الشتاء الساخن مسمار آخر في نعش الوهم
الحملة العسكرية الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة، تأتي في وقت يشهد فيه العالم العربي حالة انقسام شديدة، تلقي بثقلها الغليظ على مشهد المواجهة غير المتكافئة مع المحتل، فتضاعف من كآبته وظلمته. وفي ظل حالة الانقسام والتشرذم يطل العجز العربي الرسمي والشعبي، بكامل حضوره، دون أقنعة أو أردية… ودون مسحة من حياء أو خجل، وفي زحمة احتدام جدل بيزنظة حول المقاومة والشرعية وعبثية الصواريخ، والحكومة المقالة وحكومة تصريف الأعمال، وهل سوف ينعقد مؤتمر القمة العربي في موعده أو يؤجل حتى إشعار آخر، وقضايا أخرى كثيرة. تضيع استغاثات الأطفال، وأنات الجرحى.
عند كتابة هذا الحديث يكون قد مضى على بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية على القطاع خمسة أيام. لتبدأ مع هذا الصباح يومها السادس. وخسائرنا كما تشير إحصائيات مكاتب الصحة في غزة قد بلغت 116 قتيلا، مرشحة للارتفاع بسبب خطورة إصابات الجرحى، وأيضا بما يمكن أن ينتج عنه استمرار القصف الصهيوني، لمدينة غزة والبلدات المحيطة بها.
ما هو متوفر من معلومات وتقارير حتى هذه اللحظة، عن مسار العملية العسكرية الإسرائيلية يشير إلى أن قوات الاحتلال الصهيوني، قد ارتكبت مجازر فظيعة ومروعة، لم يشهد لها القطاع مثيلا منذ احتلاله عام 1967. لقد أدت آلة البطش الصهيونية، وظيفتها بكفاءة ومنهجية أحالت أجساد الأطفال الغضة، والنساء إلى كومة بشرية، ضمت عوائل كاملة، امتزجت أجسادها مع بعضها، وحققت بينها وحدة أبدية، من نوع آخر، ملتحمة للمرة الأخيرة بتراب غزة وجباليا، لتصبح جزءا من خارطة فلسطين، وحغرافيتها وتاريخها، وليغدو الفصل بين الجسد والتربة عصيا، على العدو، كما هو استبدال هوية فلسطين.
كانت المقاومة الباسلة، والتصدي الفلسطيني الشجاع لعمليات الإبادة والقتل، وحجم الدم المراق، قد أجبرت الصهاينة على الإعلان عن انتهاء المرحلة الأولى من العدوان على القطاع، وإعادة نشر القوات الإسرائيلية إلى خارج الشريط الحدودي، بعد سلسلة غارات جوية همجية أودت بحياة ستة من الشهداء. لكن ذلك لا يعني أن بوابات العدوان لم تعد مفتوحة. فطالما ساد العجز العربي، وطالما غاب مشروع التحرير والنهضة، واستعيض عنه بحراك تختزله ردود الأفعال، وليس قوانين الفعل الإرادي الإنساني، المصحوبة بالتخطيط وصياغة الاستراتيجيات الكفاحية القادرة على الاستجابة للتطلعات المشروعة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، فستكون هناك فسح كثيرة لعبور مشاريع العدوان.
ستكتفي أقلامنا، بدلا عن الفعل الخلاق، بتدوين المرثيات، وكتابة القصائد، واستمراء جلد الذات، وتسطير بيانات الاحتجاج والاستنكار. وسيحقق ذلك بعضا من الراحة للذين وجدوا أنفسهم في القلب من النار، ويعيد شيئا من التوازن النفسي للبشر المحبطين. وهذا هو بالدقة ما عبرت عنه صيحات الاستغاثة والألم في الأيام القليلة الماضية. لكننا لن نتقدم خطوة تجاه الاقتراب من هدف التحرير، إلا حين نعمل على توفير عناصر القوة والردع، وحين نمتلك استراتيجية قادرة على تحقيق توازن الرعب، التي انفرد بامتلاكها خصمنا منذ تأسيسه حتى يومنا هذا.
معنى ذلك، بصراحة، أننا بحاجة إلى مراجعة جذرية وشجاعة وإعادة نظر لمفاهيمنا وأفكارنا عن الحرب والسلام. فلأكثر من أربعين عاما، أعلنت بعض القيادات العربية خيارا آخر في صراعها مع العدو الصهيوني، غير خيار المقاومة المسلحة، وتحقيق التوازن العسكري مع الخصم. قبلنا نحن العرب بعد حرب يونيو عام 1967، بالخيار السياسي، لإزالة آثار العدوان، وغلفناه برفض للصلح والاعتراف والمفاوضات. وبدأت جولات مكوكية ليارنج وسيسكو، وروجزر. وكانت حرب أكتوبر، عام 1973، انتقالا دراماتيكيا واستراتيجيا، إلى ما عرف في حينه بهجوم السلام.
ثمة ظاهرة ملفتة للنظر عربيا، هي أننا نتوحد في المعارك، فتكون الوحدة صهرا لطاقاتنا وإمكاناتنا وتحشدنا في مواجهة الخصم. وبالمقابل، تأتي كل محاولات “السلام” لتدق إسفينا في خاصرة التضامن العربي. فشدة الخصومات في الخمسينيات والستينيات بين الأنظمة العربية على اختلاف توجهاتها، لم تمنع من تضافر الجهود وتحشيد القوة العسكرية والاقتصادية العربية لمواجهة الخصم. والعكس صحيح، فقد كان أول انتقال لمقر جامعة الدول العربية من القاهرة، إلى خارج مصر، قد أخذ مكانه بعد زيارة الرئيس السادات إلى القدس مباشرة. وكلما مشينا باتجاه الوهم، تضاعفت فرقتنا وشتاتنا، وزاد وهننا وضعفت قوتنا، وأصبحنا لقمة سائغة وسهلة في أفواه اللصوص والطامعين. والأمر، لكثرة تكراره، عند كل محطة من محطات الصراع مع العدو، أصبح بوصلة موحية بقانون قطعي، قوامه أن الأمة تنهض حين تشمر عن سواعدها، وتواجه بشكيمة وعزم مختلف المصاعب، وأنها تتراجع وتنكفئ، وبالتالي تتفتت وتضعف حين تختار التسليم والتفريط.
وفي هذا السياق يبرز السؤال المركزي، الذي تعمل معظم أجهزة الإعلام العربية على تغييبه. هل بالإمكان حقا تحقيق السلام مع الكيان الغاصب؟ وإذا كان الجواب بنعم، وهو ما يبدو أن كثيرا من القيادات والنخب العربية تتبناه الآن، فكيف يتحقق هذا السلام؟ وهل يمكن القبول بسلام ينتقص من الحقوق، ويغيب فيه مفهوم مركزي آخر، هو الأمن؟.
هذه الأسئلة لا تحتاج إجاباتها إلى جهد كبير ومضن. فالسياسات الإسرائيلية طيلة الحقبة التي بدأ بها “هجوم السلام” قد تكفلت بتقديمها. فالعربدة الصهيونية، قبل “هجوم السلام” كانت محدودة جدا، وكانت الذراع العربية الضاربة على استعداد باستمرار لمواجهتها. وقد واجهتها فعلا في حرب 1956، وفي معركة الكرامة بالأردن عام 1968، وفي حرب الاستنزاف في الفترة من 1967- 1970، وفي حرب أكتوبر عام 1973. ربحنا معارك وخسرنا أخرى، وذلك شأن إنساني. تمسكنا بثوابتنا القومية، والوطنية، ولم نرفع راية بيضاء.
بعد هجوم السلام مباشرة، بدأت العربدة الصهيونية، تصل إلى أقصى الشرق من وطننا العربي، حيث قصف مفاعل تموز في بغداد، إلى تونس غربا، حيث قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم القيام بعملية اختراق سرية جرى فيها اغتيال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) أحد زعماء حركة فتح، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومع هجوم السلام جرى احتلال أول عاصمة عربية من قبل الصهاينة، في صيف عام 1982، ليتبعها تكسير الأيدي وقتل المدنيين في انتفاضة أطفال الحجارة. وليتصاعد الهجوم إثر توقيع اتفاقيتي وادي عربة وأوسلو، لتؤكد العلاقة المتوازية بين “هجوم السلام” العربي، وتصاعد النزعة العدوانية الصهيونية، التي تجد في المواثيق الموقعة، خروجا لأطرافها عن معاهدة الدفاع العربي المشترك والأمن القومي الجماعي، وترخيصا مفتوحا للمزيد من العبث والقتل والإبادة الجماعية.
العملية الأخيرة، قيل إنها رد على استهداف المقاومة الفلسطينية للمستوطنات الصهيونية بالصواريخ. وكانت هذه أول مرة تتسرب فيها مفاهيم الإرهاب الأمريكية بقوة إلى الإعلام والرأي العام العربيين. فقد جرى التنكر لحق طبيعي كفلته الشرائع السماوية والقوانين الوضعية هو حق الشعب المحتل في مقاومة محتليه. وكان هذا التسرب غاية في غرابة منطقه. قيل من جهة، إن الصواريخ “العبثية” هي التي منحت العدو ذريعة للهجوم على قطاع غزة، وقيل إن من حق الكيان الصهيوني أن يدافع عن وجوده.
في هذا السياق، نحن هنا أمام حجتين متناقضتين، مع بعضهما، تخدمان محاولة الإجابة على الأسئلة التي طرحناها. فإما أن تكون الصواريخ فعلا “عبثية” لا تسمن ولا تغني، ولا تحدث تأثيرا في معادلة الصراع مع العدو، وأن الكيان الصهيوني يعتبر إطلاقها مجرد ذريعة لمواصلة العدوان، فإن ذلك لا يستقيم مع الرغبة في إقامة السلام العادل، المبني على ضمان الأمن، مع هذا الخصم. وإذا كانت تلك الصواريخ تلحق فعلا الأذى والضرر بالخصم، وتحدث توازنا ولو كان محدودا في الرعب، مع آلته الحربية فلماذا يقف بعض العرب بالضد من ذلك؟. أسئلة كثيرة تطرح علينا بحدة أن نعيد النظر في تركيب المفاهيم، وصولا إلى صياغة استراتيجيات بديلة، تحقق لنا الأمن والرخاء والسلام وتؤمن لنا القدرة على مواجهة العدوان، فعسى أن نجعل من أحزاننا فسحة للمراجعة وعودة الوعي.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة محمد كوحلال//المغرب.)
الدكتور الفاضل يوسف قمت بجرد تاريخي غاية في الاهمية, و طرحت موضوع السلام و هنا بيت القصيد سيدي الكريم.من يطرح ملف السلام هو من محبي السلام لان التاريخ العربي و مناوشته مع بني صهيون اظهر, مما لايدع الشك ان العالم العربي لم و لن يكون قادرا على تجاوز الالة العسكرية الجهنمية الاسرائيلية و الامريكية.ليس هادا خنوعا او ضعفا فقط موازين القوة تبقى الحكم.انا مع السلام لكن اين هم ساستنا للقيام بدالك.لازال الصراع العربي العربي عقبة اما اي فرصة للسلام و تلك من مزايا الساسية الاسرائيلية للمزيد من التغلغل في الجسم العربي.اختتم دون الاطالة عليكم سيدي.ان غزوة غزة كانت بغطاء فلسطيني عربي.الغطاء الاول غرضه كسر شوكة حماس من اجل ان تسيطر فتح على الساحة الفلسطينية.الغطاء التاني ان العرب يجدون انفسهم محرجون من الانتقادات الموجهة لهم من طرف حماس لتكالبهم و تقاعسهم, من تحت العمامة الشيعية الايرانية.اخطبوط و عدو كل السياسيين العرب.