الردع النووي في مواجهة سياسة الهيمنة
منذ بدايات القرن العشرين اتجه العلماء نحو فهم التركيب الأساسي للذرة، وتابعوا في الأربعة عقود الأولى من القرن أبحاثهم في هذا المجال. وبحلول عام 1938 كانوا قد توصلوا إلى أن فلق نواة اليورانيوم يسبب إطلاق طاقة كبيرة. وإثر ذلك الاكتشاف، انكب الفيزيائيون الأمريكيون على متابعة دراسة إمكانية استثمار هذا الكشف في تطوير القوة الهجومية العسكرية. وفي أغسطس عام 1939، نبه العالم الألماني المولد، البرت إينشتاين الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت إلى التطبيقات العسكرية الكامنة في الانشطار الذري. وبدأت الحرب العالمية الثانية في 3 سبتمبر عام 1939، وقد انضمت الولايات المتحدة الأمريكية لتلك الحرب في ديسمبر عام 1941. وفي عام 1942، أنشأت الحكومة الأمريكية مشروع مانهاتن لتصميم قنبلة انشطارية وصنعها. وفي 16 يوليو عام 1945 قام علماء مشروع منهاتن بقيادة الفيزيائي الأمريكي، ج. روبرت أوبنهايمرد بتفجير أول أداة نووية تجريبية في نيومكسيكو، وقد أقنعت تلك التجربة قادة الولايات المتحدة بأنه يمكن صنع الأسلحة الانشطارية. ومنذ ذلك التاريخ أصبح وجود السلاح النووي حقيقة واقعة وكابوسا ماثلا، يهدد استمرار الحياة على كوكبنا الأرضي.
وخلال الستة عقود المنصرمة، انفردت الولايات المتحدة باستخدام هذا النوع من السلاح التدميري المروع ضد اليابان، حيث ألقت بقنبلة انشطارية على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس عام 1945، وبعدها بثلاثة أيام ألقت بقنبلة أخرى على مدينة نجازاكي. ودمرت المدينتين، على نحو شبه كامل. وتجاوزت أعداد القتلى 130000، عدا الأشخاص الذين توفوا لاحقا بفعل الإصابات والإشعاعات.
لم تمض سوى سنوات قليلة، إلا والاتحاد السوفييتي يلتحق بالولايات المتحدة في مجال إنتاج الأسلحة النووية، ففي عام 1949 قام بأول تجربة تفجير نووي ناجح. ومنذ ذلك الحين أصبح قوة نووية منافسة للقوة الأمريكية. ولم يعد بإمكان أحد القطبين استخدام هذا السلاح في مواجهة بعضهما البعض. وتحول القوة النووية إلى سلاح ردع، يستحيل على أي قوة استخدامه ضد الأخرى، لأن معنى ذلك دمار القوتين المتصارعتين.
خلال الحرب الباردة، كانت أحد المعالم البارزة فيها هي نزوع القوتين الأمريكية والسوفييتية نحو سباق التسلح. كان كل منهما يسعى إلى امتلاك رؤوس نووية أكبر، وأكثر قوة تدميرية. وكان الصراع في الجانب الآخر، يتركز على إيجاد طرق إنذار مبكر، وخلق أسلحة مضادة تعترض السلاح النووي قبل وصوله إلى هدفه. كما تعتمد على سرعة المباغتة والتهرب من وسائل الإنذار. وهكذا أنشأ كل طرف ترسانة تدميرية هائلة قادرة على اقتلاع الكرة الأرضية، والقضاء على كل أنواع الحياة فيها. لكن كلا الطرفين توصل في النهاية إلى استحالة استخدام هذا النوع من السلاح في ما بينهما، وأن دوره لن يتعدى كونه قوة ردع تحول دون وقوع حرب مباشرة بين القطبين العظيمين.
التحقت بريطانيا وفرنسا والصين لاحقا بالنادي النووي. وأصبح هذا النادي حتى بداية الستينيات مقفلا على أعضاء مجلس الأمن الدائمين الخمسة. وكان ذلك قد منحهم قوة سياسية مضاعفة، إضافة إلى القوة الاقتصادية التي كانوا يمتلكونها.. وكان حق الفيتو الذي تمتع به هؤلاء الأعضاء، قد جاء ليعكس النتائج التي تمخضت عن الحرب العالمية الثانية من جهة، والقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية لهذه الدول المدعومة بسلاح الردع النووي من جهة أخرى. وإدراكا من هذه الدول لما يضفيه امتلاك هذا السلاح عليها من مزايا، في فرض الهيمنة على الدول الأخرى، وصياغة السياسات الدولية، وفقا لمصالحها الخاصة، فإنها وضعت خطوطا حمراء على الدول الأخرى، منعت بموجبها تلك الدول من ممارسة حقها في امتلاك هذا النوع من السلاح، وتشكلت هيئة للطاقة الذرية هدفها مراقبة وتفتيش منشآت الدول التي تتطلع إلى تقوية ترسانتها العسكرية وتزويدها بهذا النوع من السلاح.
ومنذ الخمسينيات، بدأ عدد من دول العالم الثالث التفكير جديا في استثمار الطاقة النووية لأغراض سلمية، وأقيمت عدة مفاعلات نووية صغيرة في عدد من تلك الدول. وكانت مصر من أوائل الأقطار العربية التي حاولت استثمار هذه الطاقة في تنمية مشاريعها الإنمائية. لكن حكومات أخرى تجاوزت الخطوط الحمراء، وكانت المعايير المزدوجة التي حكمت سياسات الإدارات الأمريكية المختلفة قد أتاحت لكيانات حليفة لها الدخول في النادي النووي، دون أن تتعرض لابتزاز من هيئة الطاقة النووية أو إرهاب الدول الكبرى. فالكيان الصهيوني، على سبيل المثال، قد دشن منذ منتصف الخمسينيات مفاعل ديمونه، وامتلك لاحقا أسلحة نووية، وصواريخ تحمل رؤوسا نووية قدرت بالعشرات، ورغم رفضه باستمرار التفتيش على منشآته النووية فإنه بقي، بسبب المساندة الأمريكية، بمنأى عن الضغط والعقوبات والتفتيش. وكانت جنوب إفريقيا العنصرية، هي المثل الآخر الصارخ على ازدواجية المعايير. فهذه الدولة، رغم وقوف العالم بأسره ضد نهجها العنصري، وصدور قرارات بفرض حصار أممي بحقها، فإنها امتلكت ترسانة نووية كبيرة، دون اعتراض الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي على ذلك. والغريب في الأمر أن تلك السياسة قد تبدلت رأسا على عقب إثر استلام الجبهة الوطنية، بزعامة نيلسون مانديلا للحكم، بعد اندحار النظام العنصري، حيث أصرت الأسرة الدولية، بزعامة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين على تفكيك الترسانة النووية لجنوب إفريقيا كأحد الأثمان التي لا بد من دفعها من قبل الإفريقيين للحصول على استقلالهم.
في الوطن العربي، وأمام العربدة والتحدي الصهيوني، حاولت بعض الحكومات العربية امتلاك السلاح النووي، كالعراق وليبيا ووجهت تلك المحاولات بحملات ضارية وقاسية من الأمريكيين. وقد قامت إسرائيل بقصف جوي، بأمر من رئيس الوزراء السابق، مناحيم بيجين، لمفاعل تموز النووي قرب مدينة بغداد. وإثر حرب الخليج الثانية، عام 1990 أصدر مجلس الأمن الدولي عدة قرارات قضت بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل، وبضمنها المفاعل النووية، وتم ذلك بالفعل. وبالنسبة لليبيا، تخلت، عن كل برامجها التسليحية، في صفقة ضمن بها النظام استمراريته، وتصالح بموجبها مع الإدارة الأمريكية، ولم يعد بعدها ضمن الدول التي ترعى الإرهاب، حسب المنظور الأمريكي.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، في نيويورك وواشنطن أصبحت الإدارة الأمريكية أكثر تشددا تجاه امتلاك دول العالم الثالث للسلاح النووي، بعد أن تمكنت الهند وباكستان، قبل ذلك بفترة وجيزة من الإفلات من قبضة الضغوط الأمريكية، وتمكنتا من دخول النادي النووي بعد إعلانهما امتلاكهما لهذا النوع من السلاح. وقد تزامن التشدد الأمريكي، بممارسة نهج عدواني بحق الأمم والدول التي لا تتجانس سياساتها مع السياسات الأمريكية. لقد قسم العالم إلى دول “معنا” وأخرى “ضدنا” ولا وسط بين الاثنين. وبموجب هذا التقسيم حدد الرئيس الأمريكي، جورج بوش قائمة بأسماء الدول “المارقة”، اختزلت فيما بعد إلى “محور الشر”، وهو محور ثلاثي شمل العراق وإيران وكوريا. تمكن الأمريكيون من احتلال العراق، وإن لم يتمكنوا حتى الآن من فرض سيطرتهم عليه، وأصبح بحق مقبرة لجنودهم، وصورة واضحة ومعبرة عن فشل سياساتهم. ومع إيران مازالت لعبة القط والفأر مستمرة، ولا يوجد في الأفق ما ينبئ عن وجود حل لها في المدى المنظور. أما كوريا الشمالية، فقد خرج ماردها من قمقمه، وأعلنت على الملأ أنها أجرت تجربتين نوويتين تكللتا بالنجاح.
وبعد هذا الإعلان الكوري الشمالي اجتمع مجلس الأمن الدولي وأصدر القرار رقم أ 1718 الذي تضمن فرض جملة من العقوبات أبرزها حظر شامل على توريد الأسلحة الثقيلة ومكوناتها وقطع غيارها وذخائرها إلى كوريا الشمالية. كما حظر توريد المواد الكيميائية والبيولوجية ذات الاستخدام المزدوج. وطالب القرار من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تجميد الأرصدة المالية التي لديها، التابعة لكوريا الشمالية أو لأفراد من هذا البلد. وقد صدر القرار بموجب البند السابع في ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالأمن والسلم العالميين. لكن ذلك لن يغير شيئا من واقع الحال، فقد سبق السيف العذل.
إن كوريا الشمالية قد نجحت في اختبار التحدي، وأفشلت مشروع الهيمنة، وحققت توازن الرعب. ولم يعد بالإمكان، بعد حيازتها على سلاح الردع، تهديدها وإجبارها على الخضوع والقبول بالمشاريع الأمريكية بقوة السلاح. ولن يكون بإمكان الأمريكيين قهر إرادة هذه الدولة أو ابتزازها. وسيكون في هذه الخطوة محرضا لقوى أخرى جديدة للدخول في هذا النادي، ما دام هو السبيل الوحيد لتجاوز سياسة ازدواجية المعايير، وضمان حماية الأمن ومواجهة مشاريع الهيمنة. فهل نتعلم نحن العرب من هذا الدرس؟!
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2006-10-18
2020-06–1 0-:03
علي الكاش/كاتب ومفكر عراقي من اليونان
ان الردع النووي من اهم مفردات السياسة الدولية في الوقت الحاضر, وقد إتسع نطاقة بعد الحرب العالمية الثانية بسبب التطور اليذذي صاحب تطوير وتنويع مصادر أسلحة الدمار الشامل، و لاشك أن الردع النووي هو ظاهرة تمثل إمتداداً للردع التقليدي مع أختلاف طبيعي من حيث النوعية والنتيجة، وقد امسى الردع النووي من وجهة نظر الستراتيجيين يتمثل بنوعين اولهما السلبي ويعني ردع الهجوم النووي على أرض دولة ما، والأيجابي ردع الهجوم التقليدي أو النووي على اراضي حلفاء الدولة الرادعة
ومهما يكن من أمر فكما تفضلت أستاذ مكي أن كوريا الشمالية بتجربتها النووية وتكهنات الأمريكان بمعاودة التجربة تمثل إجهاضاً حقيقياً للأستراتيجية الأمريكية وهيمنتها كقطب واحد في العالم .. وامام هذه التجارب من المؤسف أن نتخلف كعالم عربي عن هذه القوة والتي تمكنا من تحقيق التوازن مع المتربصين بنا من إسرائيل وايران ودول أخرى
كما نتأسف من قيام الجامعة العربية باستنكار هذه التجربة الكورية وكنا نأمل أن تصمت على الأقل ففي مثل هذه الحالات إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب .
2020-06–1 0-:02
أحمد الجيدي من المملكة المغربية
حق مشروع للدول الإسلامية إمتلاكه، ؟؟