الصراع على أوكرانيا: انعطافة حادة بالعلاقات الدولية

0 413

 

من الصعب قراءة التطورات الأخيرة في أوكرانيا، والتي بلغت حتى هذه اللحظة، حد انفصال شبه جزيرة القرم عنها، والتحاقها مجددا بروسيا الاتحادية، بمعزل عن المحاولات الطموحة للرئيس فلاديمير بوتين، في إعادة حضور بلاده، كقوة كبرى ولاعب رئيسي في صناعة السياسات الدولية. وقد بدأت مسيرة العودة هذه منذ عام 2008، حين وقفت روسيا موقفا حازما في الأزمة الجورجية، أجبرت من خلاله القوى الموالية للغرب على التراجع، مهددة باستخدام القوة العسكرية، ومقرنة القول بالفعل للحيلولة دون ارتباط جورجيا بالغرب.

وكان الموقف الروسي من الأحداث في سوريا، هو ترجمة أخرى، لجدية بوتين في أخذ بلاده مكانتها الدولية، ليس فقط كشريك في صنع القرار الدولي، للولايات المتحدة وحلفائها في الغرب، ولكن كمنافس لهذه القوى. وذلك ينسجم تماما مع التاريخ الروسي المعاصر، بما في ذلك الحقبة القيصرية. فروسيا كانت دائما تعبر عن حضورها في المسرح الدولي، من خلال التنافس مع الغرب وليس بالعلاقات التكاملية معه، باستثناءات نادرة فرضتها طبيعة اللحظة، ولسنوات محدودة، كما في الحرب العالمية الثانية، حيث وجد الإتحاد السوفييتي نفسه، مجبرا على الالتحاق بالحلفاء، لإلحاق الهزيمة بالنازية,

بروز روسيا بقوة على المسرح الدولي، كقوة يحسب حسابها، أو انكفائها بالتاريخ المعاصر، ظل دائما مؤشرا على انبثاق نظام عالمي جديد. لقد كان الإتحاد السوفييتي عنصر نشطا، في تأسيس عصبة الأمم، التي دشنت نظاما دوليا جديدا آنذاك، قام على أساس تعدد القطبية، والتحضير لإزاحة الاستعمار التقليدي. وتزامن ذلك مع حضور واضح للسوفييت في نصرة حركات التحرر الوطني، للتحرر من ربقة الاستعمار وتحقيق الاستقلال، والتي كانت من أبرز ملامح القرن العشرين.

وكان الحضور الروسي، ممثلا في الاتحاد السوفييتي، في صنع القرارات الأممية، أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية أساسيا، حيث تقاسم حيازة عناصر القوة، مع غريمه اليانكي الأمريكي، وأسهم في تأسيس هيئة الأمم المتحدة. وبقي القطب الآخر، في الثنائية القطبية، التي طبعت السياسة الدولية، حتى سقوطه الدرامي في مطلع التسعينات من القرن المنصرم.

كان سقوط الاتحاد السوفييتي إيذانا ببروز نظام دولي جديد، مستند على الأحادية القطبية. وهي فترة نشاز في تاريخ الدول والإمبراطوريات، حيث القاعدة المألوفة أن تنتزع الدول الكبرى مواقعها، وفقا لإمكاناتها وقدراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية. ولم يكن لهذه الحقبة أن تستمر طويلا، طالما أن القانون الأزلي الذي يحكم العلاقات الدولية، هو صراع الإرادات، وليس التجانس والتكامل، فكل قوة كبرى، تحرص على توسيع دائرة مصالحها ونفوذها على كل الأصعدة، وإن بطرق الهيمنة، وجبروت القوة.

ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، هو خطوة طبيعية، إذا ما وضع في الاعتبار تاريخ هذه المنطقة، وعلاقة روسيا التاريخية والقومية بها وبشعبها الذي ينطق غالبيته اللغة الروسية. وكان يمكن أن تتم بسلام ودون ضجيج، لو ضمت للجمهوريات الروسية، لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي. لكن الانهيار الذي شهدته روسيا، وتراجعها على كل الأصعدة، وانسحاب الجمهوريات السوفييتية، الواحدة تلو الأخرى منها، لم تجعل بقاء شبه الجزيرة، آنذاك، ضمن مساحة روسيا المنهكة، أمرا حيويا واستراتيجيا.

الآن وبعد ثورة الشعب الأوكراني، ومطالبته التوجه نحو الغرب، بدلا عن الشرق، جاءت اللحظة المناسبة للرئيس بوتين، ليجعل من الثورة عقب إيخل، الذي من خلاله يواصل، كما هي عادته، من خلال الأزمات المتكررة، طموحاته في الحضور بقوة للمسرح الدولي، ليس بصيغة الشريك، ولكن بصيغة المنافس، وبما يليق بتاريخ بلاده، يدعمه في ذلك استفتاء شعبي بنتائج ساحقة من قبل شعب الجزيرة، ويسنده تاريخ من الخروقات الغربية المماثلة، ليس أقلها ما حدث من تفتيت للسودان، وتأسيس دولة في جنوبه، وأيضا تفكيك جمهوريات يوغسلافيا الاتحادية، والعنوان الأبرز في التفتيت هو استقلال كوسوفو.

ضم شبه القرم إلى روسيا، هو خطوة أخرى، على طريق صياغة نظام دولي جديد، تستعيد من خلاله روسيا الاتحادية مكانتها. وهو خطوة على صغر حجمها، فإنها تمثل شهادة الوفاة للنظام الدولي الذي ساد منذ مطالع التسعينات من القرن المنصرم.

وربما يبدو مبكرا الآن القول، بأن النظام الجديد لن يكون متعدد القطبية فقط، بل إنه سوف يقسم العالم، إلى شطرين، يبدوان متكافئين في قوتهما العسكرية والاقتصادية. شطر شرقي قوامه روسيا والصين والهند وبقية منظومة البريكس، وشطر غربي، تقوده الولايات المتحدة، وحلفائها في حلف الناتو. والأقرب أن تنجح كتلة البريكس في تنافسها الاقتصادي، في ترجيح كفتها، خلال سنوات قليلة قادمة، على كفة الشطر الآخر.

هذا الانشطار، في العلاقة بين القوى الدولية المهيمنة، هو ما يجعل الخطوات الروسية المتتابعة، بدءا من الأزمة الجورجية، إلى أحداث سوريا، وأخيرا ما حدث في الأيام الأخيرة من ضم لشبه جزيرة القرم، أقرب إلى استدارة حادة نحو حرب باردة جديدة، لن تكون استنساخا لسابقتها. وما العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفائها على روسيا، وردود الفعل الروسي حيالها، سوى مقدمات هذه الحرب.

العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب، على روسيا، لن تستمر طويلا على الأرجح، لأن المتضرر منها ليست روسيا وحدها، بل الغرماء أيضا. فنسبة التبادل الاقتصادي الروسي مع الاتحاد الأوروبي وحده تتجاوز الخمسمائة مليار دولار سنويا، عدا عن نسبة التداول الاقتصادي الروسي- الأمريكي، والتي تشكل أرقاما فلكية بكل المقاييس. ستتضرر المصالح الروسية بالتأكيد.

سوف يجد الروس منافذ، لتجاوز مؤثرات الحصار الإقتصادي الغربي. وفي هذه الحالة، سيكون الغرب بين واقعين أحلاهما مر: إما الاستمرار في حصار روسيا، إلى أمد غير منظور، وقبول ما يلحق من ضرر في الاقتصادات العربية، مع وعي أن روسيا سوف تتمكن لاحقا من خلال علاقاتها المتينة بمنظومة دول البريكي، من تجاوز تأثيراتها السلبية. والاحتمال الآخر، أن يتراجع الغرب عن قراراته في حصار روسيا اقتصاديا، وعند ذلك يضع الرئيس بوتين نقطة أخرى، في سجل انتصاراته.

وفي كل الأحوال، فإن موازين القوى الدولية لم تعد كسابقها، قبل ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، والأيام القادمة ستشهد كرا وفرا، ربما تتعدى تأثيراته حدود الجغرافيا الروسية، لتصل إلى بلدان البلطيق، وربما لن يستثنى منها الوطن العربي، وبشكل خاص الصراع الدولي المحتدم على سوريا، وسوف لن يطول انتظارنا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

19 − خمسة عشر =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي