الثورات العربية وتجديد مشروع النهضة
ليس للتاريخ أن يعاود خطاه بذات التراتيبية، بمعنى أن أي مرحلة جديدة من مراحل التاريخ تستدعي قراءة جديدة، والمعرفة في نهاية المطاف، هي تحقق اكتساب الخبرة . بمعنى، أن تفكيرنا يتجدد ويتطور وفقاً للتراكم في الخبرة والتجربة،
ووفقاً للتغيرات التي تجري من حولنا .
ذلك يطرح بحدة على المفكرين العرب، في هذا المنعطف التاريخي الذي تشتعل فيه الثورات في عدد من الأقطار العربية، عودة لمشروع النهضة العربي، بهدف إنجاز مهمتين: استثمار المشروع كدليل مساعد لقراءة الواقع المستجد، ولتكون هذه القراءة من جهة أخرى، محطة أخرى على صعيد إعادة تقويم أدائه، وإعادة تجديده .
لقد مر مشروع التجدد الحضاري بمراحل عدة، مثلت كل مرحلة من مراحل تطوره الفكري، انتقالاً رئيساً في الواقع العربي . وذلك أمر بديهي، فما كان حديثاً في حينه، يغدو قديماً في مرحلة لاحقة . والقانون دائماً هو الحركة والتعاقب . ومن المنظور الفلسفي هناك دائماً، وفقاً لجدل هيغل، الفكرة، ونقيضها، والطريحة التي هي حاصل التراكم والتطور والتحول في الأحداث التاريخية، والوعي بمفاعيل الفكرة ونقيضها .
تجديد المشروع النهضوي، على هذا الأساس، ينبغي أن يكون حاصل تفاعل ذاتي وموضوعي، وحاصل تلاقح مع فكر إنساني عالمي . إن هذا التفاعل والتلاقح، هو الذي فتح وعي العرب على مشكلاتهم . فقد كشفت الثورات الإنسانية، العلمية والتكنولوجية والاجتماعية، وبخاصة انتصار الثورة الفرنسية، وقيام الحملات الكولونيالية البريطانية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية . . . ضد الوطن العربي، البون الشاسع بين واقع الأمة العربية، والتطور الهائل، في مختلف العلوم والثقافات بالمجتمعات الإنسانية الأخرى . وكانت حملة نابليون ضد مصر مفتاحاً رئيساً في هذا الكشف .
جاء عصر التنوير الأول الذي عبرت عنه عطاءات الكواكبي والطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده واليازجي والبستاني وكثير غيرهم، ليكون رداً على انقطاع طويل عن الحضارة، استمر لقرون عدة، بدأ مع حملات التتار، وتواصل مع سلطان الاستبداد العثماني، وجاء عصر التنوير ليكسر حلقة الجمود، منطلقاً من وعي بقوانين التاريخ، شجعته المشاهدة الحية للتطورات الكبرى التي شهدتها المجتمعات الأوروبية .
إن الوعي بهذه البديهيات هو الذي يحرض العرب على أن يكتسبوا في هذه المرحلة وسيلة لإطلاق ديناميات التقدم والتجدد، في عمرانهم الاجتماعي والثقافي، على النحو الذي يؤهلهم للالتحاق بغيرهم من الأمم، على نحو يحفظ لهم خصوصيتهم الثقافية والقيمية . فشرط التقدم هو التحرر من البنى الثقافية والاجتماعية التي تنوء بكلكلها على الوطن العربي، وتمنعه من التقدم، ولا بد في هذه المرحلة، من تخطي الجمود الفكري والتكلس العقلي وسيطرة الثقافة النصية، والأفكار التي تدعو إلى الانكفاء للأصول وتقديس التراث، وهيمنة الخرافة والنزعات التواكلية، ورفض الآخر، والانكفاء، والتشرنق على الهوية، وهيمنة القيم القبلية والعشائرية، والطائفية والمذهبية، على حساب القيم الوطنية، واحتقار العمل، باعتبارها معوقات لتحقيق تجدد المشروع النهضوي .
على أن ذلك ينبغي ألا يكون تسليماً بالأشكال البائسة للحداثة، فاصطدام العرب بالمشروع الكولونيالي، وما أحدثه ذلك الاصطدام من بروز مظاهر مشوهة وابتزاز وعنصرية، ينبغي أن يكون دائماً حاضراً في الذهن والممارسة . لا ينبغي أن تكون الحداثة تقليداً ثقافياً رثاً للغرب، وتقديساً للوافد واحتقاراً للموروث، وتبشيراً غير مشروط بثقافة الآخر، وجلداً للذات والهوية .
إن المطلوب في المشروع النهضوي الجديد، هو الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، وتحقيق التوازن بين التجديد والتأصيل، فليس من المقبول السقوط في نظرة عدمية إلى التراث وإلى الغرب معاً .
والواقع أن الحديث عن الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، لم يبدأ اليوم . لقد كان حالة تاريخية مستمرة . فما هو حداثي بالأمس، يغدو قديماً اليوم، وتلك سنن الكون . والفكر المحافظ ديدنه رفض التجديد والتمسك المستمر بالماضي . إنه ينطلق من مقولة أن ليس بالإمكان أبدع مما كان، في حين يتطلع فكر التنوير إلى المستقبل، والأزمة بينهما أزلية . وذلك يعني استمرار الحديث عن الموازنة بين الماضوية والمعاصرة . لكن لكل مرحلة قراءتها الخاصة وتفسيرها الخاص، ولذلك يبدو منطقياً أن يتواصل اضطلاع المفكرين والمثقفين والكتاب العرب بمهام التفكيك والتحليل، وإيجاد استراتيجية عملية وواقعية للخروج من واقع التخلف الراهن، واستيعاب حقائق العصر الكوني الذي نعيش فيه .
إن قراءة الواقع الجديد، والتهيؤ لما بعد انطلاق الثورات العربية، ينبغي أن تأخذ في الاعتبار، نقطتين جوهريتين، هما أثر تخلف الهياكل والبنى الاجتماعية في منع حدوث التجدد النهضوي . وما ألحقه ضعف الهياكل الاجتماعية من غياب للمؤسسات الضرورية اللازمة للانتقال بالواقع الاجتماعي إلى حالة أرقى في مجتمع يعبر إلى ما دعاه ماكس فيبر بالعقلانية القانونية التي تحتكم فيها البنى الفوقية والبنى التحتية إلى العلاقات التعاقدية .
ينبغي أن يعمل مشروع النهضة، من جديد على معالجة فكرة الوحدة العربية، من منظور مختلف، يأخذ بعين الاعتبار التطورات التي شهدتها البلدان العربية هذه الأيام، والعلاقة بين القومي والقطري، والمضمون الاجتماعي للوحدة، وقضايا الشورى والديمقراطية، والتنمية المستقلة، ومفهوم التنمية الشاملة، وغاياتها ووسائلها . هناك أيضاً موضوع العدل الاجتماعي، ومنظوماته، والملكية الفردية ووسائل الإنتاج وعلاقتها بمنظومة العدل الاجتماعي .
في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص بعد احتلال العراق، أعيد بعث الاستعمار التقليدي للمنطقة، بقيادة أمريكية، تحت شعار “الشرق الأوسط الجديد” بأشكاله المتلفعة بأقنعة إنسانية، في بعض الحالات كما هو الحال مع أحداث ليبيا الأخيرة . إن ذلك يفرض من جديد على المشروع النهضوي تسليط الضوء على قضايا الاستقلال الوطني والقومي، وأهمية تحرير الأرض العربية . كما ينبغي التركيز على استقلالية القرار العربي، وعدم تبعيته للخارج، وتصفية القواعد العسكرية الأجنبية ومواجهة المشروع الصهيوني، ومقاومة كافة أشكال الهيمنة الأجنبية، وبناء القدرة الاستراتيجية الذاتية، وصولاً إلى تحقيق استراتيجية الدفاع والردع .
إن الربط الجدلي بين مختلف عناصر مشروع النهضة يبدو أمراً ملحاً، ومن دونه فإن ما يتبقى لن يكون سوى نصوص سياسية متناثرة، لا يربطها جامع، وستكون بالتأكيد مضطرة إلى الشرح والتوصيف، بدلا من التفكيك والتحليل والاستنتاج وإعادة التركيب .
سيكون علينا في الحديث المقبل، قراءة ملامح هذه المرحلة، والانتقال بالقراءة من العام إلى الخاص، علنا نتمكن من الإسهام مع محاولات غيرنا من المفكرين والكتاب والمثقفين، في وضع مشروع النهضة العربية في سياقات جديدة، تتفق مع ملامح التحولات التاريخية الكبرى التي يشهدها واقعنا العربي، وتكون قادرة على الإسهام والدفع بمسيرة التقدم والنماء في أمتنا، في هذا المنعطف الحاسم .