الحرب الروسية – الأوكرانية إلى أين؟

55

قبل يومين من انطلاق ما وصفته روسيا بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وتحديداً في 22 فبراير/ شباط، نشرنا في هذه الصحيفة، مقالاً حمل عنوان «الصراع على أوكرانيا والسيناريوهات المحتلة»، أشرنا فيه إلى أن الحرب تشن لغايات محددة، وأن الحروب، وهي فعل سياسي ساخن، يشنها الطرف الواثق من تحقيق النصر.

اتسم الموقف الروسي تجاه الأزمة منذ البداية بالغموض، وهو غموض يمكن وصفه بالغموض البنّاء، حيث يتيح للقيادة الروسية المناورة وتغيير التكتيكات، وتعديل الاستراتيجيات. وهو غموض يجعل الخصم في ارتباك وحيرة دائمة، بسبب عدم معرفة الهدف الرئيسي من الحرب، وما هي حدودها الزمنية والمكانية. فباستثناء تمسك إدارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتأييد حق تقرير المصير لإقليم دونباس، والطلب من أوكرانيا الامتناع عن الانضمام لحلف الناتو، وتخليها عن جماعات النازية الجديدة، لم توضح القيادة الروسية، ما إذا كان هدف الحرب هو الاكتفاء بفصل إقليم دونباس عن أوكرانيا، تمهيداً لضمه لاحقاً إلى روسيا. أم أن ذلك سيترافق مع عملية تأديبية عسكرية للحكومة الأوكرانية، قد تصل للعاصمة كييف، وما هي حدود تلك العملية؟

طرحنا في المقالة المشارة إليها، ثلاثة سيناريوهات للتعامل الروسي مع الأزمة. الأول، هو التوصل لحل سلمي، يتسق مع مبدأ الأمن الجماعي لدول القارة الأوروبية الذي تؤكد عليه باستمرار، إدارة الرئيس بوتين، بما يعنيه ذلك من عدم تهديد «الناتو» للأمن القومي الروسي. والحل السلمي ضمن هذا التصور، يعني قبول أوكرانيا بحق تقرير المصير لإقليم دونباس، وإعلان حيادها. أما السيناريو الثاني، فهو تحقيق استقلال دونباس، بالقوة الروسية، تمهيداً لضمه مستقبلاً إلى الأراضي الروسية، في استعادة مشابهة لما حدث في القرم عام 2014. وذلك أمر في حالة تحققه، سيضاعف من المشكلات الأوكرانية، ويضعف المركز في كييف. وسيجعل الغرب مهزوماً، وعاجزاً عن نصرة حلفائه، في نظر معظم دول العالم.

أما السيناريو الأسوأ، وهو ما يخشاه الغرب، فهو الاحتلال الروسي الشامل للأراضي الأوكرانية. وهو إن حدث، يؤكد التفوق الساحق للاستراتيجية الروسية، في مجال التنافس مع الغرب.

وخلال فترة العملية العسكرية الخاصة، التي اقتربت من الثلاثة أشهر، شهدنا أن السيناريو الأول كان مغيباً تماماً، بسبب رفض الحكومة الأوكرانية للتفاوض مع موسكو، والتأييد الواسع من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لهذا الرفض.

وكانت سرعة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا لافتة للنظر، فقد جاء هذا التدخل بعد يوم واحد فقط، من الاعتراف الروسي بجمهوريتي دونباس. وربما كان مرد هذه السرعة، هو عدم إتاحة الفرصة للغرب لتأسيس قواعد عسكرية غربية في أوكرانيا، في عملية استباقية للعملية العسكرية الروسية الخاصة.

واعتمد التخطيط الروسي، في الأيام الأولى، سياسة الاستنزاف السريع للقوات الأوكرانية، وتشتيتها، من خلال تعدد مواقع الهجوم العسكري البري الذي بلغ أطراف العاصمة، كييف، وتوسع ليشمل معظم مناطق أوكرانيا. لكن ذلك الاندفاع لم يستمر طويلاً. وربما يعود ذلك إلى الخسائر الكبيرة، التي تكبدتها القوات الروسية، في الأرواح والمعدات. وهو ما اعترفت به، إدارة الرئيس بوتين، مع تأكيدها على أن العملية العسكرية، تسير كما هو مخطط لها، وأن هدف انتشار العسكري الروسي، هو تشتيت واستنزاف قوة العدو.

وأعادت القوات الروسية سريعاً، تموضعها في الشرق والجنوب، وتمكنت من استكمال «تحرير» خيرسون وماريوبول، ومعظم أراضي إقليم دونباس. وتتجه الآن، وفقاً لتصريحات المسؤولين في وزارة الدفاع الروسية، لاستكمال الاستيلاء على منطقة خيركوف، ومدينة أوديسا، والهدف هو ضمان الوصول الآمن والمستمر إلى بحري أزوف والأسود، وصولاً لمياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، بما يعنيه ذلك، من محاصرة لأوكرانيا، ومنعها من استخدام موانئها البحرية، والحد من إمكانية تدفق السلاح الغربي، إليها عبر الطرق البحرية.

السياسة الروسية، لا تزال تتمسك «بالغموض البناء». فلا أحد بإمكانه الآن تقرير، متى ستنتهي هذه الحرب، وما هي حدود طموحات الدب القطبي. هل سيكتفي بما قضمه من شرق أوكرانيا وجنوبها، ويتوقف بعد الاستيلاء على مدينة أوديسا، أم أن طموحاته ستتعدى ذلك، إلى قضم كل أوكرانيا. وماذا عن الحكومة الأوكرانية، هل ستقبل بوقف لإطلاق النار، مع احتفاظ روسيا بالأراضي التي قضمتها، باعتبارها جزءاً من ممتلكات روسيا ومواريثها التاريخية. وهل سيكون بمقدورها، مواصلة الحرب، في معادلة عسكرية لا تبدو أنها تسير لمصلحتها، رغم ضخ أمريكا وحلفائها لمساعدات، قدرت بمئات المليارات من الدولارات؟

يبدو أن انتظارنا لن يطول، وسيكون على المارد الروسي، بعد أوديسا، أن يتخلى عن غموضه، ويكشف جلّ أوراقه.

 

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي