الجدار العازل وجه آخر لبشاعة الإحتلال
بناء على توصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدأ يوم الاثنين من هذا الأسبوع في لاهاي، وبحضور خمسة عشر قاضيا، وعدد كبير من المراقبين بضمنهم أعضاء من الكونجرس الأمريكي، اجتماع محكمة العدل الدولية للنظر في قضية الجدار العازل الذي تواصل حكومة الليكود بزعامة أرييل شارون بناءه، ليفصل بين الكيان الصهيوني ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تزامن انعقاد اجتماعات المحكمة مع قيام كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح بعملية استشهادية، بتفجير حافلة بمدينة القدس، نفذها محمد خليل الزعل، نتج عنها مصرع 8 أشخاص وإصابة 62 جريح.
وكان افتتاح اجتماعات المحكمة للنظر في هذه القضية مناسبة تحدث فيها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وأكد التزامه بكل الاتفاقيات والتفاهمات التي توصل إليها مع الكيان الصهيوني، وبخاصة تلك التي وقعها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، وطالب المجتمع الدولي والقوى المحبة للسلام بمساندته والحيلولة دون استكمال بناء هذا الجدار.
اللافت للنظر، أنه رغم خطورة بناء هذا الجدار، والنتائج المروعة التي سيؤدي لها بناؤه، فإن ردود الفعل العربية الرسمية والشعبية، قياسا للموقف العالمي، لم تتناسب أبدا مع ما يتوقعه الشعب الفلسطيني من أشقائه العرب من دعم وتأييد ومناصرة. فعلى سبيل المثال، كانت المشاركة الرسمية العربية في اجتماعات محكمة العدل، أقل من ضئيلة ومتواضعة. وعلى الصعيد الشعبي، لم تشهد المدن والشوارع العربية استنكارا واسعا للمشروع، شبيها لذلك الذي شهدته معظم الأقطار في الأيام الأولى لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية إثر استشهاد الطفل محمد الدرة، رغم أن مشروع الفصل هذا قد اعتبر، من وجهة نظر قطاع واسع من الفلسطينيين، معادلا في قسوته وفظاعته ونتائجه لنكبة عام 1948م.
ومع التسليم بأن معظم الأنظمة العربية، تتعرض لضغوط كبيرة من قبل الإدارة الأمريكية لتنأى بنفسها عن مناصرة قضية الشعب الفلسطيني، وتخشى من أن تلصق بها تهمة دعم الإرهاب التي أصبحت سيفا مسلطا بحق كل من يعارض السياسات الأمريكية في المنطقة، فإن من غير المفهوم أن يصل التخاذل العربي إلى الحضيض تجاه مسألة حيوية لا فقط بمنطق الحق والعدل، ولكنها أيضا ذات صلة مباشرة بالأمن والوجود العربي، وفي قضية تجمع الأسرة الدولية، وبضمنها جهات عرفت بمناصرتها للكيان الصهيوني على بطلان إقامة الجدار العازل، وتعارضه مع مبادئ الشرعية الدولية. والأكثر خذلانا وإحباطا هو الموقف الشعبي العربي العاجز، تجاه عنجهية القوة وممارسات الغطرسة الصهيونية.
لقد وقف العالم بأسره موقفا مناصرا للشعب الألماني، حين حطم جدار برلين، في مطلع التسعينيات، وهو جدار فصل بين شرقي البلاد وغربها، ولكنه لم يحول ألمانيا إلى كانتونات وجيتوهات كما هو الحال مع جدار الفصل الصهيوني، في حين لم نحرك نحن العرب ساكنا، ونحن نرى بأم أعيننا، المدن الفلسطينية تقطع إلى أوصال ويجرى عزلها عن بعضها البعض، خلافا للأعراف الدولية وشرعة حقوق الإنسان ومبادئ الحرية وحق تقرير المصير، وخلافا للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالشأن الفلسطيني.
إن التعلل الإسرائيلي بأن إقامة الجدار العازل هو لحماية أمن الكيان الصهيوني، هو منطق تنقصه الحجة، إضافة إلى أنه تنكر للإتفاقيات والمعاهدات التي توصل لها الجانبان، الفلسطيني والصهيوني، ابتداء من اتفاقيات أوسلو واتفاقيات شرم الشيخ وواي ريفير وصولا إلى خارطة الطريق، وهي اتفاقيات، قبلت وتمسكت بها السلطة الفلسطينية، على أمل رفع المعاناة والقهر عن الشعب الفلسطيني، رغم أنها لم تلب الحدود الدنيا من أهدافه وطموحاته في التحرر والعودة وإقامة الدولة المستقلة. لكن إدارة الليكود اليمينية الحالية هي التي مارست المماطلة والتسويف والتنكر لما توصلت له الإدارات السابقة، بوساطات أمريكية, وقامت بالتوسع في بناء المستوطنات الصهيونية واقتطاع أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية، وفرضت حصارا مرا وقاسيا على المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، بما في ذلك محاصرة مقر الرئيس الفلسطيني ذاته، في مدينة أريحا، ووسعت عمليات الملاحقة والإغتيال لعدد كبير من القيادات والكوادر الفلسطينية وهدم البيوت ومصادرة الأراضي واقتطاع أجزءا كبيرة من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة لصالح بناء الجدار العازل. وقيام العمليات الفدائية، على هذا الأساس، بما فيها العمليات الإستشهادية هي رد فعل عادل ومشروع على حملات القمع والإبادة التي يمارسها الصهاينة، وهي النتيجة الطبيعية لاستمرار الإحتلال وحرمان الشعب من الحرية والإستقلال لعقود طويلة.
ليس من المنطقي أبدا، أن يطالب الفلسطينيون بوقف مقاومتهم وانتفاضتهم الباسلة مادام الاحتلال جاثما على صدورهم. فغياب الأمن والاستقرار هو ناتج واقع الاحتلال، والمقاومة للاحتلال هي حق طبيعي ضمنته مبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وهيئات مكافحة الاستعمار والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقيام هذا الجدار، بكل تأكيد، لن يكون في مصلحة أحد ولن يخدم سوى دعاة الحرب أصحاب النوازع التوسعية، ومن يقف خلفهم ويشجعهم على العبث بمقدرات وحقوق الفلسطينيين والأمة العربية، وهو بلا شك وجه آخر لبشاعة الإحتلال.
وبالنسبة للفلسطينيين، فإن قيام هذا الجدار، سيشكل مأساة إنسانية كبيرة، حيث سيقطع أوصال الأرض والمجتمع جميعا، ويتسبب في مشاكل كبيرة لا حصر لها في البنية الفلسطينية، ويحول دون قيام دولة مستقلة، ويصادر إمكانية قيام سلطة فلسطينية حقيقية فاعلة ومقتدرة، تستطيع قيادة شعبها وتأخذ بيده نحو التنمية والبناء.
ليس أمام العالم، إذا ما رغب حقيقة في أن يسود السلام والإستقرار والأمن بأرض السلام والمنطقة عموما سوى الوقوف بقوة ضد الكيان الصهيوني، ومنعه من استكمال بناء هذا الجدار، والتسليم بحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والإستقلال والعودة.
وليس أمام العرب جميعا، حكومات وشعوبأ، إذا بقيت لديهم بقية من كرامة سوى أن ينتصروا لإخوتهم الفلسطينيين، فيقفوا ضد جدار الفصل العنصري، ويقدموا لهم مختلف أشكال الدعم والتأييد، حتى تتحرر فلسطين، وينال الشعب حقوقه، ويرتفع العلم الفلسطيني فوق سماء القدس، ويسود السلام في أرض السلام.
ــــــــــــــــــــ
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-02-25