الحوار الذي أجراه الدكتور أحمد فرحات للنشر في صحيفة الاتحاد الإماراتية
الحوار الذي أجراه الدكتور أحمد فرحات
لنتحدث عن الحال الفكرية في الخليج العربي بين الأمس القريب واليوم.
- كيف تستطلع موقعها في إطار الخارطة الفكرية العربية الحديثة بوجه عام؟
الحالة الفكرية في الخليج العربي، ليست معزولة عن الحالة السائدة بالبلدان العربية. فالتأثير والتأثر بين بلدان الخليج العربي، وعواصم النهضة العربية، في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، لم يكن ناتج ارتباط في الجغرافيا والتاريخ، فقط، ولم يكن نتاج مشاعر انتماء جياش مشترك، فحسب. لقد كان هذا التفاعل والتلاقح نتاج واقع موضوعي، فرضته الطريقة التي تشكلت فيها الحركة الفكرية في بلدان الخليج العربي، والتي اتخذت في مراحلها الأولى، شكل التأثر بالفكر العربي الوافد، وليس التأثير فيه.
فالمعاهد العلمية والجامعات، لم تكن متواجدة في معظم الأقطار العربية الخليجية، حتى النصف الثاني من القرن المنصرم. ويمكن القول بجزم، أن التطور العلمي والفكري في هذه البلدان، ارتبط باستخراج النفط، واستثمار ريعه في خدمة التنمية بكافة المجالات.
والذين نبغوا في مجال الفكر من هذه البلدان، هم في الغالب أفراد من عوائل ميسورة، تمكنوا من السفر إلى البلدان العربية، التي سبقتهم في مجال العلم والفكر، ودرسوا في جامعاتها، وتأثروا بالتيارات الفكرية والسياسية السائدة في تلك البلدان، وعادوا إلى أوطانهم، حاملين معهم الأفكار والرؤى التي تأثروا بها.
يضاف إلى ذلك، أنه حين فتحت المعاهد والجامعات، وحتى المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، كان معظم من التحق بها من المدرسين، هم من الأشقاء العرب، في الأقطار التي أشرنا لها. وكان لذلك تأثيره المباشر، في التربية، وصياغة أفكار الناس، ومعتقداتهم السياسية.
كانت فترة الخمسينيات والستينيات، حقبة تدافع وكفاح للتحرر من الاحتلال الأجنبي، وكان العالم بأسره، يشهد انتقالا كبيرا في السياسية والفكر، نتج عن الثورات الصناعية والعلمية المتتالية. وطبيعي أن تعبر تلك التحولات عن ذاتها، في صيغة مناهج وأـفكار جديدة، كالحداثة وما بعدها، والوجودية، ونظريات تنادي بالعدل الاجتماعي، وترفض “التطور اللامتكافئ للمجتمعات الإنسانية.
في معمعة هذا التطور، التي شهده العالم، والوطن العربي، كان الفكر في بلدان الخليج العربي، لا يزال يحبو، ويشهد مرحلته التأسيسية. ولم يكن له، في ظل تلك الظروف أن يكون مستقلا.
مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، تشكل محطة انتقال في مجال تطور واستقلال الفكر في بلدان الخليج والجزيرة العربية. المرحلة شهدت تراجعا للأفكار والمبادئ التي سادت في الشارع العربي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تمثلت في شعارات الحرية والاستقلال وتحرير فلسطين والوحدة العربية، والعدل الاجتماعي.
وكانت النتائج الكارثية لحرب حزيران/ يونيو 1967م، قد شهدت تراجعا واضحا في طرح تلك الشعارات، صاحبه تراجع في دور مراكز النهضة العربية، في بلاد الشام والعراق ومصر، واتهام صريح لأنظمة المواجهة مع “إسرائيل” بالعجز عن إدارة الصراع.
وكانت نتائج حرب تشرين/ أكتوبر 1973م، قد وفرت أرضية جيدة لفطام الفكر والأدب والفنون، عن منابعه، والعناصر التي أثرت فيه. فتلك الحرب غيرت جذريا من طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، من صراع وجود، إلى كفاح سياسي للبلدان التي تعرضت لعدوان يونيو لإزالة آثاره، باسترجاع ما فقد من الأراضي في حرب يونيو. وبذلك تحول الصراع، من صراع وجود إلى صراع على الحدود.
الأمر الآخر، أن أحد نتائج معركة العبور، هو انطلاق الطفرة النفطية الأولى، التي نتجت عن حظر تصدير النفط العربي، أثناء الحرب، للدول التي ساندت “إسرائيل”. وقد أدت تلك الطفرة، إلى حدوث تحولات هيكلية واقتصادية واجتماعية، بالبلدان النفطية، جعلت المفاضلة بين نظمها السياسية، والنظم التي تدير مراكز النهضة، لصالح الدول المنتجة للنفط. وقد عزز ذلك من حالة الفطام، التي أشرنا إليها، وأسهم في نشوء حركة أدبية، باتت تتجه رويدا رويدا نحو عن استقلال أكبر، عن محيطها العربي، الذي كانت متأثرة به لعقود طويلة.
2- كيف تقرأ المشروع الفكري لشيخ المفكرين في البحرين والخليج العربي د. محمد جابر الأنصاري؟ ألا تراه، خصوصاً في كتبه: “تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي 1930 – 1970” و”تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها”، و”الفكر العربي وصراع الأضداد”، مفكّراً تنويرياً عربياً من طراز ريادي على مستوى الأمة، وتشكل أطروحاته، بالتالي، مرجعية لاستئناف نهضة عربية جديدة؟
الدكتور الأنصاري، من جيل مخضرم، شهد مرحلة نهوض الفكر العربي، وتأثر بها، كما هو حال معظم النخب الفكرية العربية، التي عاشت حقبة النهوض العربي. وقد شهدت الحقبة التي أعقبت النكسة العربية، معالجات فكرية ونقدية لحقبتي الخمسينيات والستينيات، من القرن المنصرم، استمرت حتى يومنا هذا، من ضمنها إعادة النظر، في اليقينيات التي سادت منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، حتى النكسة. والدكتور الجابري، في هذا السياق، هو أحد النخب التي قامت بتلك المراجعات.
يحسب للجابري، تميزه بين النخب الفكرية الخليجية، في الشجاعة، في تحليل الواقع العربي، ونقد السائد من الأفكار، والعمل على تجديد الفكر العربي، منطلقا في ذلك من رؤية حداثية.
3 = يؤخذ على مفكرنا الأنصاري نظريته القائمة على دور الجغرافيا في خلق واقع التجزئة التي تعيشه الأمة العربية، إذ يقول في كتابه “تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية.. مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي”: “إن هذه القطيعة المكانية تتمثل في دور الفراغات والفواصل والحواجز الصحراوية الشاسعة الممتدة بين معظم الأقطار العربية في تقطيع وتجزئة المنطقة العربية، عمرانياً وسكانياً، وبالتالي مجتمعياً وسياسياً في الماضي والحاضر”.. كيف تناقش مثل هذا الرأي؟
مع كل التقدير والاحترام لأستاذنا الأنصاري، فإن نظرية التصحر، غير تاريخية، لأنها تتناقض مع الواقع الثقافي العربي، وأيضا مع تجارب الوحدة السياسية، لعدد من البلدان، كالولايات المتحدة وكندا وروسيا والصين…
وحين نقول بتناقض هذه النظرية مع الواقع الثقافي العربي، فإننا لا نعني فقط التاريخ العربي المعاصر، بل إن ذلك يمتد إلى مئات السنين. فمن من العرب، لم يقرأ منذ أيام العصرين الأموي والعباسي، عن المعلقات، وعن شعر عمر بن أبي ربيعة، والفرزدق وجرير، وعن أدب الجاحظ. ومدارس البصرة والكوفة. وكيف نفسر، صدور كتاب تهافت الفلاسفة، للغزالي، من إيران، شرق الوطن العربي، ورد أبن رشد على هذا الكتاب من أقصى ما بلغته الحضارة العربية غربا. حدث ذلك، في عصر، قبل ثورة المواصلات والاتصالات، وأيضا حين كانت معظم الأراضي العربية، صحاري وبوادي، شاسعة، لم تحل دون تحقيق وحدة الثقافة بين العرب.
وحين نقول بتناقض هذه النظرية مع تجارب الوحدة السياسية في بلدان كبرى، تعج بالفتوة والحيوية، نشير إلى الجزء الجنوبي من ولاية نيفادا الأمريكية، وإلى الصحارى الشاسعة بولايتي يوتا وأريزونا الأمريكية. وإلى صحراء التبت الواسعة في الصين، وإلى المناطق الجليدية الشاسعة في روسيا وكندا. وجميعها لم تحل دون قيام وحدات سياسية راسخة في هذه الدول. بما يعني، أن نظرية الأنصاري، لا تصمد أمام التجارب التاريخية العالمية، وتجربة الثقافة العربية.
4 – تجارب فكرية خليجية أخرى تلفتك؟.. ولماذا؟
كانت لدينا، انطلاقة ثقافية، ولا أقول فكرية، في الكويت بدأت في خط بياني متصاعد منذ نهاية الخمسينيات، لكنها تراجعت للأسف، منذ أوائل التسعينيات من القرن المنصرم. وربما يعود ذلك للظروف الخاصة التي عاشتها البلاد بعد الغزو العراقي عام 1990, ونأمل أن يقوم أشقاؤنا بمراجعة أسباب هذا التراجع، والانطلاق مجددا، للعب دور رائد في الساحة الثقافية الخليجية.
في البحرين، هناك أيضا تجربة واعدة، منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، ولكن شروط نضجها ولانطلاقتها لم تكتمل بعد. أما السعودية، فرغم شرف السبق لها في الساحة الثقافية، فإن المطلوب بذل جهد أكبر، وخلق مناخات ملائمة لانطلاق العمل الثقافي.
أما حين نأتي للفكر، فنحن في الخليج، يصعب تصنيفنا في خان صناع الأفكار، وتعليل أسباب ذلك بحاجة إلى تحليل أعمق وأوسع من المساحة التي يتيحها هذا الحوار.
5- يلاحظ عدم وجود تواصل حقيقي فاعل بين المثقفين الخليجيين، خصوصاً لجهة تمثلات فكرية وثقافية جديدة ومتجددة.. ماذا تقول؟
هذا توصيف دقيق، رغم وجود زيارات متكررة بين المثقفين، ومشاركات لا تزال محدودة، من قبل المثقفين الخليجيين، في المؤتمرات التي تعقد في ساحاتهم. لكنها أقل من المطلوب. وللأسف فإن الخلافات السياسية التي تطرأ أحيانا بين بلدان مجلس التعاون الخليجي، تؤثر كثيرا، على التنسيق والتعاون بين المثقفين الخليجيين، بما يستدعي فصل الخلافات السياسية، عن آفاق التعاون الأخرى، بين هذه الدول الشقيقة، ومنها الشأن الثقافي. ومن غير ذلك ستظل جهود التنسيق من غير طائل.
6 = نخب عديدة من مفكرينا العرب، مشرقاً ومغرباً، عالجت وتعالج موضوع تخلف الأمة بكفاءة عالية وتصويب استراتيجي وازن، وعليه فالمشكلة ليست مشكلة تنظير وتعيين بقدر ما هي مشكلة تطبيق لهذا التنظير.. هي مشكلة هشاشة الهياكل الاجتماعية العربية، كما عبّرت أنت ذات يوم.. ما تعليقك؟
المعضلة في الواقع العربي، ليست مجرد عدم القدرة في تحليل أسباب تخلف الأمة، بل هي في جزء منها، نتاج عاملين رئيسيين، الأول، هو غياب المشروع، يعنى استراتجيا الخروج من نفق الأزمة الراهنة، والثاني هو غياب الحامل الاجتماعي للمشروع. وهذه تناولتها في مقالات عدة، حملت مقاربات بين عصر الأنوار الأوروبي، وما تمخض عنه، وبين عصر التنوير العربي، ونتائجه.
شهدت أوروبا قبل الثورة الصناعية، ونتائجها السياسية مرحلة تبشير بها، عبرت عنها أفكار روسو ومونيسيكو ولوك وهوبز، وأدب هيجو وفولتير. وكانت المرحلة الرومانسية في الفكر والأدب والفنون الأوربية، بمثابة بوصلة، رسمت معالم الطريق لما بعد اندلاع الثورة الصناعية. وكان أرباب العمل هم الحاضن الاجتماعي لدولة المواطنة والعقد الاجتماعية، وللحقوق الفردية والملكية الخاصة. في الوطن العربي، تعطل مشروع التنوير، بشكل واضح منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وجرى تدمير ممنهج للقوى الاجتماعية، التي بذرت نبتات التنوير، في الواقع العربي. وللأسف لم تبرز حتى يومنا هذا قوة اجتماعية، أو سلطة سياسية، تحتضن هذا المشروع. وبالتأكيد فإن الوعي بهذه الحقائق، على مراراتها، يفتح بوابات أمل جديد، بإمكانية تجاوز واقع التخلف الراهن.
7 = ولكن ثمة من يقول عربياً إن العقدة المطروحة منذ ما نسميه بالنهضة العربية إلى اليوم، هي أن أسئلة الفكر العربي للمستقبل ظلت تؤسسها إشكاليات أو ثنائيات لم يقع الحسم فيها بعد، معرفياً وسياسياً وتاريخياً، وذلك من قبيل: الحداثة/ التقليد، المعاصرة/ الأصالة، التقدم/ التأخر، الاستقلال/ التبعية/ الاستبداد/ الديمقراطية/ الأنا/ الآخر، العقل/ النقل… إلخ. وهي إشكاليات شمولية هيكلية مترابطة تمسّ كل عناصر الحركة والعلاقات الفردية والجمعية في الكيان العربي، فتتركه نهباً لهذه التباينات المتمادية والتي من شأنها، في المحصلة، أن تتركه (أي هذا الكيان) عاجزاً عن التجاوز والتخطي المطلوبين.. ما تعليقك؟
الثنائيات التي أشرت إليها ليست حكرا، على ثقافتنا ومجتمعاتنا العربية. فليس هناك مجتمع حداثي خالص، وكذلك قضايا المعاصرة والتقدم، هي أمور نسبية. وكثير من هذه العناصر، تتعايش مع بعضها. وقد تعايشت هذه الثنائيات مع بعضها منذ القدم. فهناك مع توهج حضارة الإغريق، ماديون ورواقيون وأبيقوريون. وفي العصر العربي، وجد شعراء مجددون، كأبي تمام، وآخرون وجدوا في الماضي ذروة ما أبدعته الحضارة. الفكر المحافظ يرى أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، والفكر المجدد يسترشد بمقولة “أنك لا تستطيع أن تعوم في ماء النهر مرتين”. والأفكار بكل تنوعاتها لا تموت، وإنما تأخذ أشكالا جديدة. وما كان معاصرا بالأمس، يغدوا غير ذلك، حين لا يتعايش ويتكيف مع التطور التاريخي، ومنجزات العلم والحضارة.
النهوض، وآلياته وهياكله، هو الذي يضمن السير إلى الأمام، دون تهميش أو إقصاء للأخر، وبضمنها الأفكار. لنأخذ على سبيل المثال في هذا السياق، الثورة الفرنسية، وكيف وقفت الكنسية ضدها، ولكن الكنسية الآن تدافع عن الديمقراطية، التي هي جوهر وروح الثورة الفرنسية، لأنها تفقد صلتها بالواقع، وتفقد قوة حضورها إن لم تتكيف مع الهياكل الاجتماعية الجديدة، التي هي نتاج مبادئ وأفكار الثورة الفرنسية. ومثل ذلك يقال عن الكاثوليك، الذين اندلعت ثورة المتطهرين في بريطانيا، لمصادرة دورهم، والانتصار للإصلاح الديني اللوثري. وذلك من ضمن الأسباب التي دفعت ماكس فيبر إلى وصف العقلانية القانونية، بالأخلاق البروستانتية. والكاثليك الآن يشاركون بالفعل، في كل المجالات الفكرية والسياسية وفقا لشروط التي هيأت لها حركة الإصلاح الديني في بريطانيا وفرنسا.
8 = هل صحيح ما يقال إن المثقف العربي لم يعد يمتلك رأسمالاً رمزياً يؤهله للعب أدوار طلائعية على درب التغيير والتطوير.. نسمع من يقول، مثلاً، إن هذا المثقف بات شيئاً من الماضي، لقد تخطته الأحداث والتحولات الجارية في المنطقة وعلى نحو متسارع للغاية؟
المثقف العربي، يعاني من غياب الحرية، التي هي عنصر لازم لأي عمل فكري أو إبداعي. ولا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن يعيش من غير ثقافة، مهما كانت درجة الاندماج بالحراك الإنساني الدائر من حولنا. وهناك بداية يقظة في أوروبا لمخاطر الثقافة الواحدة والصوت الواحد. فقد قنن الفرنسيون، عدد الساعات التي تبث فيها أفلام هوليود. ووضعوا حدا أدنى، لا يمكن تخطيه، للأفلام الفرنسية بالقنوات المحلية. ومثل هذا الوعي بات يتعزز في ألمانيا وعدد آخر، من الدول الأوروبية. نحن هنا بالمجتمع العربي نستهلك في كل شيء، إلا الأفكار لأننا نستهلك منها القليل القليل، وما نستهلكه يأتي في صيغة استنساخ مشوه. لكن ذلك ليس نهاية المطاف. فنحن نتطلع إلى وعي جديد، ينقلنا من صفة الناقلين، إلى صفة الشركاء. وحين ننتقل إلى هذه الصفة، لن يكون هناك مكان للخوف أو الوجل، لأن في تاريخنا العريق من تراكم الحضارة والمواريث، ما يؤهلنا لأن نلعب هذا الدور. فمنا كان المعتزلة، وكانت بداية البرهان، ونقل الفلسفة الإغريقية، إلى أوروبا. ولم يقتصر دورنا في ذلك على النقل. بل قدمنا الكثير، مما يتطلب شرحه الكثير. والأساس، هو التأكيد على أن لدينا من العطاء الفكري للإنسانية، ما يمكن أن يبني عليه، باتجاه صناعة مستقبل أكثر رحابة وإنسانية وتقدما.
9 = في عصر الثورة الصناعية الرابعة (الثورة الرقمية)، والذي باتت تصعب فيه السيطرة على الأفكار المتدفقة والقناعات المتبدلة والمعلومات المتغازرة التي باتت متاحة للجميع، أي دور برأيك يمكن أن يطلع به مثقفنا العربي خدمة لوطنه وأمته المضطربة والقلقة على مصيرها؟
أجبت على هذا السؤال، في موضع آخر، من هذا الحديث. وموضوع الثورة الرقمية، ليس شأن ثقافي فقط، بل يخص على الأغلب الجهات الرسمية، التي ينبغي أن تسهم في تعميم هذه الثقافة. وجعلها حالة مألوفة في المدارس والجامعات. والخطر الذي بدأنا نواجهه عمليا، هو تراجع دور الكتاب، بالنسبة للقارئ العادي. وهو ما ينبغي تعويضه، عبر المكتبات الالكترونية. وقد بدأ عدد من المؤسسات البحثية السير على هذا الطريق، ومن ضمنها مركز دراسات الوحدة العربية، ومؤسسة الفكر العربي، ومراكز أخرى. والمهم أن يتعمم ذلك، وأن يحفظ للكتاب العربي، ألقه وحضوره، بما يتناسب مع الثورات العلمية المعاشة.
10 = لماذا ينتشر التفكير غير العقلاني في زمن انتشار المعرفة وتطور العلم والتكنولوجيا.
للأسف، حتى وقت ليس بالبعيد، كان هامش الحرية المتاح لهذا النوع من التفكير، الذي وصفته بغير العقلاني، في معظم بلدان الدول العربية، أوسع بكثير من المساحة المتاحة، للعقلانيين العرب. وفي ظل غياب الحرية، تضيق مساحة الإبداع في الفنون والثقافة والفكر. إنها مسؤولية جماعية، لكن الأساس فيها لصناع القرار بالبلدان العربية.
إن المطلوب هو دعم مراكز البحوث العلمية، ورفع سقف حرية التعبير، ورسم سياسات تجرم الكراهية، وتحرض على الإبداع والتفكير، وتنتصر للعلم وللعقل،وتتخلى عن ثقافة التلقين، باعتماد التحليل والتفكيك، والتشجيع على البحث العلمي، بكافة صنوفه.
11- د. يوسف، هل مات مشروع قومية الثقافة العربي؟ وهل بالإمكان العمل على ظهور مشروع فكري عربي جديد ينطلق من أدوات معرفية ونقدية مختلفة عن تلك التي كان يستخدمها نظام الفهم القومي السابق؟ وهل لا تزال العروبة الحضارية المتنوعة المنفتحة، لا المستبدة أو المتزمتة هي الحل؟
المشاريع التي تأتي لتلبية لحاجة تاريخية، لا تنتهي، إلا بنهاية الدور المنوط بها. وما نشهده من فتن طائفية واحتراب زبائني في عدد كبير من الأقطار العربية، يؤكد الحاجة إلى وجود هوية وطنية جامعة، على مستوى الوطن العربي. والحركة القومية، هي في الأصل، حالة تعبوية ضد التجزئة وواقع التخلف الذي عاشته معظم هذه الأقطار، تحت الاحتلال، وتفرعاته. وقد رأينا أن تراجع المشاريع الجامعة، سواء في صيغتها القومية العربية، أو صيغة القومية السورية، أو الصيغة الأممية، أو الوطنية، قد أدى إلى شيوع نزعات التفتيت، والمحاصصة. لذلك تبقى أهمية استعادة روح تلك المشاريع، في مشاريع وطنية جديدة، تنطلق كما أشرت، من أدوات معرفية ونقدية مختلفة عن تلك التي سادت فيما مضى. تلك أهمية قصوى، للحفاظ على الأوطان، في عصر تكتلات كبرى، ونظام دولي منفلت ليس فيه مكان إلا للأقوياء.
12- يقال إن البشرية تتجه إلى مشروع ثقافي واحد يتسع للاختلافات الثقافية على كثرتها ويفيد منها.. ما رأيك؟ وكيف السبيل لتمكين ثقافتنا العربية لتلعب دوراً خلاقاً في ثقافة عالمية متعددة الوجوه والجوانب؟
الذين تحدثوا فيما مضى عن الثقافة الواحدة، التي ستسود الكون، هم الدين تحدثوا عن نهاية التاريخ. وهؤلاء يضعون أنفسهم في تناقض فاضح بين تشجيع الهويات الصغيرة التي اندثرت منذ زمن قديم، وإن بصيغة الهيمنة والقسر والاحتلال، وبين الدعوة لاندثار الهويات والثقافات الحية السائدة.
ولا مندوحة في هذا السياق، من القول، أن الأمة العربية، هي من أكثر الشعوب، حاجة في هذه اللحظة للانفتاح والتفاعل والتلاقح مع الثقافات الأخرى. لأن الفجوة بيننا وبين التطور العلمي الذي أخذ مكانه في العقود الأخيرة، تقاس بأزمان فلكية. ولا مناص من سد هذه الثغرة، إذا أردنا أن يكون لنا مكان في مسيرة الإنسانية الصاعدة.
إن ما نأمله باختصار، هو كفاح المثقف العربي من أجل تدشين نظام عربي تحديثي عصري المنازع والتوجهات، قادر على مواجهة هيمنة الدول المتقدمة، في العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية. وهو نظام ينبغي أن يجعلنا داخل النظام الكوني الجديد، بعيداً عن حواجز الخوف والشك والارتياب والشعور بالدونية إزاء تفوق الآخر ونهجه العدواني.
14- أخيراً أسألك: ماذا عن جديدك كمثقف خليجي وقومي عربي عام؟ وكيف تواجه هذا الوعي الاستناري العربي المغدور الذي نتخبط فيه جميعاً اليوم؟
همومي هي بشكل عام هي هموم جل المثقفين العرب، المؤمنين بقدر أمتهم، وحتمية خروجها من نفق الأزمة الراهنة، التي تعاني منها معظم الأقطار العربية. وأعمل جاهدا من خلال المقالات التي أنشرها في الصحف الخليجية والعربية، وأيضا من خلال مشاركتي في الدوريات العلمية التي تصدر بالوطن العربي، على المشاركة في خلق وعي جديد، بالدعوة إلى تجديد الفكر القومي، والولوج في عصر تنوير عربي جديد. والجديد هو دراسة مطولة، تعتمد المقاربة بين مشروعي الأنوار والتنوير، باعتبار ذلك مقدمة لازمة للولوج في عصر عربي جديد، يكون أكثر مساواة وحرية وكرامة وازدهارا.