الصحوة… المقاومة… وتراجع أعمال العنف

0 238

منذ صدر التقرير الذي أدلى به قائد القوات الأمريكية، الجنرال ديفيد باتريوس في مطلع شهر سبتمبر الماضي، أمام الكونجرس الأمريكي، وأجهزة الدعاية الغربية تتحدث عن تقدم ملموس في الخطة الأمنية، التي اعتمدتها إدارة الرئيس جورج بوش للتقليل من خسائرها في العراق. حملت الأنباء أيضا، أخباراً متواترة عن تولي العشائر العراقية شؤون الأمن في مناطقها، وأن ميليشيات، قدر تعدادها بعشرات الألوف، أخذت تتشكل في بغداد والأنبار وديالى والموصل، لاحتواء أعمال العنف، وحماية المدنيين.

 

كان آخر ما أبرزته جوقة الإعلام الغربي، حول التقدم الأمني في العراق هو ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية، وفي مقدمتها وكالة رويترز حول انخفاض أعداد القتلى من المدنيين بنسبة 29% في شهر نوفمبر 2007م، عنه في الشهر السابق. وأوضحت أن الإحصاءات الحكومية أشارت إلى أن أعمال العنف في أنحاء العراق قد تراجعت خلال شهر نوفمبر إلى أدنى مستوياتها في نحو عامين. وأظهرت البيانات أن 538 مدنيا قتلوا في شهر نوفمبر. وأشارت إلى أن سبب هذا التراجع يعود لزيادة حجم القوات الأمريكية بنحو 30 ألف جندي، وانتهاج تكتيك جديد يقوم على الانتقال من القواعد الكبيرة إلى مواقع أصغر في الضواحي.

 

قراءة هذه التطورات، كما تبدو على السطح تشي بأن تقدما حقيقيا، باتجاه تحقيق الاستقرار قد حصل في العراق، وأن هذا البلد الجريح في طريقه للتعافي. لكن القراءة الدقيقة للأوضاع، ومتابعة ما يجري على أرض الواقع فيما بين النهرين تشير إلى أن ما تبرزه أجهزة التضليل الغربية ليس سوى قراءات مخادعة، لواقع مغاير تماما لما هو بارز على السطح.

 

مرة أخرى، تطرح مشروعية مقاومة الاحتلال، وأهدافها بحدة، عند مناقشة التطورات الأخيرة في المشهد العراقي. فالمقاومة للغزو الأجنبي، بكل أنماطها حق كفلته الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، والمواثيق الدولية. والقانون الدولي واضح وصريح فيما يتعلق بإفرازات الاحتلال، بما في ذلك الدساتير والقوانين والمؤسسات والأجهزة واللوائح التي يفرزها، انطلاقا من القاعدة القانونية التي تقول بأن ما بني على باطل فهو باطل وأن الإجراءات الباطلة لا تصبح صحيحة بالتقادم.

 

في هذا السياق، فإنه ليس من المقبول، بالقانون الدولي أن يأتي الاحتلال بعناصر موالية له، يمنحها قوة تشريع القوانين وتنفيذها، ويجرى انتخابات في ظل احتلاله، وبإشرافها ثم يقول إن ذلك هو خيار الشعب. وحتى في البلدان المستقلة التي تعيش أزمات داخلية واحتراباً أهلياً، ترسل الأمم المتحدة مراقبين للتأكد من سلامة إجراءات وسير الانتخابات. يحدث ذلك أيضا، عندما تثار شكوك قوية حول نزاهة الانتخابات حيث تشكل لجنة تقص للحقائق من قبل الأمم المتحدة، فما بالك إذا تعلق هذا الأمر بقوانين ودساتير وهياكل وانتخابات تؤسس في ظل الاحتلال؟!.

 

ولما كان هدف المقاومة هو تحرير البلاد وتحقيق الاستقلال، وهو نهج عام تبنته جل حركات التحرر الوطني في العالم، فإن المناخ الذي تتحقق فيه الوحدة الوطنية، هو مجالها الحيوي للتنفس والتحرك. فعلاقتها بالناس، وفقا لتشبيه منظري حركات التحرر، هي “كعلاقة السمك بالماء”. ولأن المقاومة العراقية، لا تختلف في بنيتها وأهدافها عن سائر حركات التحرر الوطني، فإنها، خلافا لما يشيع الاحتلال والقوى المتعاونة معه، لا توجه سلاحها للمدنيين من العراقيين، وإنما للتصدي للاحتلال وإفرازاته. وهي على هذا الأساس، أكثر العناصر المستفيدة من تراجع عمليات القتل في صفوف المدنيين.

 

ولأن المشروع المقاوم هو بطبيعته مشروع توحيدي، فإنه ضد التطهير الطائفي، والقتل على الهوية، وإعادة تركيب المدن على أسس طائفية، وبناء حوائط الفصل، بين المدن والأحياء العراقية: بين الأعظمية والكاظمية والوزيرية.. وبقية الأحياء الأخرى، وعزل العراقيين عن بعضهم البعض هو بالتأكيد ضد استراتيجية المقاومة وتكتيكاتها. والمستفيد الوحيد، تاريخيا، من عمليات التفتيت والاحتراب الطائفي والإثني، هو المحتل. ولذلك جرت العادة أن يعاد إنتاج شعار “فرق تسد” عند كل احتلال يتعرض له أي بلد، من بلدان العالم المقهور.

 

من هذه المسلمات، يمكن قراءة الواقع العراقي، وفك رموز الطلاسم التي يشهدها مسرح المواجهة. عمليات القتل على الهوية تقوم بها فرق الموت، وفرق التكفير.. وهي فرق لا علاقة لها البتة بمشروع المقاومة. وأهدافها في النهاية تصب في مخطط تقسيم العراق الذي تناولناه مرات عديدة بالمناقشة والتحليل. وقد أوضحنا أن هذه العمليات تأتي كمقدمة لفرض الفدرالية والدستور، والمحاصصات الطائفية والإثنية. وكانت نتائجها وبالا على العراق وأهله: تهجير السكان، وإعادة تركيب البنية الديموغرافية للعراق الجديد، تمهيدا لتقسيمه، وهروب أكثر من خمسة ملايين نسمة للخارج، حيث أصبحوا يعيشون على الأرصفة بالأردن ومدن الشام.

 

وفي سياق استكمال برنامج التفتيت، توصل مهندسو إدارة الاحتلال إلى أهمية تفتيت العراق إلى كانتونات صغيرة، تكون الإدارة فيها لجماعات محلية مسلحة, عشائرية صرفة, تتحرك في فضاء جغرافي محدد. وتكون وظيفتها الأساس هي المساعدة على إيجاد الأرضية الملائمة لتنفيذ خارطة التقسيم، وفقا لقرار الكونجرس الأمريكي “غير الملزم”. وتصبح في هذه الحالة، مطاردة هذه الميليشيات لعناصر المقاومة، جزءا لا يتجزأ من تهيئة المسرح لتنفيذ مشروع التقسيم.

 

ومن اللافت للانتباه، أن مجاميع الصحوة، والميليشيات التابعة لها، والتي أعلن عن تشكلها حديثا، قد اقتصرت على المحافظات التي يشكل السنة غالبيتها. وهذا ما يوضح الأسباب الحقيقية لتأسيسها ودعمها من قبل قوات الاحتلال. فتأسيس الميليشيات الشيعية، بقيادة حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى، والتيار الصدري، قد بدأ بعد احتلال العراق مباشرة، وربما حسب قراءات مختلفة، قبل ذلك بوقت طويل. وبالنسبة لشمال العراق، بات للزعامات الكردية التقليدية ما يقترب كثيرا في بنيته من الدولة. وكان لا بد من استكمال خارطة الكانتونات، بما أطلق عليه المثلث السني، لتتسق مع مشروع التقسيم.

 

إن الفكرة ببساطة، كما هي مجسدة الآن على أرض الواقع هي تغييب فكرة الوطن، وإعادة تسعير الانتماءات القبلية والعشائرية، بدلا من الانتماء للوطن الواحد. وإذا ما تحقق ذلك للاحتلال، فإنه يكون قد تجاوز أهم عقبة كأداء أمام مشاريعه. إنه تحويل البنية النفسية للعراقيين، من انتماء للعراق، إلى انتماء للعشيرة، باعتبارها الملجأ الوحيد لمواجهة الإقصاء والتهجير والعنف والقتل على الهوية.

 

ووفقا لهذا المخطط، تتحول بغداد قلعة الأسود ومدينة السلام، وعاصمة الرشيد التي اعتاد العراقيون، بمختلف طوائفهم وأديانهم وإثنياتهم، التعايش فيها بسلام ووئام منذ تأسيسها، أرضا بورا خالية من الحب والأمن. وتتحول إلى كانتونات مجهرية تؤمن للمحتل سلامة جنوده، وتسهل له تنفيذ مشاريعه.

 

تراجع عمليات العنف، ضمن هذه الرؤية، يعني أن إدارة الاحتلال الأمريكي، قد تمكنت فعلا من إنجاز المرحلة الأولى في عزل العراقيين عن بعضهم البعض، بعد أن تمكنت من خلق الحواجز النفسية والكنكريتية فيما بينهم.. وبعد أن شردت الملايين منهم إلى خارج العراق.

 

وتبقى هناك أسئلة كثيرة تنتظر أجوبة ملحة، يأتي في مقدمتها التساؤل حول الخلط المتعمد بين تراجع عمليات العنف وتراجع عمليات المقاومة الوطنية العراقية. هل هما شأن واحد؟! الأمر الآخر، يتعلق بمصداقية مصدر المعلومات عن تراجع عمليات العنف والمقاومة في العراق، وهو مصدر، غير نزيه، تكشف زيف ادعاءاته في أسلحة الدمار الشامل، والعلاقة المفترضة للنظام السابق مع عناصر القاعدة، وأيضا زيف أكذوبته فيما يتعلق بالمقابر الجماعية… وجملة الادعاءات الأخرى التي بنى عليها فرضياته في الاحتلال. وماذا عن المهجرين من أحيائهم، هل سيستمر الفصل الجماعي بين السكان، أم سيعود المهجرون إلى مساكنهم، وأحيائهم؟ وما هو مصير اللاجئين العراقيين بالخارج؟ وكيف سيتم التعامل مع المليون جندي، الذين تم تسريحهم من الخدمة تنفيذا لقرار برايمرز سيئ الذكر بحل الجيش العراقي؟ وأيضا التساؤل عن مصير قرار برايمرز باجتثاث البعث، الذي يعني ببساطة حرمان الملايين من العوائل العراقية من مصدر الرزق والغذاء؟

 

والأهم من ذلك بكثير، ما هو مصير الاحتلال ذاته؟ وهل سيبقى جاثما على صدور العراقيين إلى ما لانهاية؟ وهل سيكون قدر العراقيين التعايش معه؟ أم سيعود للعراق وجهه العربي الأصيل، ليلعب دوره التاريخي الذي أنيط به منذ فجر التاريخ؟

 

أسئلة كثيرة، لن يكون بمقدور أحد الإجابة عليها، غير فعل العراقيين وإرادتهم المتوثبة، ونزوعهم نحو صناعة مستقبلهم، بما يليق مع عظمة عصر نهضتهم، وهو فعل يضطلع به ويقود ركبه فرسان المقاومة الوطنية الباسلة.

 

editor@arabrnewal.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة omar)

 

سيدىلماذادائمانلبس نظارة سوداء عندماننظر الى الغرب لماذا لا نستبشر خيرا(بما يدعيه المحتل) بتراجع عمليات القتل والتفجير التى تنخر فى جزور مكونات الشعب العراقى الواحدمايجرى ليس مشروع مقاومةاحتلال انه مشروع

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة هاني لازم)

 

تحية للكاتب د . يوسف مكي / صوت العروبة الحق ، اليس ذلك هو الواقع ايا المعلق السابق / لماذا تريد ان تجعل من الذئب حملا وديعا وهو الذي يفتك بالقطيع / ولماذا تغالط ضميرك المخفي وراء نظارات عقدك / فالدكتور يوسف لم يلبس نظارة / وإنما انت يا اعمى البصيرة / لماذا صار الناس عبادي للدينار وفرطوا كما الصحوات الاعميلة بشرف الديار .

ألا تفا لكم / ياعملاء / وتحية للكاتب النظيف .

 

* تعليق #3 (ارسل بواسطة علي العيبيدي)

 

استمرت وستستمر المشاريع كل مرحله بتسميه جديده00 فيؤم مليشيات ويوم حرس وطني ويوممغاوير واخروليس اخرا صحوه00 المهم ان كل ذلك يؤكد حقيه تاريخيه مهمه للغايه000 ان المقاومه مستمره وفاعله00وفشلوا بكل مشاريعهم بتدميرها000 لانهاالحق وان الله ناصرها

 

* تعليق #4 (ارسل بواسطة ابو عدي)

 

الصحوة هي المقاومة والمقاومة هي البعث والعراق في طريقه الى التحرير بعون الله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

واحد × 2 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي