“الربيع العربي” والإرهاب

0 417

منذ قرابة قرن، استمر جدل نظري حول طبيعة التحولات السياسية الكبرى، هل شرطها التراكم التاريخي، والتغيير التدرجي في بنية المجتمع أم أنها رهن بالفعل الإرادي الإنساني. وكنت ولا أزال من المناصرين، للرأي القائل بأن أي تحول سياسي في المجتمعات الإنسانية، هو في محصلته تعبير عن انتقال في ميزان القوى داخل المجتمع، وأن لحظة التحول هي الترجمة الحقيقية لهذا الانتقال.

لكن ذلك لا ينفي، في كل الأحوال جدل العلاقة بين ما هو تراكم تاريخي، وما هو فعل إرادي إنساني.

 

كان هذا الموضوع، مثار جدل وحوارات مع أصدقاء ومثقفين مصريين، انتشوا بالربيع العربي، وافتتنوا بما جرى في الساحات والميادين المصرية، إثر اندلاع الحركة الاحتجاجية في 25 يناير 2011. لقد حدثت تلك الاحتجاجات بمعزل عن التراكم التاريخي، وبعد تجريف سياسي منهجي استمر لعدة عقود، ولذلك لم يكن متوقعا حدوث انتقال حقيقي وتحول في ميزان القوى. وما حدث لم يكن النظر له بشكل موضوعي، سوى أنه انطلاقة عفوية، تسببت فيها حالة العجز عن مقابلة استحقاقات الناس، وتفشي الفساد والبطالة. والانطلاقة العفوية هي في كل الأحوال، ليست ضامنة لتحول تاريخي وانتقال في موازين القوى، والحال هذا، يصدق إلى حد كبير، على ما حدث في تونس.

لا شك أن تبني الغرب لما أصبح متعارفا عليه بالربيع العربي، وانشغال “ماكنته” الإعلامية به، وتشبيهه بما حدث في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، في أوروبا الشرقية، قد شجع على التفاؤل، بأن الأمة العربية إزاء مرحلة جديدة مشابهة لما جرى في الثورات الاجتماعية الكبرى. وحين أشرنا في مقالات عديدة نشرناها، في بداية “موسم الربيع” لاختلاف الظروف والتراكم التاريخي والاجتماعي بالبلدان العربية عن مجتمعات أوروبا الشرقية، اعتبر المتفائلون هذه الرؤية مغرقة في التشاؤم. وأشار كثير من الكتاب أن الوطن العربي، يمر بمرحلة شبيهة بالمرحلة التي أعقبت الثورة الفرنسية عام 1789م.

تناسى الذين انتشوا بالتحولات السياسية التي حدثت في تونس ومصر، أنها حدثت نتيجة انحياز المؤسستين العسكريتين بالبلدين لحركة الشارع. لقد أمسك الجيش بزمام الأمور، وحال دون انتشار الفوضى، والتفتيت.

ومع أن الأوضاع تبدو مستقرة، بتونس ومصر، بعد عبور العملية السياسية، فإن التطورات الأخيرة، ترجح احتمال حدوث انهيارات سياسية واجتماعية واقتصادية فيهما. وهذا التقرير ليس رجما بالغيب. فأعلام البلدين التي رفعت بميدان التحرير في الأيام الأولى للحراك الشعبي، تشاطرها الآن في ذات الميدان أعلام القاعدة. والأنباء تشير إلى عبور آلاف المتطرفين حدود الجزائر إلى تونس. ولسنا بحاجة للحديث عما يجري من تطرف على أرض سيناء في مصر، فقد أمسى ذلك بحكم المعلوم للجميع.

