السياسة الأمريكية في حقبة أوباما

157

بدأت مفردات للسياسة الأمريكية الجديدة، لحقبة الرئيس أوباما، تتوالى مفصحة عن ذاتها، منذ حملة التنافس على كرسي الرئاسة. وقد غدت جاهزة للتنفيذ، والسامر لما يزل في قمة جذله ومهرجانه، واحتفالات التنصيب تهيمن على شاشات التلفزة العالمية. قراءة مفردات هذه السياسة، إن على صعيد الداخل أو الخارج، هي عملية مضنية، لكنها جوهرية وملحة للعالم أجمع.

 

فتركة سلفه الرئيس بوش، في الاقتصاد والسياسة وعسكرة المجتمع الدولي، لما تزل تطبق بكامل ثقلها وجبروتها، على زوايا الكرة الأرضية بأسرها، لتضيف ألما وجوعا وقتامة، ولتطيل ليالي عذابات البشر، ولتضاعف من معاناة وأعداد الجياع والمسحوقين. وفي الصور الكالحة والكئيبة التي رسمتها سياسات بوش، وفوضاه الخلاقة، التي استمرت في تجريدنا من إنسانيتنا، حتى بعد أفوله، كان لنا نحن العرب والمسلمين، حصة الأسد. وقد تركت ندوبا غائرة في كل ركن من أركان الوطن العربي، حبست أنفاسنا وسنت مراسم و”قوانين” ولوائح تعد أنفاسنا، وتحاسبنا حتى على الدعوات والصلوات، وكان استهدافها واضحا حيث لم يعد المطلوب سرقة ثرواتنا فحسب، بل هويتنا وكياناتنا ومستقبلنا. وقرن القول بالفعل، فاحتلت أفغانستان، ومزق العراق بعد احتلاله، وشد السفاح رحاله بعد مجزرة رهيبة بحق أهلنا في غزة، شملت في غالبها الأطفال والنساء والعجزة. فلعل في القراءة لسياسة الخلف بعض العزاء، وبعض الأمل بمداواة الجروح التي خلفها السلف.

 

الملفات التي تخصنا في هذا السياق، كثيرة، في مقدمتها السياسات الاقتصادية التي سينتهجها الرئيس الجديد، وكذلك الموقف من القضية الفلسطينية، واحتلال العراق وأفغانستان، وأمن الخليج العربي، والأمل في انتهاج سياسة أقل عدوانية، تحترم سيادة واستقلال الأمم، وتتعامل معها بتكافؤ وندية، وتنأى عن التدخل في شؤونها الداخلية، وتعيد للقوانين والمبادئ الدولية، وميثاق هيئة الأمم المتحدة ألقها واعتبارها.

 

ولكي تكون القراءة، لموقف صانع القرار الأمريكي مكتملة وصحيحة، فإن عليها أن تطل على عدة محاور، لعل أهمها وعي الظروف والقوى الاجتماعية التي حرضت أوباما على خوض الانتخابات، والتي قدمت له الدعم للوصول إلى الموقع الرئاسي. كما تقتضي وعي خريطة التحالفات بالحزب الديموقراطي، وكيف تشكلت هذه الخارطة، وطبيعة المساومات التي أدت إلى صياغتها بشكلها النهائي، ودور الطاقم القديم- الجديد في رسم معالم السياسة الأوبامية. وأخيرا وليس آخرا، قراءة النصوص، والتلميحات التي حملتها خطابات أوباما، وبشكل خاص تلك التي قيلت بعد إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية، كونها لم تعد بحاجة للخضوع، بشكل كبير، لمنطق التنافس والتحريض والدعاية.

 

سيتطلب منا ذلك تكريسا خاصا، لأحاديث عديدة، في الأسابيع القادمة، نتناول خلالها مختلف محاور سياسة، الرئيس، أوباما بعمق وروية. وفي البداية دعونا نمسك بتلابيب نصوص خطاباته، فالمرء في العادة يحاسب على أقواله، ويؤخذ بأفعاله.

 

في خطابه التاريخي الذي ألقاه بمقر الكونجرس الأمريكي، “الكابيتول هيل” أثناء حفل تنصيبه، أكد الرئيس أوباما أن بلاده تعيش في خضم أزمة حادة، وأنها تعاني من العنف والحقد. وأشار إلى أن اقتصاد أمريكا أصبح ضعيفا نتيجة للجشع وعدم المسؤولية من قبل البعض، وأن ذلك يرجع أيضا إلى الإخفاقات الجماعية في تبني الخيارات الصعبة، وإعداد الأمة للحقبة الجديدة. وأوضح بمرارة أن الناس فقدوا منازلهم وألغيت وظائفهم، وأن كثيرا من الشركات أفلست وجرى إغلاقها، وقد أصبح النظام الصحي مكلفا جدا، كما شهدت المدارس إخفاقات كثيرة، وأن الطريقة التي يتم بها استهلاك الطاقة تقوي خصوم البلاد، وتهدد الكوكب الأرضي.

 

والأهم من كل ذلك، في حديث أوباما هو إشارته إلى تشكك كثير من الناس في قدرة الولايات المتحدة على عبور هذه المصاعب، والخشية من التقهقر، الذي لا مفر منه، وإيضاح أن الجيل القادم عليه أن يخفف من تطلعاته. إن التحديات التي تواجهها أمريكا، هي تحديات فعلية وخطرة وكثيرة، لن يتم التغلب عليها بسهولة، أو خلال فترة قصيرة.

 

وللتغلب على هذا الواقع، يقترح أوباما التخلي عن الوعود الخاطئة، والعقيدة البالية التي خنقت السياسة في بلاده لفترة طويلة جدا. ويدعو إلى أن توضع الأمور والسلوكيات الطفولية والمغامرة جانبا، وإعادة تأكيد الروح المبدعة التي تناقلها الأمريكيون من جيل إلى جيل. لكن هذه الروح ليست، حسب تعبير أوباما، هبة تمنح بل تؤخذ بجدارة. وهي ليست طريق الذين يسعون إلى ملذات الثراء، بل طريق المخاطرين، من النساء والرجال المغمورين، وأصحاب الأفعال الإيجابية الذين كافحوا مرارا وتكرارا، حتى تشققت أيديهم لكي تكتسب الأمة حياة أفضل، والذين كانت أمريكا بالنسبة لهم أكبر من طموحاتهم الشخصية وأعظم من اختلافاتهم في الأصول والثروة والانتماء.

 

والهدف الرئيس والملح، هو معالجة الوضع الاقتصادي، وذلك بالتحرك بسرعة وجرأة ليس فقط لإيجاد وظائف جديدة، ولكن أيضا لإرساء أسس جديدة للنمو، وبناء الطرقات والجسور وشبكات الكهرباء والخطوط الرقمية التي تدعم الاقتصاد. وفي هذا السياق، أكد أوباما على إعادة الاعتبار لمكانة العلوم ولتعزيز التكنولوجيا، وتحسين نوعية الرعاية الصحية وخفض كلفتها. وتعرض لاستهلاك الطاقة، فأشار إلى عزمه على صياغة برنامج يمكن من استغلال الشمس والرياح والأرض لمد السيارات بالوقود ولتشغيل المصانع. وأن من يدير الأموال العامة سيحاسب وعليه الإنفاق بطريقة حكيمة وأن يغير من العادات السيئة.

 

لكنه من جهة أخرى، أوضح أن حرية السوق هي قوة خير، من حيث قدرتها على تحقيق الثروة، وتوسيع نطاق الحريات، إلا أنها تخرج عن السيطرة، حين تنعدم المراقبة، وتؤدي فقط إلى دعم الأثرياء، في حين أن نجاح الاقتصاد لا يعتمد فقط على حجم إجمالي الناتج المحلي بل على مدى الازدهار والقدرة على توسيع الفرص لكل شخص.

 

أما فيما يتعلق بالسياسة الدفاعية، فقد أوضح أوباما أن الخيار ليس بين المثل العليا وتغليب مصالح الأمن القومي الأمريكي، إذ لا بد من الرجوع إلى حكم القانون وحقوق الإنسان، فتلك المثل هي منارة العالم، ولا يمكن التخلي عنها. وخاطب العالم قائلا إن أمريكا دولة صديقة لكل أمة ولكل امرأة ورجل وطفل يسعى إلى مستقبل سلام وكرامة، وإن بلاده مستعدة لتولي القيادة مجددا.

 

وفي إشارة واضحة لرفضه لسياسات سلفه الرئيس بوش أوضح أن الأجيال السابقة واجهت الشيوعية والفاشية ليس بالصواريخ والدبابات،بل بقوة الأفكار. إن القوة وحدها لا تحقق الحماية، ولا تسمح بالقيام بما يحلو لمستخدميها… إن القوة الحقيقية تكمن في عدالة القضية ومتانة القدوة، والتواضع وضبط النفس.

 

وفيما يتعلق بالاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، أوضح أن إدارته ستترك العراق لأهله بطريقة مسؤولة، وسوف تسعى إلى سلام في أفغانستان. وفي مجال العلاقات مع الأمم الأخرى، ستعتمد بلاده لغة التعاون والتفاهم، مع الأصدقاء والخصوم. ووعد بأنه سوف يعمل بلا كلل لخفض مخاطر التهديد النووي وللتصدي لشبح الاحتباس الحراري. لكنه في ذات الوقت، أوضح أنه لن يتوانى في الدفاع عن طريقة عيش الأمريكيين، وأن أمريكا ستضطلع بدورها في إحلال حقبة جديدة من السلام.

 

وخاطب العالم الإسلامي، قائلا إن إدارته تسعى إلى طريق جديد إلى الأمام يعتمد على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. وعلى قادة العالم أن يدركوا أن شعوبهم ستحكم على ما يمكنهم بناؤه وليس على ما يمكنهم تدميره. وعلى الذين يتمسكون بالسلطة من خلال الفساد والخداع أن يدركوا أنهم على الجانب الخاطئ.

 

ولشعوب الأمم الفقيرة تعهد أوباما بالعمل إلى جانبها، لكي تزدهر المزارع وتجري المياه النقية. ووعد بأن إدارته لن تسمح بعد الآن باللامبالاة بالمآسي خارج حدود البلاد، وأن الأمريكيين لا يمكنهم استهلاك موارد العالم من دون التنبه إلى انعكاسات ذلك، لأن العالم تغير وعلى الأمريكيين أن يتغيروا.

 

نحن هنا أمام خطاب جديد، يختلف بالتأكيد، عن تقسيم العالم إلى محاور خير وشر. وتغيب فيه عبارات التهديد والوعيد التي حفلت بها خطابات سلفه الرئيس بوش. هل نحن فعلا أمام تحول تاريخي كوني؟ أم إن الشيطان، كما يقال يسكن في التفاصيل. ما هي معالم السياسة الأمريكية، في عهد أوباما؟ وبشكل أكثر دقة، ما نصيبنا نحن العرب من هذه السياسة؟ وما هو مستقبل الوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان؟ وهل نطمح بموقف أمريكي عادل تجاه القضية الفلسطينية؟ وهل ستدور الماكنة الاقتصادية بشكل يجعل عالمنا أكثر بهجة ورخاء؟ هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة ستكون محور مناقشاتنا في أحاديث قادمة بإذن الله.

د.يوسف مكي