السودان بين الانتقال السياسي وصراع العسكر

2
​​​​​​​​د. يوسف مكي
دخلت الحرب الدائرة في السودان، بين القوات المسلحة وقوات التدخل السريع أسبوعها الثالث، وتسببت في مصرع ما يربو على الخمسمائة قتيل، وألاف الجرحى. ولا يبدو أي حل سياسي يلوح في الأفق حتى هذه اللحظة. باتت هذه الحرب الشغل الشاعل، لمحطات التلفزة العربية والإفريقية والعالمية، كما الشغل الشاغل، لكافة وسائل الإعلام، المرئي وغير المرئي.
الجديد هذا الأسبوع، هو النشاط الملحوظ للدبلوماسية السعودية وما نتج عنها من اقناع الفريقين المتحاربين، لفتح ممرات آمنة لاجلاء أكثر من خمسة ألاف محاصر، من غير السودانيين، حيث وصل هؤلاء بسلام، إلى قاعدة الملك فيصل البحرية بجدة، ليتم لاحقا إعادتهم إلى أوطانهم. وما عدى ذلك فإن صوت العقل والاحتكام إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى حلول سلمية للصراع، لا تزال بعيدة المنال.
طرحت عدة مبادرات من قبل منظمة الوحدة الأفريقية، ودول مجاورة أخرى، دعت إلى هدنة يتوقف فيها القتال بين الفريقين، لاثنين وسبعين ساعة، تتنفس خلالها المواطنوان المحاصرون الصعداء، وتكون مقدمة، لهدنة دائمة يحتكم خلالها المتصارعون لطاولة المفاوضات. وقد حظيت هذه المبادرات بتأييد قوي من القوى السياسية في الداخل، لكنها أمام تعنت القوات المسلحة، ذهبت أدراج الرياح.
في الأيام الأخيرة، أبدى قائد قوات التدخل السريع، حميدتي، استعدادا واضحا لقبول وقف إطلاق النار، والدخول في مفاوضات مباشرة مع الفريق البرهان، أو من ينوب عنه. لكن الأخير، يصر على استسلام قوات التدخل السريع، دون قيد أو شرط، ويرفض بشكل حاسم التفاوض مع من يصفهم بالمتمردين. وهذا الموقف ينبع من شعور قوي لدى القوات المسلحة، بتفوق آلتها العسكرية، على خصومها، وبشكل خاص امتلاكها لقوة جوية ضاربة.
كلا الفريقين يؤكدان على احترامهما لعودة الجيش إلى ثكناته، وتسليم الحكم إلى المدنيين. وهو أمر يبدوا في خانة المناورات، وكسب التأييد من جهات تصنف نفسها باعتبارها الممثل للمجتع الدولي. فقد دعم المتحاربون في السابق الانقلاب على الحكم المدني، وكانوا حريصين على استمرار امساك الجيش بمقاليد السلطة السياسية. وفي أحسن الأحوال، تنصيب حكومات مدنية موالية للعسكر، ولا تتعارض مواقفها السياسية مع أجنداتهم.
وقد تبنى هؤلاء مواقف سياسية، شكلت انتقالا استراتيجيا عما هو معهود في تاريخ السودان منذ استقلاله، مواقف تشكل خرقا للدستور، وتغييبا لارادة الشعب السوداني.
يرى قائد القوات المسلحة الفريق البرهان، أن الحل الوحيد، هو دمج قوات التدخل السريع، بالقوات المسلحة، ويشير إلى استحالة القبول بوجود جيشين في بلد واحد. وذلك أمر يجافي المنطق، ففي معظم البلدان، وعلى مستوى العالم، توجد مؤسسات عسكرية مختلفة، وليس هناك ما يضير، طالما استمر التوافق والتنسيق فيما بينما. المهم هو أنها تخضع لأوامر وتوجيهات المؤسسة السياسية، ممثلة في القائد العام للقوات المسحلة، الذي يشغل المنصب الأعلى في الدولة، بغض النظر عن شكل النظام، ملكيا أو رئاسيا أو برلمانيا. وهذا الواقع ينطبق على كثير من الدول العربية، التي تضم أكثر من جيش واحد، لكنها تحت امرة سياسية واحدة.
والحل إذن، ليس بنصرة أحد الفريقين المتحاربين، بل بوقف الحرب، وتحقيق انتقال سياسي سريع، يجري من خلاله تسليم السلطة إلى المدنيين. وحينها تقرر السلطة المدنية، المنبثقة عن إرادة شعبية، شكل وهياكل المؤسسة العسكرية، وارتباط قوات التدخل السريع بالجيش أو عدمه، بما يتسق مع الدفاع عن الأراضي السودانية، وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوعها.
الوضع في السودان الشقيق، لا يحتمل هذا الجدل البيزنطي. فقد نتج عن هذه الحرب، مصرع الاف من المدنيين، الذين ليس لهم علاقة، من بعيد أو قريب بأسباب الحرب، وخروج أكثر من ستين في المئة من القطاع الصحي عن الخدمة. وتعطلت منذ الأسبوع الثاني للحرب الخدمات الكهربائية، عن معظم أحياء العاصمة الخرطوم، وباتت الخدمات الاكترونية، والانترنيت، وما يتبعه من مواقع التواصل الاجتماعي، رفاهية، يصعب توافرها أمام الظروف الصعبة التي يعاني منها السودانيون. يضاف إلى ذلك، توقف الحياة عن العمل بشكل تام، بالعاصمة، وحصار المواطنين في مساكنهم، ومحدودوية توفر المواد الغذائية ومقابلة الاستحقاقات الأخرى للحياة.
توقف الحرب، وإعادة السلام إلى ربوع السودان الشقيق، يقتضي وقفة عربية مسؤولة، تتضامن مع حق الشعب السوداني في الأمن والاستقرار، وتكون قادرة على وقف الحرب، وتحقيق انتقال سياسي سريع، يعيد العساكر إلى ثكناتهم، ويعبر عن حق السودانيين في خياراتهم السياسية، والنهوض الاقتصادي والاجتماعي ببلدهم، وليكون وطنهم واحة للسلم والعيش الكريم.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي