الدين… التنوير… الديموقراطية

0 210

ناقشنا في الحديث السابق (للرجوع للمقال السابق اضغط هنا) العلاقة بين الدين والديموقراطية، وأشرنا إلى أنها في بعض جوانبها علاقة بين المطلق والنسبي. وأشرنا إلى أن الدين الإسلامي الحنيف لم يشرع طريقة بعينها لشكل الحكم، بما في ذلك بنيته وهياكله. أما الديموقراطية، فهي كمفهوم تعني حكم الشعب، ومن حيث الإجراء، فإنها ليست ممارسة ساكنة، وقد حدثت تطورات هائلة في تطبيقاتها، خضعت لمتغيرات ظرفية، تمحورت في الكيفية التي يحكم فيها الشعب نفسه.

 

وقد وعدنا بمتابعة التطورات اللاحقة، وعلاقتها بالتحولات الاجتماعية الكبرى التي حدثت فوق كوكبنا الأرضي، من ثورات صناعية وانتقال في مراكز القوى، وبروز الحركات الدينية والفكرية والأدبية الجديدة، وتأثيرات ذلك على المجتمع العربي، وبشكل خاص حركة التنوير، وأسباب انتكاستها.

 

كانت الثورة الفرنسية، انعطافة كبيرة، في طريق إنهاء نظرية “الحق الإلهي”، وتعزيز الفصل بين السلطات. وكانت نتاجا لتحالفات اجتماعية واسعة، شملت أرباب الصناعة الذين تصدروا قيادتها. كما شملت الطبقة المتوسطة، وجمهور الجياع الذي انقض على الباستيل، وأنهى مرحلة تاريخية، سادت لحقب طويلة.

 

ورغم أن هذه الثورة طرحت منذ البداية، شعارات كبيرة، أصبحت فيما بعد محرضا لتغييرات كبرى في الخارطة السياسية العالمية، كحقوق الإنسان، والتعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، لكن تلك الأهداف لم تكن واضحة المعالم كما هي الآن. كان هناك حديث عن سلطات ثلاث، تشريعية وتنفيذية، وقضائية، لكن الفصل بين السلطات لم يكن محددا بدقة. وبنفس المستوى، لم تتحدد بوضوح القوى الحاضنة لمشروع التغيير إلا بعد مرور عدة عقود.

 

ومع أن قادة الثورة تبنوا بيانا لحقوق الإنسان، صدر في 26 سبتمبر عام 1789م، أشار إلى أن “الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق”، وأن هذه الحقوق تتضمن الحقوق في الحرية والملكية والسلامة ومقاومة الاستبداد. لكنه لم ينص صراحة على الحرية الاقتصادية، بالمعنى الذي أكدت عليه نظرية آدم سميث. في موضوع الحرية، تحدث البيان المذكور عن أنها تعني حق الفرد في “عمل كل شيء لا يلحق الضرر بالآخرين”, وعلى هذا الأساس، فإنها حرية مفتوحة لا حدود لها إلا حرية الآخرين. لكن الضمانات الإجرائية لتطبيق تلك الأهداف لم تتبلور بعد، عند صدور ذلك البيان. وكانت الخشية شديدة من أن تتغور السلطة التنفيذية على السلطتين الأخريتين، التشريعية والقضائية، كونها هي المسؤولة عن تطبيق القوانين والأحكام القضائية، من خلال هيمنتها على تنظيم وإدارة القوات المسلحة والأمن الداخلي.

 

لقد أكدت التطورات اللاحقة أن الشعارات، التي بدت جميلة ونبيلة كانت تحمل في جنباتها مضامين مضمرة، تعكس مستوى قوة الدور الاقتصادي الذي تلعبه الشريحة الاجتماعية التي تصدت لقيادة التغيير. لقد كانت الشعارات في تعابيرها، إيذانا باندحار شريحة اجتماعية، وحلول أخرى محلها، لا تتيح لها بنيتها العمل وفقا للسياقات القديمة. فكان لا بد من صياغات جديدة تنسجم مع التطورات التي أخذت مكانها بسقوط الإقطاع، وفي مقدمتها شرعنة الفصل بين السلطات، وقيام مؤسسات المجتمع المدني، وبروز أنظمة وهياكل تؤمن احتكار أرباب الصناعة للسلطة.

 

وإذا، فالديموقراطية، في نتيجتها هي تعبير عن توازن في القوة بين شرائح فتية، لا يمكنها حسم الصراع فيما بينها، فكان لا بد من الاحتكام إلى الدستور وإلى القوانين المدنية، والقضاء المستقل، لتكون جميعا الحكم في الصراعات التي تنشب بين القوى الفتية التي تمارس صناعة التاريخ الأوروبي الحديث.

 

لكن التحالفات التي نشأت عشية التغيير بين مختلف الشرائح، هي مسألة أخرى، لا بد من حسمها. وكان ذلك هو ما حدث بالفعل، في الثورتين الفرنسية والإنجليزية معا، بل يمكن اعتبار الحرب الأهلية الأمريكية، أثناء حقبة الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن أحد تعابير الحسم، بين القوى التي صنعت الأمة بتعابيرها ومؤسساتها الحديثة، لتصدق المقولة الشائعة ﺒ”إن الثورة تأكل أبناءها”..

 

في فرنسا بدأت التصفيات في صفوف قادة الثورة منذ أيامها الأولى، وتصاعدت وتائرها، حتى تمكنت الطبقة البورجوزاية من الاستئثار بالسلطة بعد القضاء على اليعاقبة، وقائدئهم الخطيب المفوه، وأحد الذين ساهموا في صناعة تاريخ الجمهورية الفرنسية، روبسبير عام 1791، بعد أقل من ست سنوات على قيام الثورة، وكان برفقته العشرات من زملائه الذين تم إعدامهم دون محاكمة. وبالمثل، انتهت ثورة المتطهرين “البيوريتاين” الذين قادوا الثورة في إنجلترا. وأعدم قائدهم أوليفر كرومويل، وأودع وزير خارجيته الشاعر، جون ميلتون السجن المؤبد، حيث أصدر من معتقله واحدا من أشهر الدواوين الشعرية “الفردوس المفقود”، والذي أشاد فيه بمبادئ الحرية التي بشرت بها الثورة، موضحا “أن من يقتل الكتاب يقتل الكلمة، وأن من يقتل الكلمة يقتل الإنسان”. وبعد فشل الثورة أعيد الملك تشارلز السادس إلى الحكم، لكن النظام النيابي، والفصل بين السلطات الثلاث بقي قائما حتى يومنا هذا.

 

وضعت الثورتان، الفرنسية والإنجليزية المقدمات لوجود نمطين من الأنظمة الديموقراطية، كلاهما يلتزم بالفصل بين السلطات، ويستند إلى الحياة الدستورية المستندة على نظام في شكل وثيقة أو عرف تدار من خلاله العملية السياسية، ويوفر رقابة فعالة على ممارسة السلطات الحكومية لأدوارها، وهما النظام البرلماني والنظام الرئاسي، وبينهما، نظام وسط هو النظام الثنائي.

 

فمن إنجلترا برز النظام البرلماني، حيث يشكل نظامها “نموذج وستمنستر” أو النظام الوزاري نمطا كلاسيكيا بارزا ومتميزا في الحياة النيابية. ويوفر هذا النموذج تكامل وانصهار السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتنحصر إدارة الرقابة في هذا النموذج بصفة رئيسة في تصويت البرلمان برفض الثقة في الحكومة أو في واحد أو مجموعة من تشريعاتها. ويكون دور رئيس الدولة في هذا النظام احتفائيا ورمزيا.

 

أما النظام الرئاسي، وتعتبر الولايات المتحدة نموذجا رئيسا في تطبيقه، فيعتمد على مبدأ الفصل بين السلطات. ويميز فيه بقوة بين الجهاز الإداري والجهاز السياسي. وتجري في هذا النظام انتخابات دورية منفصلة للسلطة التشريعية والتنفيذية. وتتحقق الرقابة عبر آليات عديدة، يضمنها حق الفيتو لرئيس الجمهورية، الذي يمكن أن يتجاوزه الكونجرس بأغلبية الثلثين. ويقوم البرلمان بالتصديق على المعاهدات، والموافقة أو رفض الاقتراح بالتعيينات لكبار مساعدي الرئيس، من وزراء وسفراء، والتصديق على الموازنة السنوية، والموافقة على إعلان الحرب وإرسال القوات إلى الخارج.

 

أما النظام الثنائي، فيجمع بين مواصفات النظامين البرلماني والرئاسي، وتشكل فرنسا أنموذجا له. وفي هذا النظام يجري انتخاب الرئيس بالاقتراع العام المباشر لمدة سبع سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة فقط. ويقوم الرئيس باختيار رئيس وزرائه من الأغلبية النيابية. وقد بدأ الأخذ بهذا النظام، بعد ما يقرب من قرنين من قيام الثورة الفرنسية، وتحديدا عام 1958، في عهد الرئيس الفرنسي، شارل ديغول. وكان الهدف من تبني هذا النظام الثاني، هو معالجة قضية عدم استقرار الحكومات الفرنسية في فترة الجمهورية الرابعة. لقد جمع الدستور الفرنسي الجديد مواد دستورية من النظامين الأمريكي والإنجليزي.

 

وعلى كل فليس الهدف من هذا الحديث هو إعطاء تفصيل شامل عن الكيفية التي تدار بها شؤون الحكم في الأنظمة الديموقراطية، فليس هذا مكانها، ولكن التأكيد هنا على الطبيعة النسبية في التطبيق، على عكس الأديان التي تعتمد على المطلقات. لكن هذا الاختلاف لا يعني بأي شكل من الأشكال، تناقضها وتنافرها مع الدين. فطالما أن المبادئ التي بشرت بها الأديان هي مبادئ إنسانية عالمية، فإن العلاقة بينها وبين كل ما من شأنه أن يعزز من الكرامة الإنسانية هي علاقة إيجابية وليست علاقة تضاد.

 

يبقى علينا أن نعود إلى علاقة هذه الأشكال من الممارسات بموضوع حديثنا، عن التنوير والدين في مجتمعنا العربي الإسلامي، وهو ما لم نجد له فسحة في هذا الحديث. فلتكن لنا عودة معه في الحديث القادم بإذن الله.

 

cdabcd

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة أحمد جمال باز)

 

إن القلوب تتقلب و تتغير بشكل كبير، نعم لا بأس من أن نأخذ من الغرب كل ماهو إيجابي.

 

و لكن مع الأسف الشديد أصبحنا نجعل الغرب هم قدوتنا الأساسية في كل شي حتى و لو كان خبثاً.

 

و كأن الغرب هم ملائكة لا يخطئون بل هم معصومون أتيون من ما وراء الطبيعة هم كائنات مقدسة لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون!!!!!

 

إن الحضارة الغربية هي حضارة زائفة ساقطة ليس لها أية قيمة أبداً.

 

بينما نحن نريد الآخرة الأبدية الباقية ببقاء الله تعالى.

 

إن الروح تريد الطيران بلا حدود و لكن حين عودتها إلى صاحبها يحس أنه قد فاق من نومه إلى عالم الملك و هو العالم الذي فيه زوائف كثرة و ناس تنخدع بشدة بالحضارة الغربية الساقطة الزائفة المحدودة، و مع ذلك يقول المفكرون الليبراليون العرب بأن الأوروبيين لديهم إنسانية و أية إنسانية لدى هؤلاء الغرب الذين يسخرون من الدين و الروح و الأخلاق.

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة أ الشريف)

 

أنا أعني بالغرب الحكومات الغربية القمعية الاستبدادية التي تدعي الديمقراطية زوراً و بهتانا و دجلاً و كذباً و تبجحاً.

 

و يعنون بالديمقراطية حكم الشعب بلا دين.

 

الروح تشتاق للطيران إلى عالم الملكوت بل إلى عالم الملكوت الأعلى و لكنها حين عودتها إلى جسدها تصبح في عالم الملك و هو الذي مشقة و تعب و انبهار بالحضارة الغربية التافهة الساقطة الزائفة.

 

الروح هي الملاك هي الملك و لكن بتجربة بشرية، النفس الملكية في تجربة بشرية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ستة − 5 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي