنيها؟ وما هي مبررات ذلك؟ وكيف يتم الولوج مباشرة في تحقيقها؟. ذلك ما سوف نحاول الإجابة عليه في الحديث القادم، وربما في أحاديث قادمة أيضا، بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2004-11-17

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

18 − 2 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي