الصراع الدولي والموقف المطلوب عربيا

0 389

 

بات واضحا في السنتين المنصرمتين، أن عالمنا أصبح بالفعل متعدد الأقطاب، ولم تعد قيادته حكرا على الولايات المتحدة الأمريكية بمفردها. والواقع أن ما حدث في كوكبنا، على الصعيد السياسي، منذ سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينات من القرن العشرين، واستمر حتى ما قبل أعوام قليلة، هو استثناء في التاريخ الإنساني، حيث النظام الدولي، يحكمه صراع الإرادات وتوازن القوى، وتتشابك فيه كما تفترق المصالح.

وهكذا يتوازن العالم، ويعود إلى النمط الطبيعي الذي حكم التاريخ الإنساني، منذ أعرق الحضارات، ولتنتهي حالة النشوز والانفصام، التي لحسن حظ البشرية، لم تتعد العقدين من الزمن، من تاريخ طويل تعدى آلاف السنين، من عرفت البشرية الاجتماع الإنساني، وأشادت المدن والحضارات والإمبراطوريات.

الآن وقد أصبحت التعددية القطبية، أمرا واقعا، لا جدال حوله، يطرح السؤال، ما الذي ينبغي على العرب، فعله تجاه هذه التطورات، والتي ستكشف الأيام القادمة أنها أكثر عمقا مما ظهر على السطح، ويترجم ذلك السعي الأمريكي المحموم، للانسحاب من المنطقة المعروفة بالشرق الأوسط، بما في ذلك الانسحاب من أفغانستان، والتسليم لسياسات روسيا بالأزمة السورية، والحديث عن جنيف3، لإيجاد مخرج سلمي للأزمة، مخرج يعيد أمجاد روسيا القيصرية، والاتحاد السوفييتي، في مياه الأبيض المتوسط، والبحر الأسود ومضيق الدردنيل، حيث تمخر الأساطيل والبوارج الروسية.

يحتفظ الصراع الدولي الراهن، من صراعات الحرب الباردة بخاصيتين: صراع بين شرق وغرب، وصراع بين شمال وجنوب. فمنظومة البريكس، التي تمثل الكتلة الاقتصادية المتحدة، في مواجهة الاقتصادات الأمريكية والأوروبية، هي روسيا والصين والهند، والثلاث دول تنتمي إلى الشرق في موقعها وفي ثقافاتها وانتماءاتها. الدولتان المتبقيتان، أحدهما هي جنوب أفريقيا، بمعنى وقوعها في جنوب القارة السمراء، والأخرى، البرازيل وتقع في أمريكا الجنوبية.

الصراع الدولي أثناء الحرب الباردة حمل شكلين: شكل صراع عقائدي بين الشيوعية والرأسمالية، وشكل صراع بين الأغنياء والفقراء. لقد ساد تقسيمان: تقسيم عقائدي يشق العالم أفقيا بين شرق وغرب، وتقسيم رأسي، يشق العالم، من الشمال حيث الأغنياء، إلى الجنوب حيث الفقراء. والتقسيم هذا لا يعني عدم وجود استثناءات، ولكنه يعنى هنا التمركز. بمعنى أين يتمركز الأغنياء، وأين يتمركز الفقراء.

ولأن أي صراع في العالم، بحاجة إلى مؤسسات تعبر عنه، وجدت لدينا مسميات مختلفة، تعبر عن مكنون التقسيم. فالشرق والغرب يتصارعان عقائديا واقتصاديا وعسكريا، وفي نطاق كل صراع هناك مؤسسات تعبر عن مصالح كل فريق، لكنهما جميعا يلتقيان عند تعبير الدول الصناعية، التي تمثل قاسما مشتركا بينهما.

في الجنوب، افتراق حاد عن الشمال، جعل منه عالما ثالثا، يضم الجزء الأكبر من سكان القارات الثلاث، أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تحظى بلقب تعويضي، يجعل منها “دولا نامية”، بينما هي في واقعها غارقة في ظلام الفقر والبؤس. ورغم ما تحمله تعابير الاستقلال والسيادة، لدول العالم الثالث، لكنها جميعا، ومن غير استثناء، انقسمت في ولائها وتبعيتها، لواحد من الكتلتين المتنازعتين أفقيا.

الصراع الجديد، مختلف جوهريا عن الصراع السابق. فرغم أن له صبغة ثقافية، يتخندق بعضه بسحر الشرق، ويتخندق الآخر بالإرث المسيحي، لكنه يخلو من الصبغة العقائدية. فحتى الشيوعية الصينية، لم تعد بالوجه الذي ساد أثناء حكم ماوتسي تونج، فليست هناك دوغما، بل براغماتية مذهلة، جعلت من الصين تنينا عاتيا، شق طريقه بقوة ليس لها نظير في التاريخ، في عالم الصناعة والمال. أما روسيا، فتخلت طواعية عن عقيدتها الماركسية، في تحول درامي مثير، أفقدها هيبتها وأحالها إلى دولة ضعيفة في قوتها الاقتصادية، إلى أن نهض بها قيصرها الجديد فلاديمير بوتين، في ظروف تحولات دولية صار مؤكدا، أنها تسير ولمصلحته.

والنتيجة أن التنافس هو بين رأسماليين، وليس كما السابق، بين شيوعيين ورأسماليين. ذلك يعنى أن التحالفات العربية، سواء كانت مع الشرق أو الغرب، هي مع أنظمة سياسية من نمط اقتصادي وسياسي واحد، والتنافس الاقتصادي بينهما على الأسواق العالمية، أمر مشروع. والجانب الإيجابي فيه، أنه يتيح لنا الاختيار، بين أقطاب متماثلة، في أنماط حكمها وقتصاداتها وسياساتها.

كان الاختيار سهلا أثناء الحرب الباردة، لأن له امتداداته الآديولويجية والسياسية والاقتصادية. فمن أراد تطبيق الاشتراكية، سينتهج سياسة مؤيدة للسوفييت، وسيكون لذلك تأثيره على الاستراتيجيات العسكرية، ونوع التسليح. والحال هذا صحيح على الدول التي تنتهج الطريق الرأسمالي. الاختيار سهل، ولكن النتائج خطيرة، شقت الوطن العربي إلى معسكرين: معسكر مؤيد للشرق وآخر، مؤيد للغرب، ودخلنا في مواجهات وصراعات، أبعدتنا عن مواقع أقدامنا، وخسرنا الكثير من تلك الصراعات ليس أقلها هزيمتنا في حرب يونيو 1967، التي أبعدتنا عن تحرير فلسطين، وتحقيق التكامل بين العرب، بمسافات فلكية.

لحسن طالعنا في هذه الحقبة، أننا لسنا مضطرين للدخول في صراعات بسبب تخندقنا مع الشرق والغرب، فجميعهم ينهل من إنجيل آدم سميث المعروف بثروة الشعوب. وليس من صالحنا أن ننساق مع صراع المصالح الذي يحكم العلاقات فيما بينهم. فتنافسهم سيكون علينا، وليس لنا.

المنطقي أن تكون لنا علاقات متكافئة، مع أقطاب الصراع الدولي، من غير تمييز، إلا ما يخدم مصالح وتنمية بلداننا ويحقق الخير والأمن لنا. وكلما تعددت وتنوعت هذه العلاقات، كلما توسعت دائرة الاختيار، وأصبحنا أحرارا، غير مقيدين بالخضوع لإملاءات هذا الفريق أو ذاك.

واقع الحال، أن الانقسام بين البلدان العربية، في علاقاتها مع الغرب أو الشرق، هو رحمة لنا جميعا، إذ أن الخطورة تكمن في وضع البيض كله في سلة واحدة. وسيكون مجديا أن يكون ذلك جزءا من استراتيجية عربية موحدة، إن أمكن ذلك، وليس اختيارا محسوبا على أساس المصالح الفئوية والقطرية. وسيبقى علينا متابعة ما يجري بالتأصيل والتحليل بعد جلاء الغبار، عن بعض ما يجري من تفاعلات وتحولات في الصراعات المفصلية الدائرة الآن، وبشكل خاص بين الأمريكان والروس.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

9 + 16 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي