الجهيمان مدون الأساطير وأحد رواد التنوير في ذمة الله
غيب الموت الشيخ الجليل عبد الكريم الجهيمان، الوطني الشجاع، الذي حلم بوطن عربي ناهض تسوده المساواة والعدل، وحمل راية التنوير والمعاصرة، في الجزيرة العربية منذ مطالع الخمسينيات من القرن المنصرم, لقد استمر الراحل الكبير شعلة متوقدة وذاكرة حية، وشجرة صفصاف سامقة، إلى رحيله عنا في نهاية الأسبوع الماضي, وبهذا الحدث خسرت ساحة الثقافة والفكر أديبا كبيرا وفارسا ملتزما.
بدأت علاقتي بالفقيد العزيز، في وقت مبكر جدا، منذ سني الإعدادية، حين كان رئيسا لصحيفة أخبار الظهران، التي تعرضت للتضييق بسبب الآراء المستنيرة التي تطرحها والمواضيع الوطنية التي تناقش على صدر صفحاتها، ومن ثم للإغلاق بعد سنين قليلة من صدورها. وأيضا من خلال قراءة كتابه ذائع الصيت عن الامثال الشعبية، الذي صدر في عشرة مجلدات. لكن فرصة اللقاء به لم تتحقق إلا في السنوات الأخيرة، بعد اقترابه من سن التسعين. وكانت معظم هذه اللقاءات تأخذ مكانها إما في حفل تكريم لأديب كما في حالة الأستاذ عبدالله الجشي أو تأبين لكاتب كما في حالة الكاتب والمثقف والوطني المعروف السيد علي العوامي.
خلال العلاقة مع الراحل الجهيمان، سواء عبر ابداعاته المميزة، أو مقالاته العميقة أو اللقاء المباشر به، تكتشف شفافيته وروحه المرحة، وصدق سريرته، وإيمانه العميق بالمستقبل. وهو لشدة وضوحه تحسبه عالما خاليا من الأسرار. ولم يتجاوز الدكتور غازي القصيبي الواقع كثيرا حين وصف بالطفل المثقف، فخطه واضح ومستقيم، هو الأقرب بين من كتب في الجزيرة العربية إلى الواقعية الجديدة، حيث التفكيك والتحليل ينطلق دائما من التفاؤل والأمل والإيمان بحق الناس في العيش الكريم، بما يعنيه ذلك من انفتاح على المعارف ومحاربة للأمية، وتشجيع على المبادرة والإبداع، ونصرة لقضايا المحرومين والمهمشين.
ولد الجهيمان في مرحلة انتقال كوني مفصلي، حيث كانت القوى الأوروبية الفتية قد حسمت قرارها بإنهاء السلطنة العثمانية. واندلعت الحرب الكونية الأولى والطفل لم يتجاوز الثالثة من عمره. فكان قدره أن يتابع أحداثا جساما وتحولات تاريخية وصخب إنساني استثناني، وقرقعة سلاح في شتى زوايا كوكبنا الأرضي، فقد شهد وهو شاب في مقتبل العمر الحرب الكونية الثانية، وما خلفته من دمار وانسحاق إنساني. كما شهد اندلاع الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين، يتصارعان في العقائد والسياسات والاقتصاد والقوة العسكرية. فكان عليه أن يتفاعل معها، تفاعل المثقف المؤمن بحق أمته في الحياة، ويكتب عنها بلغة المفكر والمثقف والمتقدم في وعيه على غالبية مجايليه.
لم يكن راحلنا وأديبنا الجليل الشيخ عبد الكريم الجهيمان مجرد مراقب لتلك الأحداث العاصفة، ولكنه كان يقرأها بعمق ويعبر عن رأيه فيها، ويحدد الموقف المطلوب وطنيا للتعامل إزاءها.
مارس الكتابة الصحفية، منذ بداية الخمسينات، وأثناء بروز الحرب الباردة، وانقسام العالم بين معسكرين، يتبع أحدهما للغرب ويتبع الآخر للشرق. وكان الانشطار، كما سبقت الإشارة له، حادا على مستوى العقائد السياسية والبرامج الاقتصادية والتوجهات الاجتماعية والتحالفات العسكرية.
في عمرة هذه التحولات والانقسامات لم يقف الجهيمان حائرا في مفترق الطرق، بل اختار الموقف الموضوعي والمبدئي الذي لا يرتهن سيادة أمته وحقها في خياراتها السياسية والاجتماعية، فآمن بالحياد الايجابي وبعد الانحياز لأحد القطبين الدوليين. وكانت صحيفته “أخبار الظهران”، مدرسة في الوطنية وفي نصرة حركة مناهضة الاستعمار في كل مكان، مؤمنا ومدافعا عن حق الشعوب في الحرية والكرامة الانعتاق.
وفي كل معاركه الفكرية، كان عشق الوطن بوصلته، التي لا يحيد عنها. فتسجيل أساطير هذا الوطن وكتابة أمثاله الشعبية، لم تكن بالنسبة للجهيمان ترف مثقف، بل وعيا خالصا بنبض حركة هذا المجتمع، وتوثيقها بالنسبة له ركيزة أولية لبناء الحاضر والتقدم نحو المستقبل. وكلما غاص في هذه التجربة كلما تعاظم إيمانه بحتمية الإصلاح والتنوير والقضاء على الجهل.
ومن هنا صار مفهوما أن تحفل صحيفة أخبار الظهران التي أسسها ورأس تحريرها بمقالات نقدية صاخبة، وأن تزدحم برسائل مواطنين يطالبون بالاتجاه نحو الأفضل، فهذا يطالب ببناء مستشفى، وآخر يطالب بحديقة عامة أو مستشفى أو رصف طريق… والمجتمع واسع والمطالب كثيرة، وصحيفة الجهيمان، كما قلبه الكبير، اختارت دون مواربة أو تردد أن تكون موطن التعبير.
لم يكن دلك هو كل ما تطلع الجهيمان إلى تحقيقه. فالتنوير له مصداته، وليس من مصدات أقوى من الجهل والتخلف ومحاربة العلم الحق. آمن بالمساواة وعدم التمييز بين الناس بسبب الجنس أو القبيلة أو العشيرة أو الانتماء المذهبي. بناء الوطن بالنسبة له ينطلق من تعميم مبدأ المواطنه. والشرط الأول في تحقيق هذا المبدأ هو المساواة والندية والتكافؤ والعدل. وكان ذلك يعني في مقدماته تحرير القوة المجتمعية الكامنة، وفتح الأبواب مشرعة لطاقاتها الحية، دون ضوابط النسب والحسب لتساهم مجتمعة في بناء صرح الوطن الغالي.
ولذلك تأخذ دعوته في الدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بمشاركتها في عملية البناء والنهضة، أبعادا مركبة: أخلاقية وعملية ووطنية. فالأولى تتعلق بالحقوق، والثانية، تتعلق بالبناء والثالثة تتعلق بالهوية والانتماء. وفي هذا السياق، تأتي كتابات الراحل الجهيمان منذ وقت مبكر في حياته، عن حق المرأة في التعليم، وحق حرية التعبير متماهية مع التزامه الأخلاقي والتنموي والوطني. وكهذا يجوز لنا أن وصف الراحل الجهيمان بامتياز بأحد رواد التنوير والإصلاح الاجتماعي، بالمملكة.
ومن غير شك أن سعة اطلاع الجهيمان، وكثرة أسفاره، وبخاصة زياراته في الخمسينيات لباريس، وعدد آخر من المدن الأوروبية أسهمت في توسيع مداركه، وفتحت وعيه على أشكال أخرى من أنظمة الحكم، وأيضا على الهوة الحضارية التي تفصل بين مجتمعاتنا العربية، والمجتمعات الأوروبية، وكانت من أسباب دعواته الواسعة للاصلاح، والتماهي مع التحولات الثقافية الكونية التي تجري من حوله.
سيبقى فكر الجهيمان نبراسا حيا لهذا الجيل للأجيال القادمة، ومحرضا لعطاءات كثيرة، رحمك الله أبا سهيل، وتغمد روحك بواسع رحمته، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.