الحرب على أوكرانيا هجمات روسية مرتدة
د. يوسف مكي
يمكن القول بقليل من التحفظ، أن الحرب الدائرة رحاها الآن بين روسيا وأوكرانيا، قد اتخذت أشكالا جديدة، وتحولت من مواجهة بين دولتين مجاورتين، كانتا في يوم من الأيام ضمن امبراطورية واحدة، منذ العهد القيصري، واستمرارا بالحكم الشيوعي، إلى حرب لا تبقي ولا تذر.
كانت مدينة كييف، العاصمة الأوكرانية، هي المدينة الثانية، في الاتحاد السوفييتي، حتى سقوطه في بداية التسعينيات من القرن المنصرم. ومع انفراط الاتحاد السوفييتي، تحولت أوكرانيا إلى دولة معادية، وباتت أقرب إلى الغرب، منها إلى حلفائها السابقين في الكتلة الاشتراكية.
رغم ضعف الاتحاد الروسي، الذي تشكل في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي، فإن الرئيس الأمريكي، بل كلنتون، تعهد لنظيره الروسي، بوريس يلسون بعدم تمدد حلف الناتو شرقا، وانه لن يشمل الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي، ولا دول الكتلة الاشتراكية، لكن للقوة أحكامها. فالعهد الذي قطعه كلينتون، سرعان ما ضاع في مهب الريح، وبدأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، في توسيع الحلف، خلافا للتعهدات السابقة. ولم تكن روسيا، المنهارة اقتصاديا، والمثقلة بمشاكل سياسية واجتماعية، في وارد تحدي تمدد الناتو.
وبعودة الدب القطبي مجددا إلى المسرح السياسي الدولي، وتجديد ترسانته من السلاح، لتشمل أسلحة أكثر تطورا وقدرة تدميرية، بقيادة قيصرها الجديد، فلاديمير بوتين، تغير واقع الحال، وانتقلت روسيا من السبات، إلى الحركة والهجوم المعاكس. ومع ذلك، لم تسلم أمريكا وحلفائها في الغرب بالحقائق الجديدة. وعملت جهدها على ضم أوكرانيا للناتو، والتي هي بحكم الحقائق التاريخية والجغرافية العمق الاستراتيجي للاتحاد الروسي، وكانت خطوة الناتو، بمثابة مسدس مصوب بشكل مباشر، إلى الرقبة الروسية. وكان الخيار الروسي، هو شن ما أطلق عليها بالعملية العسكرية الخاصة، ضد كييف، والتي مضى عليها، أكثر من ثلاثين شهرا، باتت فيها حكومة زيلنيسكي، تمارس حربا بالوكالة، دفاعا عن المصالح الغربية.
وكلما استمرت الحرب، كلما ازداد عدد الفاعلين فيها، من الدول الغربية، التي لم تكتف بتقديم الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا، بل بدأت بالتدخل المباشر، والمشاركة الفعلية في هذه الحرب.
لقد ساد شعور عام لدى النخب السياسية، على مستوى العالم، أن مرحلة الأحادية القطبية، التي أخذت مكانها بعد سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، في طريقها للأفول، وأن العالم، على اعتاب تعددية قطبية جديدة، تكون روسيا الاتحادية والصين الشعبية أطرافا رئيسية فيها. وفي هذا الاتجاه، يكون للنصر الروسي، في حال تحققه، معنى آخر، هو انتقال العالم إلى حرب باردة جديدة، وإلى تعددية قطبية، يعقبها ترصين للعلاقات الدولية.
إن إعاقة النصر الروسي، تعني، ضمن ما تعنيه، تعطيل الانتقال، إلى التعددية القطبية، وذلك ما حرصت الإدارة الأمريكية عليه، وحلفائها وبشكل خاص، ألمانيا وفرنسا، من خلال فتح مخازنها العسكرية، لدعم ترسانة السلاح في أوكرانيا، وتمكينها من الصمود في وجه الغزو الروسي.
ومع إدراك الجميع، باستحالة حدوث تفوق أوكرانيا، على روسيا في هذه الحرب، فإن ذلك لم يمنع الحلفاء، من ضخ المزيد من السلاح، وكان الرئيس الأمريكي بايدن، سخيا في هذا المضمار. وقد دفع التدخل الأمريكي والأوروبي في هذه الحرب، بالرئيس بوتين، للحديث عن تغيير العقيدة العسكرية الروسية، والتهديد باستخدام السلاح النووي، ليس فقط ضد أوكرانيا، بل ضد كل من يقدم لها دعما يمكنها من استمرار الحرب، وكانت ألمانيا في مقدمة من شملهم التهديد، مذكرا بالدور الروسي الرئيسي، في سقوط النازية، بالحرب العالمية الثانية.
في الأيام الأخيرة، تمكنت أوكرانيا، بدعم غربي، من شن هجوم واسع على الأراضي الروسية، وحققت تقدما في كورسك، بما اعتبر هزيمة عسكرية لروسيا، لأول مرة منذ انطلاق العملية العسكرية الخاصة. واللافت في الموقف الروسي، هو الصمت المطبق لإدارة بوتين تجاه هذا الهجوم. ففي الوقت الذي كانت فيه أنظار العالم، تتجه نحو كورسك الروسية، ومواصلة الجيش الأوكراني هجومه عليها، قام الرئيس بوتين بزيارة أذربيجان، وتجاهل بالمطلق الحديث عما يجري في بلاده.
وتشير التقارير الواردة من روسيا، إلى أن بوتين لم يبد أي قلق، ولم يغير خططه المرسومة سلفا، في وقت تواجه فيه بلاده غزوا بريا للمرة الأولى، منذ الحرب العالمية الثانية. لقد ذهب إلى باكو، والشيشان، مظهرا اطمئنانا سياسيا لمسار تطور الأحداث، بما يشي أن ليس هناك أي شيء طارئ وغير عادي. لكن المشهد الهادئ، لا يعني أن ليس ثمة شيء وراء الأكمة، فكثيرون يعتقدون، أن ليس بعد الهدوء سوى الطوفان، أن هجمة عسكرية مرتدة، في طريقها لأخذ مكانها بالأيام القريبة القادمة. وأن ما يجري الآن في الخفاء، هو إعادة تقييم لما جرى، وربما يشمل ذلك محاسبة صارمة للمقصرين، الذين تسببوا في سقوط كورسك.
في سياق الهجمة الروسية المرتدة، أفاد منسق العمل السري بمقاطعة نيكولايف، سيرجي ليبيديف أن القوات الروسية، شنت هجمات ضخمة على آليات وقوات أوكرانية بمقاطعة سومي بأوكرانيا، من المفترض إرسالها لمقاطعة كورسك.
خلاصة القول، إن سعي الغرب، لتعطيل انبثاق نظام دولي جديد، ربما يتمكن لبعض الوقت، من وضع كوابح مؤقتة تحول دون انبثاقه، لكن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وتلك طبيعة الحياة، فتفرد قوة واحدة بمفردها نشاز في التاريخ الإنساني، وبكل المقاييس.
التعليقات مغلقة.