في ليبيا وسوريا واليمن، ترفع أعلام القاعدة، وتستبدل شعارات القضاء على الفساد والاستبداد والأنظمة الشمولية، بشعارات تكفر المجتمع، وتقتل على الهوية. ولا تزال الميليشيات في ليبيا تحكم قبضتها بعد مرور أكثر من عام على مصرع العقيد القذافي، وإعلان انتصار الثورة، على مختلف المدن الليبية، رافضة تسليم أسلحتها، والانضواء تحت مؤسسات الدولة. وقواعد القاعدة تنتشر الآن في اليمن وسوريا.

موضوعيا، لا يمكن ربط الإرهاب بالحرية. ففكرة الحرية تعني قبول الحوار والتسليم بالحق في الاختلاف واحترام الرأي والرأي الآخر. وذلك بالتأكيد نقيض لثقافة التطرف. ففي التطرف تسود لغة واحدة، تنطلق من تكفير المجتمع والدولة. ولا تسلم بالاجتهاد، أو بوجود تفسيرات مختلفة للنصوص.

أما الحوار فإن دلالته المعرفية، هي الاستفادة المتبادلة من خبرات وآراء المتحاورين، باختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية ومنابتهم الاجتماعية. ومنهجيا، يعني الحوار استحالة استحواذ فرد أو فئة على مجمل القول، دون إتاحة الفرصة للإسهامات الفكرية والسياسية الأخرى. إن الحوار في أساسه تسليم بنسبية الحقائق وإمكانية تغيرها، بما يسهم في إثراء المعرفة بحاجات المجتمع وطرق نموه وتطوره.

المعضلة، أن الفراغ السياسي والفكري في بلدان الربيع العربي، قد مكن قوى التطرف، وفي المقدمة، تنظيم القاعدة، من أن تستثمر ما يجري من تحولات دراماتيكية، في تلك البلدان، لتعيد تنظيم نفسها، ولتتسلل إلى مواقع متقدمة فيها، تحت مسميات وعناوين مختلفة.

وينبغي في هذا السياق، أن نؤكد أن الإرهاب ما كان له أن يخترق بلداننا العربية لولا وجود أرضية خصبة وملائمة لذلك. إن هذه الأرضية كامنة في ثقافتنا، وأرضيتها للأسف خصبة في مجتمعاتنا العربية. والنتيجة أن مواجهة قوى الأمن لهذه الظاهرة، على أهميتها، لن تتعدى إزالة القشرة البارزة على السطح، ليبقى ما تحتها، منتظرا فرصته للتدمير والتخريب.

إن المطلوب، للقضاء نهائيا على ظاهرة الإرهاب، هو التعامل مع القواعد الفكرية التي يستند عليها، والعناصر المجتمعية التي يزج بها في محرقته، والمناخات التي تمكنه من تحقيق الاختراق. إن هذه المواجهة، تقتضي ضرب مرتكزاته الفكرية والثقافية. وضمنها ضروب النشاط الاجتماعي السلبي الذي تمارسه قوى التطرف في مختلف الميادين.

إن الإرهاب عمل تآمري، صفته السرية، وينطلق من التسليم بأوامر غير خاضعة للسؤال أو للمناقشة والحوار. وما يجعل الالتزام بها سهلا، هو وجودها في مجتمع يجرم فكرة التنوع والتعددية. إنه يتطلب خضوعا كاملا، وتغييبا للعقل، وجمودا في تفسير النصوص، واتهاما بالهرطقة. والحوار في وضع كهذا، سرعان ما يتحول لحرب إيديولوجية بين “المتحاورين” يحشد كل طرف فيها أسلحته البائسة، مازجا بين الحقائق والأوهام، ويعلو الضجيج، دون فكرة أو طريحة.

إن أمتنا العربية، إزاء مشروعين: إما تغليب السيف على القلم، وسد أبواب الاجتهاد وحرية الفكر، أو تغليب القلم على السيف وفتح أبواب الاجتهاد وحرية الفكر وليس من شك في أن تراجع السيف لمصلحة القلم، سوف يسهم في الانتقال الأكيد ببلداننا، إلى مجتمع النهضة والعلم والمعرفة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 × واحد =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي