السياسة الفرنسية تجاه العرب من ديجول إلى ساركوزي
الملاحظ أن هذه الدورة شهدت اهتماما استثنائيا ليس فقط من قبل الفرنسيين، الذين كانت نسبة مشاركتهم في هذه الحملة قد تجاوزت ما حدث بالدورات الانتخابية الرئاسية في العقدين الماضيين، بل أيضا على المستوى العالمي، وبضمنه الوطن العربي.
كان الفرنسيون قد بدوا منقسمين، بشكل يكاد يكون متكافئا حول المرشحين الرئيسيين: رويال وساركوزي، وكان لكل طرف من المؤيدين لأحد الفريقين أسبابه الموضوعية والخاصة. فالذين صوتوا لصالح رويال، كانوا يطمحون في مزيد من العدالة الاجتماعية… زيادة في الضرائب على الأغنياء، ومزيد من الخدمات الصحية والتعليمية، وتحسين أداء الضمان الاجتماعي، حتى وإن كان ثمن ذلك ارتفاعاً لمستوى التضخم الاقتصادي، الذي ينوء بثقله على الفرنسيين.
أما الطرف الآخر، فكان يركز على الحفاظ على الهوية الفرنسية.. ومع أن التعبير فضفاض وقابل لتآويل كثيرة، لكن واحداً من متضمناته هو الحد من هجرة الأجانب للبلاد. إن هؤلاء الأجانب هم في الغالب من المستعمرات الفرنسية السابقة، وبشكل خاص من الشمال الإفريقي، من الذين يعانون من الجوع والبطالة في بلدانهم، يأتون إلى فرنسا بحثا عن لقمة العيش. وقد تجاوز تعدادهم سبعة ملايين مهاجر، كما تشير بعض الإحصائيات. ومن وجهة نظر ساركوزي يشكل تزايد أعداد هؤلاء المهاجرين عبئا على الاقتصاد الفرنسي، ويهدد السلم الاجتماعي، ويسهل نشوء مجموعات إرهابية متطرفة على الأراضي الفرنسية، ترتبط بتنظيم القاعدة. وهكذا تمحور البرنامج الانتخابي في الحفاظ على الهوية والحرب على الإرهاب. وهما شعاران يجدان أصداء إيجابية لدى الحكومات واليمين المحافظ في الغرب، وبخاصة حكومة الرئيس الأمريكي جورج بوش.
ولعل البرنامجين الانتخابيين المعلنين، إضافة إلى المعرفة بالسجل الشخصي لكلا المرشحين، رويال وساركوزي، هما اللذان جعلا من هذه الحملة حدثا انتخابيا عالميا استثنائيا.
وبالنسبة لنا نحن العرب فإن النتيجة لها دون شك تأثير مباشر، على المصالح والعلاقات العربية الفرنسية. فرغم أن رويال لم يكن متوقعاً منها أن تكون إلى جانب العرب في صراعهم مع الكيان الصهيوني من أجل نيل حقوقهم، ولا أن تقف مع المصالح العربية، لكنها في أطروحاتها الانتخابية بدت متوازنة وواضحة. أما بالنسبة لبرنامج ساركوزي، فيما يتعلق بحقوق المهاجرين، الذين يشكل العرب من شمال إفريقيا نسبة كبيرة منهم. بدا شعار الهوية الفرنسية، بالطريقة التي طرح فيها، عنصريا وعدائيا للعرب، وجاء الحديث عن الحرب على الإرهاب، ليضيف إلى نبرة التعصب والعنصرية مسحات خاصة، بدت للكثير من المراقبين، موجهة ضد العرب. وقد ساعد على ذلك، دون جدال، تكرار ساركوزي تأييده للسياسة التي ينتهجها جورج بوش، وإعلانه عن تحيزه الفاضح للكيان العبري الغاصب.
على أن هذه النتيجة ينبغي، في الأحوال الطبيعية بالنسبة لنا نحن العرب ألا تكون خاتمة المطاف. فالعلاقات بين العرب والحكومات الفرنسية كانت دائما بين مد وجزر، وشد وجذب، ولم تشهد استقرارا دائما. وكانت حقبة الهيمنة الاستعمارية الفرنسية على أجزاء كبيرة من الوطن العربي تلقي بظلال كثيفة على هذه العلاقات.
كان الموقف الفرنسي من القضايا العربية، الذي بدا متوازنا أحيانا، وعادلا في أحيان أخرى هو حاصل تراكم تاريخي، ومؤثرات نفسية، وصراع على المصالح بين الغربيين أنفسهم.
وكان لتركة الحرب العالمية الثانية، والطريقة التي أديرت فيها تلك الحرب دور رئيسي في تقرير طبيعة المواقف الفرنسية خلال الستين عاما المنصرمة، التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية.
لقد وقعت فرنسا، خلال الحرب العالمية الثانية، فريسة للغزو النازي. ومن قلب المستعمرات الفرنسية تشكل الجيش الفرنسي المقاوم للغزو بقيادة الجنرال شارل ديجول. لكن الحلفاء، الذين احتضنوا مقاومته واعتبروها الممثل الشرعي “لفرنسا الحرة العظيمة” وبخاصة الرئيس الأمريكي، روزفلت لم يعاملوا قائد المقاومة بتكافؤ وندية، بل نظروا له كتابع صغير وملحق للقوى المناهضة للنازية والفاشية. ولذلك لم يكن تمثيل بلاده كاملا بالمفاوضات التي جرت بين الحلفاء لتقاسم مناطق النفوذ فيما بعد الحرب، بين الأمريكيين والبريطانيين وروسيا السوفييتية.
وتوضح مذكرات الجنرال ديجول، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل كثيراً من المعاناة وحالات التأزم التي كان يعاني منها الجنرال أثناء الحرب، وعن امتعاضه من طريقة التعامل الأمريكي مع مقاومته للألمان، وكان تشرشل يلعب دوراً وسيطا وتصحيحيا للعلاقة بين الإدارة الأمريكية والجنرال المقاوم.
إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، حصلت بلدان المشرق العربي، التي كانت تحت الهيمنة الفرنسية على الاستقلال. وبدا المنطق الأمريكي في إزاحة الاستعمار الفرنسي عن المشرق العربي واضحا. وكان موقف الرئيس الأمريكي إدوايت أيزنهاور في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، قد كشف بوضوح وجلاء عن منطق الإزاحة الأمريكي الجديد، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية تخليها عن حلفائها الفرنسيين والبريطانيين والصهاينة أمام الإنذار السوفييتي.
وكانت تلك البدايات قد حكمت الموقف الديجولي، فيما بعد، ودفعت به إلى انتهاج خط مستقل عن السياسة الأمريكية، والتأكيد على استقلالية الموقف الفرنسي… برز ذلك الموقف بوضوح حين عارض ديجول انضمام بريطانيا للسوق الأوروبية باعتبارها حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة، وفرض فيتو على ذلك استمر أكثر من عقد من الزمن. وبرز أيضا بوضوح أثناء العدوان الصهيوني على الأمة العربية في الخامس من يونيو عام 1967، حين أدان الغزو الإسرائيلي لسيناء والضفة الغربية والقدس ومرتفعات الجولان وطالب بانسحاب القوات الغازية عن الأراضي العربية.
قوبل الموقف الفرنسي الرسمي بارتياح من عدد من حكومات الدول العربية، وتوسعت دائرة العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع فرنسا. وتضاعفت المشتريات العربية من صفقات السلاح، وطائرات الميراج، والمعدات الثقيلة والصناعات الاستهلاكية.
وأصبح واضحا، بروز نموذج جديد في السياسة الفرنسية. تحولت الديجولية إلى حزب فرنسي محافظ يهتم بالمصالح الفرنسية أولا، وينتهج سياسات متوازنة، من القضايا الدولية، لا تتطابق في كثير من الأحيان مع السياسات الغربية. وهكذا ظهر فوز اليمين في الغالب، باستثناء الإنتخابات الأخيرة، وكأنه يصب في صالح الأمة العربية، لأنه يعزز النهج الفرنسي المستقل. وفي المقابل، كان نجاح الاشتراكيين الفرنسيين ووصولهم إلى الحكم يعني مزيدا من التحيز لصالح الكيان الصهيوني، ومواقف عدائية تجاه الأمة العربية. لكن ذلك لم يكن قانونا عاما ومستمرا على أية حال. فحين يكون هناك وعي عربي وإرادة وقدرة على الفعل، فإن بالإمكان تصحيح المعادلة لصالح الأمة، أما حين يكون هناك تفريط وتنازل عن الحقوق، فإنه من غير المتوقع أن يكون الآخرون أكثر حرصا منا على الحفاظ على مصالحنا.
في هذا الصدد، يذكر أن الرئيس الفرنسي ميتران كانت له سياسة متوازنة مؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة… لكن هذا التأييد لم يكن مفتوحا. فحين بدأت منظمة التحرير الفلسطينية تقديم تنازلاتها للإدارة الأمريكية، وقام الرئيس الفلسطيني الراحل عرفات بزيارة للعاصمة الفرنسية، باريس واستقبله الرئيس ميتران، اختلى به وزير الخارجية الفرنسي، رولان دوما واقترح عليه أن يقدم تنازلا، يدعم به موقف ميتران أمام الذين ينتقدون سياسته المؤيدة للفلسطينيين. كانت الإشارة واضحة.. لقد قدمت القيادة الفلسطينية تنازلات كثيرة لوزير الخارجية الأمريكي، جورج شولتز، ومن حق الإدارة الفرنسية، التي تتبنى تأييد القضية الفلسطينية، أن تنال شيئا من عرفات. وفي هذا الاتجاه اقترح الوزير الفرنسي أن يعلن الرئيس الفلسطيني تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن مواد الميثاق الوطني الفلسطيني التي تختص بإسرائيل، وتنص على عدم الاعتراف بها وتطالب بتدميرها.. وكانت الاستجابة سريعة جدا، فأمام الصحفيين الذين ينتظرون خارج مكتب وزير الخارجية أعلن عرفات بالفرنسية أن الميثاق الوطني أصبح ملغى.
القاعدة العامة إذاً هي أن تحافظ الحكومات الفرنسية، على اختلاف توجهاتها السياسية على مصالحها الخاصة، وألا تنتهج سياسات خاطئة تحدث خللا في ميزان المداخيل والمدفوعات، وبالتالي تؤثر على ميزان الدخل القومي. وهكذا فلا لوم أو عتب على الحكومات الغربية، طالما بقيت تصرفاتنا خارج دائرة الوعي والإرادة والقدرة على الفعل. ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم…
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة youssef)
Bonjour Dr Mekki,
encore une fois merci pour la qualité d’analyse. j’ai suivi avec attention les elections française, et je partage tout a fait votre vision des choses.
je tiens à vous rassurer que votre site est toujours visiter même au Maroc.
je vous souhaite bonne chance.
youssef
* تعليق #2 (ارسل بواسطة دريس المغربي)
شكرا جزيلا على هدا التحليل القيم الى انه لم يتم التطرق ال السياسة اليي تنهجها فرنسا الحالية تجاه المهاجرين الاجانب و بالخصوص المستعمرات السابقة بشمال افريقيا.