الصين والمزاوجة بين الاقتصاد والسياسة
منذ سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على مقاليد السلطة عام 1949، وبزعامة ماوتسي تونج، شهدت الصين ثلاثة اتجاهات رئيسية. الأول، نهج عقائدي خالص، استمر عقدين كاملين، هما الفترة التي قاد فيها ماو البلاد. وخلالها نشأ صراع عقائدي حاد بين الصين والاتحاد السوفييتي، حيث اتهم الاتحاد السوفييتي الصين بتحريف العقيدة الماركسية، بينما وجهت الصين تهمة الامبريالية الاشتراكية للاتحاد السوفييتي. لكن الصراع العقائدي لم يحل دون التعاون والتنسيق بينهما حول الحرب الدائرة في ستينيات القرن الماضي بالهند الصينية، والتي شملت فيتنام ولاوس وكمبوديا، حيث كان الدعم السوفييتي، المكثف للثوار، يمر عبر الصين.
في أواخر الستينيات من القرن الماضي، تبنت صين ماو سياسات عقائدية متطرفة بعد “الثورة الثقافية”، أودت بعشرات القادة التاريخيين للحزب الشيوعي الصيني، من ضمنهم رئيس الحكومة، شو آن لاي، ووزير الدفاع لين بياو، وبرزت حركة تطهير واسعة، شملت كثيرا من كوادر الحزب، وجرت هجمة رئيسية على الإرث والفنون الإنسانية، شملت تحريم سماع سمفونيات بتهوفن وموزارت. وانتهت تلك الحقبة بوفاة ماو، وإلقاء القبض على من وصفوا بعصابة الأربعة، وبضمنهم أرملة ماو.
بعد رحيل ماو، تسلم زعامة الحزب، عدد من القادة الأبرز بينهم دينج شياو بينج، ووجيانج زمين وهو جينتاو، والزعيم الحالي، شي جين بينج. وخلال الخمسة عقود المنصرمة، خرجت الصين من عزلتها عن العالم، ودخلت الأسواق العالمية، وتمكن اقتصادها من اكتساح الأسواق الأمريكية والأوروبية، وبقية بلدان العالم. وجرت تصفية إرث ماو السياسي والعقائدي. واتجهت الصين نحو بناء شراكة اقتصادية قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغت صادرتها لها قرابة 25% من مجمل الصادرات. ونأت الحكومات الصينية المتعاقبة، عن إقحام نفسها في الصراعات الدولية الدائرة من حولها، مركزة جل جهودها على اكتساح منتجاتها للأسواق العالمية.
عملت القيادة الصينية، خلال السنوات الماضية، على تحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي. وحين حدثت أزمة الرهن العقاري، عام 2007، سارعت للإسهام في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي، من خلال شراء مستندات ضخمة من الخزينة الأمريكية، وأيضا عن تطريق تقديم مليارات الدولارات في صيغة قروض للبنوك الأمريكية. وبدأت حملة واسعة لشراء مئات الشركات المهددة بالإفلاس. وبالتأكيد لم يكن ذلك كرما صينيا بحتا، بل توجها عمليا، لضمان استمرار تدفق المنتجات الصينية للولايات المتحدة، والتي أشرنا إلى أنها بلغت ربع صادرتها للخارج.
المؤتمر العشرون، للحزب الشيوعي الصيني، الذي عقد في 15- 22 من الشهر الماضي، يعد نقلة مفصلية، في تاريخ الصين المعاصر. ققد توج هذا المؤتمر شي جين بينج زعيما تاريخيا للحزب، وكان الجديد في خطاب الزعيم الصيني، هو تأكيده، على أن التجربة الصينية، ليست ملكا للصينيين وحدهم، بل هي فعل إنساني، وملك لكل الشعوب. لقد أثبتت التجربة الصينية، وجود طرق أخرى، للنمو الاقتصادي، غير الطريق الرأسمالي الغربي. وقد وعد الزعيم الصيني أن بلاده ستساعد شعوب الدول النامية، على شق طريقها الخاص للنمو. وأن بلاده ستزاوج، منذ الآن بين النمو الاقتصادي، والفعل السياسي. لقد باتت الصين، من وجهة نظر قادتها، دولة عظيمة، وآن لها أن تخرج بتجربتها إلى العالم.
التوجه الصيني الجديد، في حقيقته، يتجاوز الاقتصاد والسياسة، ويعيد إلى الجانب العقائدي، الذي تم تجميده في العقود الخمسة المنصرمة ألقه وحضوره، مدعوما بقوة اقتصادية وحضور سياسي، وأيضا بقوة عسكرية صاعدة، قادرة على الدفاع عن المكتسبات التي تم تحقيقها.
واقع الحال، أن الصين الشعبية قد تمكنت من التغلغل بوجودها السياسي والعسكري، دولا عديدة، وبشكل خاص بالقارة السوداء، قبل انقعاد المؤتمر العشرين بعدة سنوات، لكن الإفصاح عن النهج الجديد، هو شيء آخر، لأنه ينقل الفعل الصيني، من خانة التكتيك المحدود إلى الاستراتيجيا.
في هذا السياق، حذر الأدميرال الأمريكي، تشارلز ريتشارد، قائد الاستراتيجية الأمريكية، التي تشرف على برنامج الأسلحة النووية، من أن الصين تطور أسلحة نووية أسرع بكثير من الولايات المتحدة، وحذر من أن ذلك سيكون مشكلة على المدى القريب. وفي ذات الوقت ذكرت مصادر أن وزارة الدفاع الصينية، تعمل على أن يصل تعداد أفراد الجيش إلى ثلاثة ملايين.
وتأتي الزيارة المرتقبة للزعيم الصيني للعاصمة السعودية الرياض، والنية في عقد ثلاث قمم، مع القيادة السعودية، وقادة مجلس التعاون الخليجي، والزعماء العرب، ,والحماس الصيني لانضمام السعودية لمجموعة بريكس، لتشكل محطة جديدة في تطوير العلاقات الصينية- العربية. والتماهي مع سياسة بناء الصين الجديدة، صين المزاوجة بين الاقتصاد والسياسة.
التعليقات مغلقة.