السياسة الأمريكية ومكوك كولومبيا

0 241

لا جدال في أن النتيجة التي انتهى إليها مكوك الفضاء، كولومبيا بعد التاسعة صباحا يوم السبت، بتوقيت العاصمة الأمريكية واشنطن، في الدقائق الأخيرة المتوقع فيها هبوطه على الأرض كانت مؤسفة ومحزنة. فالرحلة المؤهولة بسبعة رواد فضاء، والتي استغرقت ستة عشر يوما من البحث العلمي والعمل المضني، والمفترض أن تتكلل بالنجاح، انتهت بتفجر المكوك أثناء دخوله الغلاف الجوي للكرة الأرضية. وتشير التقارير الأولية إلى أن عطبا ما قد حدث في الجناح الأيسر بالمكوك أدى إلى ارتطامه بجسده، وإلى تفجره وتناثره وتناثر أشلاء الضحايا من الرواد السبعة الذين كانوا بداخله. لقد صلى أهالي الضحايا وصلى معهم الأمريكيون والكثير من البشر، ورفعوا أيديهم بالدعاء، في تلك الساعات الحرجة من أجل سلامة الرواد، ولكن حكمة الله قضت أن تنتهي الرحلة إلى ما انتهت إليه.

 

وقد قطع الرئيس الأمريكي إجازته التي كان يقضيها في منتجعه الريفي مع رئيس الوزراء البريطاني، لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع العدوان على العراق، ليوجه كلمة عزاء إلى الشعب الأمريكي وإلى عوائل ضحايا المكوك، معلنا تعاطفه مع أسر الضحايا، وحزنه على المفقودين، وتصميم بلاده على مواصلة غزو الفضاء، خدمة للعلم والبشرية.

 

وتشكل نتيجة هذا الحادث ضربة قوية لمشروع الفضاء الأمريكي، بعد الضربة الموجعة التي تلقاها عام 1986 إثر تفجر مكوك الفضاء شالنجر، وعلى متنه مجموعة أخرى من رواد الفضاء، وكان في الدقائق الأولى لانطلاقه من القاعدة، حيث لا زال الجمهور المودع للرحلة من أهالي الرواد وأصدقائهم في مقاعدهم.

 

وما يهمنا في هذا الحدث ليس جوانبه الفنية، فتلك مسألة من اختصاص العلماء والباحثين المعنيين، ولكن علاقة الرحلة والنتائج التي انتهت إليها بالسياسة الأمريكية وتداعياتها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في نيويورك وواشنطون. وفي هذا الصدد سنركز على ثلاثة محاور رئيسية جميعها تحمل دلالات مباشرة على التداعيات السياسية وطريقة صنع القرار الأمريكي.

 

المحور الأول، أن الكارثة وقعت في وقت تنوء فيه الإدارة الأمريكية بجملة من المشاكل الإقتصادية، حيث تسود البلاد حالة كساد وركود لم تشهدهما منذ أكثر منذ عدة عقود. وتقدر تكلفة المكوك، كولومبينا ببليوني دولار، ناهيك عن الخسائر الأخرى ذات العلاقة. وسوف تؤثر هذه الحادثة بشكل حاد على برنامج الفضاء، حيث لم يتبق لدى وكالة الفضاء سوى ثلاثة من المكوك. إضافة إلى أنه سوف يصبح من المتعذر الآن استكمال البرامج المعدة سلفا للفضاء في أوقاتها المحددة، قبل انتهاء نتائج التحقيق ومعرفة الأسباب الحقيقية لتحطم المكوك، وصدور التوصيات المترتبة على ذلك واللازمة للعمل بموجبها مستقبلا. ولعل من المفيد في هذا الصدد إلى أن حادثة تحطم المكوك شالينجر قد أدت إلى تعطل رحلات استكشاف الفضاء المأهولة ثلاث سنوات. وإذا ما جرى القياس على ذلك، فليس من المتوقع أن تواصل الولايات المتحدة الأمريكية هذا النوع من الرحلات في وقت قريب. ولا شك أن ذلك سوف يؤثر على الثقل السياسي للولايات المتحدة التي تتربع على عرش الهيمنة على العالم، خاصة وأن هناك تنافسا روسيا وصينيا وهنديا آخذا بالتزايد على غزو الفضاء.

 

المحور الثاني، ويتعلق برواد الفضاء أنفسهم الذين اختيروا للمشاركة في الرحلة وقيادة المكوك، كولومبيا. ومن الواضح أن اختيارهم قد تم بناء على حسابات علمية وسياسية دقيقة من وجهة نظر صانع القرار. فغالبية الرواد جنود من ذوي الرتب والكفاءات والدرجات العلمية العالية. وكان اللافت للنظر وجود ضابط طيران عسكري إسرائيلي بينهم هو الان رومان البالغ من العمر 48 عاما. وهو ضابط بدرجة كولونيل ينحدر من عائلة هاجرت إلى فلسطين المحتلة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد شارك في القتال بحرب تشرين الأول، أكتوبر عام 1973 على الجبهتين المصرية والسورية, كما كان واحد من ستة عشر طيار، كلفوا في عام 1981 من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن بقصف مفاعل تموز النووي، الذي لم يستكمل بناؤه، في العاصمة العراقية بغداد. ولا شك أن هذا الإختيار، وفي هذه المرحلة بالذات، يعكس عمق العلاقة الإستراتيجية بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، التي ارتقت إلى درجة غير مسبوقة في عهد إدارتي الرئيس الأمريكي، جورج بوش ورئيس وزراء الكيان الصهيوني، أرييل شارون.

 

الجانب الآخر اللافت للنظر، في هذا المحور، هو اختيار سيدة من أصول هندية، هي كالبانا شاولا البالغة من العمر 41 عاما والتي هاجرت من الهند إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1981. ويعكس اختيار هذه السيدة، تغيرا في النظرة الأمريكية إلى العلاقة مع جمهورية الهند، انتقلت بموجبها الأخيرة من دولة صديقة وحليفة للاتحاد السوفياتي، إلى دولة صديقة لأمريكا وحليفة لها في حربها المعلنة على الإرهاب. والمعروف أن العلاقات الأمريكية الهندية قد شهدت تطورا واسعا وملحوظا إثر أحداث سبتمبر عام 2001. ويحسب للحكومة الهندية استثمارها للتطورات السياسية العالمية التي أعقبت هذا الحدث، وتجييرها لها في خدمة مواجهة الحركات الإسلامية التي تطالب باستقلال كشمير، والتي كانت تحظى بتأييد كبير من قبل جمهمورية باكستان. لقد كانت الحرب التي شنتها الإدارة الأمريكية على أفغانستان، وإخضاعها حكومة الجنرال برويز مشرف لسياساتها واستراتيجياتها في المنطقة فرصة ثمينة استثمرتها الحكومة الهندية أفضل استثمار، مؤدية إلى تحسن مستمر في العلاقة بين الدولتين.

 

ولذلك لم يكن مستغربا أن كلا من الهند والكيان الصهيوني قد اعتبرا تفجر المكوك، خسارة وطنية بالنسبة لهما، وأعلنت الحكومتان الحداد وأمرتا بتنكيس الأعلام في الدوائر والممثليات الرسمية. وقد أعلن رئيس الوزراء الصهيوني، أرييل شارون استمرار التعاون بين حكومته والولايات المتحدة الأمريكية في مجال الفضاء، مؤكدا أن الكارثة التي حدثت لن تغير من تصميم البلدين على استمرار التعاون مستقبلا في مجال غزو الفضاء.

 

المحور الثالث، ويتعلق بالكارثة ذاتها.. فحوادث الفضاء والطيران، والكوارث العلمية الأخرى، تعني أن رحلة البحث عن الكمال العلمي لا زالت في بداياتها، وأن الإنتصارات التي حققتها البشرية، في مختلف الأصعدة، لم تكتسب، ولن تكتسب مستقبلا صفة الإطلاق. لقد استطاعت همم العلماء وجلدهم أن تحقق الكثير من الإنجازات، ولكن نسبة الخطر تبقى رغم ضآلتها، قائمة باستمرار. ففي روسيا كانت هناك كوارث فضاء، وفي الولايات المتحدة مرت تجارب غزو الفضاء بلحظات قاسية ومريرة وبكوارث عديدة. ناهيك عن تسرب الإشعاعات النووية في روسيا واليابان وأمريكا، وناهيك أيضا عن سقوط الطائرات وانحراف القاطرات والكوارث الأخرى التي تحدث في مختلف المجالات.

 

وإذا كان الأمر كذلك، في أمور يتم حسابها بأقصى الدقة من قبل أفضل ما هو متوفر من قدرات علمية، وبواسطة أدق الأجهزة، فما بال الحروب، التي تقذف فيها قنابل الموت والدمار.. والتي يطلق عليها من باب الوجاهة والتفخيم تارة بالقنابل الذكية، وأحيانا بالقنابل السجادية.. وهي قنابل قصد منها أن تحصد أرواح المئات.. بل الألوف من الأبرياء جنودا ومدنيين.

 

ولعل في وقوع كارثة مكوك كولومبيا أثناء وجود رئيس الوزراء البريطاني، طوني بلير في محادثات مع الرئيس الأمريكي، جورج بوش لوضع اللمسات الأخيرة على خارطة العدوان على الشعب العراقي، عبرة لمن يعتبر. آملين من القلب أن تجعلهما يعيدان النظر في نواياهما المبيتة بحق الأمة العربية، فالذين ينوون نحرهم هم أهلنا في العراق، وهم أيضا بشر، حتى وإن كانوا من شعوب العالم الثالث المغلوب على أمره… حتى وإن كانوا من طينة أخرى، أقل قيمة ومعنى، من وجهة نظر العنصرية الغربية. إن لهؤلاء عوائل وأهل يبكونهم ويحزنون على مصيرهم، وهم في ذلك لا يختلفون أبدا عن أهالي وضحايا المكوك كولومبيا. والمشاعر وحب الخير والسعي نحو العلم هي في مجموعها إنسانية وكل لا يتجزأ. وإذا كنا نشاطر أسر الضحايا حزنهم ونتفهم لمشاعرهم، فإننا نرى في هذه المناسبة فرصة لندعو الجميع لاغتنامها لإعادة النظر في منهجهم العدواني تجاه أمتنا. وأن يتخذوا موفقا متوازنا من مختلف قضايانا القومية والوطنية وتطلعاتنا وتوقنا المشروع. وأن تكون العلاقة بيننا علاقة تبادل وتكافؤ ومساواة، وليست علاقة سيد بمسود، قبل أن يكون الوقت متأخرا على الطوفان.

 

وقديما قيل إن دموع الحزن تطهر النفس وتندي القلب وتجعل المشاعر أكثر إرهافا، فهل لنا أن نأمل بعلاج للنفس والقلب والمشاعر.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

تاريخ الماده:- 2003-02-05

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

19 − خمسة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي