السياسة الأمريكية في عهد بايدن
إثر الإعلان عن فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن بالمقعد الرئاسي، نشرنا مقالة في هذه الصحيفة، حملت عنوان أمريكا ما بعد ترامب، تناولت قراءة استشرافية، لما ستكون عليه السياسة الأمريكية، بعد تسلم الرئيس الجديد موقعه في البيت الأبيض. والآن تكشفت أمور كثيرة، بعد إعلان بايدن عن تسمية الفريق الذي سيساعده في إدارة شؤون الحكم. وبات بالإمكان تحديد هذه السياسة بدقة أكثر، رغم أنها لم تخرج كثيرا عن التوقعات التي أشرنا لها في حديثنا السابق.
ورغم التسليم بأن جوهر السياسة للإدارات الأمريكية المتعاقبة في العصر الحديث ثابت، يختزل في الدفاع عن المصالح الأمريكية، وموقع أمريكا، كقوة عالمية عظمى. وفي سبيل تأمين ذلك، فإن كل الوسائل مشروعة، من وجهة نظر هذه الإدارات، بما في ذلك القسر والإرهاب والحرب. لكن الأداء والاستراتيجيات والتكتيكات التي يمارسها الرؤساء، مختلفة من رئيس لآخر، عاكسة موقف الحزبين الرئيسيين اللذين يتناوبان على الحكم في الولايات المتحدة، الديمقراطي والجمهوري.
فبالإضافة إلى الاختلاف الكبير، في المسألة الاقتصادية بين الحزبين، والتي تعبر عن اقتصاد موجه عند الديمقراطيين، واقتصاد منفلت حر لدى الجمهوريين، بما يعني التناوب بين التخضم والانكماش، وبين حضور دولة الرفاه وغيابها، هناك أيضا فروقات شاسعة في السياسة الخارجية، لا تعكسها سياسة الحزبين فقط، بل وأيضا شخصية الرئيس، وطاقم العمل المحيط به.
السياسيات الاقتصادية الداخلية، لها تأثير كبير، على السياسة الخارجية. فتوجيه خزينة الحكومة الفيدرالية، نحو معالجة القضايا الداخلية، يقتضي تقليص مصاريف الدفاع، وسباق التسلح. وهو ما يعني السعي للاتفاق مع روسيا الاتحادية، من أجل تعضيد الاتفاقيات السابقة، لوقف سباق التسلح، وبشكل خاص في المجال النووي. وسوف يعكس ذلك ذاته، على الموقف من الأزمات الدولية الأخرى المستعصية. وفي اعتماد الحروب بالوكالة بديلا عن الحروب المباشرة. لكن ذلك لا يعني غياب الاستثناءات. ذلك أن الدستور الأمريكي، ينيط بالرئيس مهمة حماية الأمن القومي لبلاده. وأن ذلك قد يقتضي شن حروب استباقية، إذا ما وجد تهديد ماثل للمصالح الأمريكية.
وفي هذا السياق، نشير إلى أن أطول حرب خاضتها أمريكا، هي حرب فيتنام، وقد اتسعت لتشمل كمبوديا ولاوس. وكانت بداياتها في عهد الرئيس “الديمقراطي” جون كنيدي، حيث أرسل قرابة خمسة آلاف عسكري لحكومة سايجون في فيتنام الجنوبية، لدعم حكومة ديام. وتوسعت دائرة الحرب إثر اغتياله وتسلم نائبه ليندون جونسون الرئاسة حيث تجاوز تعداد القوات الأمريكية 500 ألف مقاتل. وخسرت أمريكا في تلك الحرب أكثر من خمسين ألف جندي ومئات الألاف من الجرحى. وانتهت الحرب بعد مفاوضات شاقة، في عهد الرئيس “الجمهوري” ريشارد نيكسون. لكن لكل قاعدة استثناء,
سيقدم بايدن إلى إعادة الروح للإتفاق النوي مع طهران، بتعديلات طفيفة. وهو أمر تعمل “إسرائيل” على إعاقته بجر إيران إلى حرب استباقية، تفرض على الرئيس الأمريكي، إعادة النظر في سياسته تجاه الملف الإيراني. وربما تتيح قراءتنا هذه تفسير سبب اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده داخل الأراضي الإيرانية, فهذا الاغتيال من وجهة نظر كثير من المحللين يأتي ضمن محاولات “إسرائيل” المستمرة، لدفع إيران للدخول في حرب، بعد أن عجزت حكومة نتنياهو لأكثر من عقد في إقناع الإدارة الأمريكية، في شن حرب تنتهي، بتدمير المؤسسات النووية الإيرانية.
في هذا المضمار، لا يتوقع أن تغامر طهران، بالقيام بأي عملية انتقامية مباشرة، تؤدي إلى تحطيم حلمها في التوصل إلى تسوية مع إدارة بايدن، من شأنها رفع الحصار الاقتصادي الصارم الذي تواصل طيلة عهد الرئيس ترامب. لكن ذلك لا يعني أن عملية الاغتيال ستمر من غير محاسبة.
سيعيد بايدن للسياسة الأمريكية دورها التقليدي وألقها، الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وستطوى صفحات العزلة التي مارسها الرئيس ترامب، وبشكل خاص مع الحلفاء في القارة الأوروبية، ومع اليابان والصين. وستنتهي سياسة الابتزاز الاقتصادي والتلويح المستمر، برفع غطاء الحماية لأوروبا الغربية، من احتمالات توجيه ضربة نووية، من قبل روسيا.
العلاقة مع الوطن العربي، ستكون محفوفة بالشكوك، خاصة حين نتذكر سجل إدارة باراك أوباما، التي كان بايدن شريكا فيها، في إشعال عواصف الغضب التي عرفت بالربيع العربي، تحت ذريعة نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. وهو أمر ينبغي أن نضعه في الحسبان، ونأخذه بجدية، لما له من تأثير مباشر على سلامة الأمن الوطني والقومي لأمتنا العربية.
وتبقى قضايا أخرى شائكة ومهمة في هذا الموضوع، بحاجة إلى المزيد من القراءة والتحليل.