الثقافة العربية والتحولات الكونية

0 198

قبل خمسة وتسعون عاما، نشر ول ديورانت كتابه قصة الفلسفة، وفيه تحدث عن النتائج السلبية، التي أحدثها التطور العلمي اتجاه الفلسفة والفنون، فأشار إلى أن الفلسفة التي سبق لها ذات مرة أن استنفرت كل العلوم لمساعدتها في إبداع لوحة متلاحمة الرقعة للعالم، وصورة للخير مغرية، وجدت مهمتها في التنسيق أشد هولا مما تطيقه شجاعتها، ففرت هاربة من جميع جبهات معركة الحقيقة هذه، واندست مخبئة نفسها في أزقة سرية مكنونة، آمنة، أمن جبان رعديد من قضايا الحياة ومسؤولياتها.. ذلك أن المعرفة البشرية أمست جدا عظيمة وحثيثة لا يمكن للذهن البشري اللحاق بها.

 

صدر هذا الكتاب أول مرة، عام 1924م، ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم تحولات هائلة، في كل المجالات. تحققت ثورات علمية هائلة، في النصف الأول من القرن العشرين، بلغت مستوى غير مسبوق في التاريخ الإنساني، بما دفع المفكر الفرنسي روجيه غارودي للقول في كتابه البديل، إلى أن الانجاز العلمي للبشرية، تضاعف في النصف الأول من القرن العشرين.

 

والواقع أنه رغم أهمية ما أنجز في النصف الأول من القرن العشرين، فإن الفرق شاسع وكبير، بين ما أنجز، وما تحقق في النصف الثاني منه. وذلك شيء طبيعي إذا سلمنا بقانون التراكم.

 

لقد حدثت تغيرات جوهرية ومكثفة، في طريقة الحياة اليومية لعموم الناس. وتبدلت تقاليد وثقافات، واستعيض عنها، بأشكال جديدة من السلوك، وطرق العيش بما يتماهى مع الثورات العلمية الهائلة في كل المجالات.

 

ففي النصف الأخير من القرن العشرين حدثت تطورات مدهشة وسريعة في عالم الحواسب الآلية، بحيث يمكن القول دون مبالغة، أنه في كل أسبوع استقبل العالم إضافة نوعية جديدة في مجال البرامج والأجهزة الالكترونية، مما ضاعف من كفاءة أجهزة الكمبيوتر بأكثر من مليون ضعف عما كان عليه أول حاسب آلي صنع عام 1946م.

 

لقد استقبل العالم، ولا يزال يستقبل أجيالا جديدة من هذه الصناعة تتصف بدرجة عالية من الذكاء، بإمكانها أجراء أكثر من ملياري عملية مختلفة في الثانية الواحدة، وهو أمر كان يستغرق ألف عام لإجرائه في السابق. ولم تعد هذه الأجيال، تزداد سرعة وكفاءة فقط، بل وتزداد تخصصا وصغرا ورخصا وانتشارا. وهي قادر على التحليل والتركيب والإستنتاج المنطقي وحل المسائل وبرهنة النظريات وفهم النصوص وتأليف المقالات.

 

وكان المجال الآخر من مجالات هذه الثورة الجديدة هو التطور المثير في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والابتكارات في أشباه المواصلات والألياف الصوتية القادرة على معالجة المعلومات وتخزينها واسترجاعها بمعدلات وسرعة تتضاعف بشكل أسي. فقد تمت الآن رقمنة كل لمعلومات بجميع أشكالها الصوتية والتصويرية وأصبحت متصلة بشبكة عالمية واسعة وسريعة متيحة المجال لجميع الأفراد وجميع الشرائح وبجميع اللغات الاطلاع على ما لم يكن بالإمكان الاطلاع عليه في أي زمان، بما في ذلك ما هو موجود في المكتبات والجامعات ومراكز البحوث العلمية.. كل ذلك بات بالإمكان الحصول عليه بسرعة الضوء، وصار متوفرا بالشركات والمراكز التجارية ومجالات التعليم والتدريب وفي المنازل.

 

كما أتاحت تكنولوجيا المعلومات للأفراد والدول والمجتمعات فرص الارتباط بعدد لا يحصى من كابلات ضوئية وفاكسات، ومحطات إذاعة وقنوات تلفزيونية أرضية وفضائية تبث برامجها المختلفة عبر مئات المراكب الفضائية، إضافة إلى أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني وشبكات الإنترنيت، وقد جعلت تلك الوسائل عالمنا بأكمله، قرية واحدة، وبتكاليف أقل ووضوح أكثر، وعلى مدار الساعة، ودون قدرة الدول على التدخل أو الرقابة الفاعلة.

 

وكانت الثورة العلمية الأخرى قد أخذت مكانها بالعقد الأخير من القرن العشرين، وأحدثت تطورات مذهلة في مجالات الهندسة الوراثية. وستؤدي تلك التطورات إلى تغيرات حياتية وأخلاقية غير مسبوقة أبدا في التاريخ. لقد تمكن العلماء خلال عقد التسعينيات من تفكيك الجينات الوراثية للكائنات الحية، وبالتالي الدخول إلى عالم الخلق الصناعي والمختبري لجميع الكائنات النباتية والحيوانية، بما في ذلك الإنسان.

 

لقد عبر العلماء نقطة اللاعودة في مجال نسخ الكائنات خلال العقد الماضي، وذلك بعد النجاح المذهل الذي حققه استنساخ النعجة دوللي، والذي اعتبر أهم اكتشاف علمي سجل عام 1997م، وربما خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي. ولم يعد الأمر يتوقف عند ذلك، أو عند استنساخ عدد أكبر من الحيوانات فحسب، فكل التقارير تشير إلى أن الإمكانيات أصبحت معدة لنسخ الإنسان في المستقبل القريب، بعد أن تم الانتهاء من انجاز الخارطة الخاصة به، وبعد أن أنجز بنجاح تحديد الخارطة الوراثية والجينات البشرية بأكملها. ولا شك أن ذلك يضع البشرية أمام احتمالات غير معقولة وغير مألوفة، من ضمنها إمكانية القضاء الكلي والنهائي على جميع الأمراض المزمنة كالإيدز والسرطان واحتمالات تعزيز القدرات الجسدية والعقلية للإنسان، وتحسين السلالات البشرية، والتحكم في سلوكيات الإنسان.. لكنها في ذات الوقت تحمل مخاطر وخيمة وتهديدا مباشرا لمنظومة القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية والمواريث التي يؤمن بها الإنسان.

 

ولا جدال في أن هذه الثورة العلمية قد فتحت آفاقا معرفية لا نهائية لفهم أدق تفاصيل الكون والحياة والمادة، وفهم مكوناتها وتفاصيلها الدقيقة، بما في ذلك نشأة الكون وبروز الحياة على الكرة الأرضية.

 

هدف هذه الورقة هو مناقشة تأثير هذه التحولات الكبرى على منظومة الثقافات، في العالم، وبشكل خاص في المجتمع العربي. وستهتم الورقة، بتقديم رؤية نظرية، على ما يمكن أن تحدثه التحولات العلمية، من تغيرات في البيئة الاجتماعية، وتأثير على الهويات والثقافات والمواريث. كما ستناقش، بشكل مختصر، ما حدث من تأثيرات على أرض الواقع، في البنية الثقافية والسلوك اليومي العربيين، والإجابة عن إمكانية الإسهام في اجتراح نموذج، عربي ثقافي جديد، يستجيب بشكل إيجابي لهذه التحولات، وفي الوقت نفسه، يعمل على الحفاظ على الهوية العربية.

 

في مفهوم الهوية:

 

إذا انطلقنا من أن الهوية، هي الخصائص التاريخية واللغوية والنفسية، التي تؤدي إلى الفصل، بشكل حاسم بين جماعة من الناس وأخرى، فإن الذي لا شك فيه، أن تلك الخصائص، هي نتاج تقاليد ومواريث، تراكمت عبر حقب تاريخية ممتدة، وهي أيضا نتاج تفاعل الأمة، مع وضع عالمي فوار.

 

فالهوية إذا، لا تتكون نتيجة الرغبة، في العيش والبناء المشترك، ولكن نتيجة للعيش في ظل وضع أنشأه التاريخ، ولوجود عوامل موضوعية عديدة، سابقة فرضت نفسها على الرغبة في العيش المشترك، ، وشكلت خصوصية اجتماعية لمجموعة من البشر، كونت وطورت ثقافات وتقاليد وعادات، وأنشات لغة خاصة بها، لتفصل بشكل حاسم بينها وبين الأمم والشعوب الأخرى.

 

لا يمكن بأية حال من الأحوال مناقشة تشكل الهوية، وحركتها وانبنائها من خلال مقاربة ساكنة، أو تصور متجانس، يلغي جملة التناقضات التي تفتعل داخل المجتمع. إننا بحاجة للحذر، وإعادة القراءة والتحليل والتأويل، لأن كل ما هو اجتماعي قابل للسجال والجدل. والفاعل الاجتماعي، في سعيه لوعي الذات، تواجهه بالضرورة، مسألة “الغيرية”، في صراعه مع متطلبات عملية تشكل الهوية.

 

لقد كان من أهم النتائج التي أحدثها التطور العلمي، منذ النصف الثاني للقرن العشرين، وفي رسم بياني تصاعدي، هو التحالف بين التقانة والثقافة. لقد أدت هذا التطورات إلى اختراق الحدود الثقافية. ولأن الغرب مثل المركز للثورات العلمية، في القرون الثلاثة المنصرمة، باتت هناك مركزية أوروبية، وبات التلاقح الإنساني الثقافي غير متوازن، ولصالح المركز. فكانت النتيجة رواج الثقافة ذات الطابع الغربي، وتراجع إمكانية التثاقف بين مختلف الثقافات المعاصرة.

 

بمعنى آخر، إنها ألغت المركزية الثقافية، التفاعل الثقافي الإنساني، وفرضت ثقافة متحيزة للمركزية الأوربية. ومن خلال هذا التحيز جرى تذويب العناصر التي تصنع الثقافات المحلية، بالمجتمعات الإنسانية. وفي هذا السياق، لا يمكن فصل مشاريع العولمة، عن محاولة تذويب الهويات الوطنية لصالح المركزية الغربية.

 

ويتعرض برتراند بادي، لتأثيرات العولمة، عن أثننة العالم، حيث تتعرض ثوابت الهويات في كل مكان للزعزعة والتفكيك، التي تذوب في الفرد كثير من الخصوصيات. لكن هذه الهجمة، بقدر ما أحدثت من اهتزازات في ثبات الهويات، فإنها ولدت خطابا آخر، يؤكد الخصوصية الثقافية، ويعيد بعث الهويات ما قبل التاريخية. وكانت من أهم أسباب التذرر في البلدان العربية، التي طالها في ما بات معروفا بالربيع العربي بالسنوات الأخيرة.

 

ثورات علمية وتضعضع هويات:

 

في كتابه المنهج والأفكار، مقامها حياتها عاداتها وتنظيمها، يشير الفيلسوف الفرنسي ادجار ميلان، إلى ضرورة التمييز بن عالم الثقافة الإنسانوية، وبين عالم الثقافة العلمية. ويتحدث عن حالة انفصام، بين الأمرين. هذا الانفصام خلق معارضة، بين مجال الروح والقلب، وبين عالم العقل والتقنية، بحيث أصبحت المعارضة بين الأمرين تخلق نزاعا، كان في بدايته منتجا وخلاقا، لكنه فيما بعد بات مأزوما، بحيث خلق صدوعا في الوعي الجمعي.

 

إن هذا الانفصام، مؤداه أن المنظومات الفكرية، تكون مغلقة ومفتوحة، في آن معا. مغلقة بمعنى أنها تحمي نفسها، ومفتوحة، بمعنى أنها تغذي التأكيدات لصالحها. وهي على نوعين، منظومات يتصدر فيها الانفتاح قبل الانغلاق، وهو ما ينطبق على النظريات، ونوع آخر، يتصدر فيه الانغلاق، وتغلب عليه الأيديولوجيات.

 

هذا الانفصام، يكون أكثر، في المجتمعات التي لم تدخل بقوة في الثورات العلمية، والتي هي في الواقع مستهلكة لها. إن القوي علميا، يسهم بفعالية، في تذويب العناصر التي تصنع الثقافات المحلية، بالمجتمعات الإنسانية، بما يحقق غلبة المركز على الأطراف.

 

وهكذا رأينا كيف تلعب تكنولوجيا الإخضاع، وصناعة العقول، وهندسة الإدراك، أدورا هامة، ليس فقط في كسر الممانعة الثقافية للبلدان النامية، بل ومن خلال ذلك تتمكن من تحقيق الغلبة الحضارية.

 

ولا يتردد الغرب، عن استخدام تكنولوجيا الاتصالات المتطورة ومواقع الخدمة الاجتماعية، لبعث الهويات ما قبل التاريخية، متى ما وجد أن ذلك يخدم استراتيجياته في تحقيق الهيمنة، وتأمين مصالحه السياسية والاقتصادية، وحتى العسكرية.

 

وليس من شك أن الميديا الجديدة، قادرة بما تملكه من نفوذ وإمكانات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها، في قالب مشوق، عبر تكنولوجيا الإثارة والتشويق والمتعة، على تحقيق اختراقات في ثقافات شعوب العالم الثالث. ومع تغول أدوار هذه الميديا، تراجعت أدوار مراكز البحوث والجامعات، ودور النشر والصحف، ومختلف أشكال الأنشطة الثقافية الأخرى.

 

ولا تتردد الدول الكبرى، من استغلال التكنولوجيا المتقدمة، المتمثلة في شبكات الحاسب الالكتروني، ونظم البث عبر الأقمار الصناعية، كي تتخطى برسائلها الحواجز الوطنية، للدول الأخرى، وتعمل على نشرها على نطاق عالمي، مما يؤكد فعالياتها كإحدى آليات الهيمنة الثقافية,

ويشير هربرت شيلر، إلى إن تدفق المعلومات يتم في اتجاه واحد، من الدول الغنية للدول الفقيرة، مما يفضح مدى الظلم، والتشويه، الذي تتعرض له قضايا العالم النامي. إن القوة المؤثرة في الوعي، تعد عاملا حاسما في تحديد نظرة الجماعة، وطبيعة أهدافها، والمسار الذي تسلكه,

 

ورغم الإقرار بأن التطور، في عالم الاتصالات والميديا، قد أدى إلى تغير أحوال الناس، بشكل نتج عنه في كثير من الأحيان تحسن أوضاعهم المعيشية، لكنه من جهة أخرى، أدى إلى تذويب العناصر الإيجابية، التي خلقت مشاعر ود وعواطف، ووحدة ونخوة وتحاب بين الناس، وخلق بديلا عن ذلك وحدانية، وعزلة بين البشر، كما خلق هوسا حادا نحو الاستهلاك، فقد تصاعدت في الأعوام الأخيرة، نسب التسوق عبر الانترنيت بأرقام هائلة جدا، مما أدى إلى زيادة مضطردة في النزعات الاستهلاكية.

 

لا ينبغي أن تقتصر قراءتنا، للآثار السلبية، للمنتجات الالكترونية، والتطور في الاتصالات، على تضعضع الهويات وغسل الأدمغة، واعتبارها من أهم وسائل الإخضاع الثقافية. فهناك ما هو أخطر من ذلك بكثير.

في هذا الاتجاه، توضح سوزان غرنيفيد في كتابها تغير العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماته على أدمغتنا أن التطورات العلمية، في المجال الالكتروني، خلقت عالما لم يكن له مثيلا في تاريخ البشرية. إن هذا العالم الجديد ثنائي الأبعاد، مؤلف من البصر والصوت فقط، يقدم معلومات فورية، وهوية متصلة, إن من شأن ثنائية الأبعاد هذه، التحريض على النزعة الاستهلاكية، وتعزيز النزعات الفردية، دون إشباع حقيقي. إنه نقيض نظيره الثلاثي الأبعاد، الذي يغذي حواس الرائحة، والمذاق، واللمس. إن العالم الثنائي الأبعاد، يجعل الفرد مفعما بالقلق المزعج أو الابتهاج المظفر خلال الاندفاع في دوامة شبكات التواصل الاجتماعي، كما هو بالنسبة للوعي.

 

لقد خلق التطور الهائل في عالم الالكترونيات، والهواتف المحمولة، هوسا غير مسبوق. فعلى سبيل المثال، أشارت دراسة خاصة، أن البريطانيين الذين يفحصون هاتفهم الذكي، بعد استيقاظهم مباشرة. وفي كل الحالات، فإنهم جميعا يفحصون هواتفهم الذكية، قبل مرور خمسة عشر دقيقة من استيقاظهم.

 

أثر التطور العلمي على مجتمعاتها العربية:

أذا أخذنا بلدان الخليج العربي، كأمثلة حية، على مدى التغيرات التي حدثت في العادات والتقاليد والسلوك، يمكن القول، بقليل من التحفظ، أن هذه التحولات، بدأت، تأخذ مكانها بشكل تدريجي متجه باضطراد إلى الأعلى، منذ باتت هذه المنطقة، من أكبر البلدان المصدرة للنفط في العالم. لقد تبدل كثير من عاداتنا الجميلة. لكن ماكنة التاريخ تسير إلى الأمام، ولا تملك رفاهية النظر إلى الخلف.

إن وعي ما جرى  في السابق بمنطقتنا، وما يجري الآن، ليس هدفه التسليم بما كان وما هو كائن، ولكن من أجل صياغة موقف وحلول جديدة للمشاكل التي تعترضنا الآن، وإعادة الحياة، بشكل متجانس مع طبيعة هذه المرحلة، لروح التضامن والتعاضد بين أفراد المجتمع.

ولعل قراءة الواقع الاجتماعي الذي كان سائدا من قبل وتفكيك مكوناته، يساعدنا على الفهم. إن هناك ضرورات تاريخية تحكم حركة الناس وتشكل عاداتهم وتقاليدهم وسلوكهم وأنماط عيشهم. وقد كانت تلك الضرورات تقتضي بروز نماذج التضامن التي سادت من قبل.

 

لقد كان من المستحيل في السابق، أمام انعدام القدرات والإمكانيات المتاحة الآن أن يوفر كل فرد أسباب معاشه، دون أن يكون عضوا فاعلا في الخلية الاجتماعية التي ينتمي إليها. لم تكن هناك مكننة للزراعة ولا عمالة وافدة، ولا مراكز للدفاع المدني، ولم تكن لدى الناس السيولة النقدية لتوفير حاجاتهم المادية وأسباب معاشهم منفردين. فكان لا بد وأن يتم تنظيم حركة المجتمع على أساس جماعي، بحكم الضرورة، ومن أجل استمرارية الحياة، بشكل أقل عناء ومرارة وكلفة. وكان غياب وسائل الترفيه، ووسائل الاتصال الحديثة يجعل الناس يلجئون إلى بعضهم طمعا في معرفة ما يجري من حولهم. لم يكن هناك مذياع أو هاتف أو تلفاز.. ولا وسائل نقل حديثة… وقائمة المتغيرات والمستجدات، في حقبتنا طويلة وعصية على الحصر.

جاءت طفرة النفط، وتزامنت مع وفرة في السيولة النقدية، في أرض بكر تتهيأ لتأسيس بنيتها التحتية، فانغمسنا في الحراك الجديد، نلهث وراء ما يمكن تحقيقه من الثراء والجاه. شيدنا منازل جديدة، وأشكال حياتية مغايرة، ورفعنا أسوارا عالية على الأرض وفي النفس. وحدثت تغيرات كبيرة وواسعة في أنماط حياتنا، وبالتالي في طريقة تعاملنا وأنماط سلوكنا. وجاءت وسائل الترفيه لتقضي على البقية الباقية من اهتماماتنا بالمجتمع والناس.. فلدينا في البيت ما يغني ويزيد. لدينا الجو المنزلي المريح، ووسائل التكييف التي تجعل حياتنا أكثر رغدا، ولدينا الهاتف والمذياع والتلفاز، والحاسب الآلي، والإنترنيت أيضا. وبإمكاننا أداء الكثير من مشاغلنا واحتياجاتنا من داخل المنزل.

 

أنماط العلاقات الاجتماعية شكل كبير، فنحن لم نعد شركاء في حقل أو عمل، بل عمالا أو موظفين، نرتبط بعلاقة زمالة، لا علاقة مصلحة، والفرق كبير بين العلاقتين، فالمحرك للأولى هو وشائج إنسانية محضة، لا تمثل قيدا أو إلزاما، مهما كان نبل مقاصدها، بينما هي في الثانية ضرورة حياتية ملحة، ترقي إلى الكينونة والوجود، بشكل أقل توتر وعناء.

وكلما أصبحت وسائل الترفيه أكثر توفرا كلما ارتفعت العوازل والفواصل وترسخت الأسوار، وتراجعت قيم التعاضد والتضامن والتكاتف.

 

وإذا كانت هذه التغيرات الدراماتيكية، قد حدثت في العقود الخمسة الأخيرة، قبل ثورة الاتصالات، وانتشار الهواتف المحمولة، ومواقع التواصل الاجتماعي، فإن ما حدث بعدها من تغير في ثقافاتنا وسلوكنا هو أكثر بكثير.

 

 

لفقد أدت تطورات العقدين الأخيرين، بانتشار ظاهرة الانترنت، إلى تراجع دور الكتاب وقراؤه، وغابت حلقات الفكر. سادت الضحالة، بسبب تراجع منسوب القراءة، في المجتمع العربي، حيث بتنا، حسب التقييم العالمي من أقل شعوب العالم إقبالا على الكتاب.

 

وليس من شك في أن شعبا لا يقرأ لن يكون بمقدوره المساهمة في صنع الحضارة، والتماهي مع العصر الذي يعيش فيه. وحضر بيت الشعر العربي المأثور، نعيب زماننا والعيب فينا. فنقد الواقع الثقافي الراهن، لن يكون دقيقا، ومحرضا على الخروج من النفق ما لم يبحث عن الأسباب. فالنتائج باتت مقررة. وما نتطلع له هو صياغة مستقبل ثقافي أفضل.

 

وليس من شك في أن تطور العلمي غير المسبوق، في مجال الإعلام والفنون، شكل عبئا على الثقافة العربية. فالثورات التي حدثت في مجالات الإعلام والثقافة والاتصالات، كشفت عن مجالات هائلة، وخيارات كثيفة أمام الناس.

 

لقد كان المجتمع، في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، يعيش عالما مختلفا تماما، عما هو عليه الآن. فالوسائل محدودة، إلا أن العطاء في مجالات الفنون والثقافة كان أعمق وأكثف بكثير.

 

وربما تفسر محدودية الوسائل، محدودية الخيارات. فإذا استثنيا، التلفاز، الذي بالكاد يستقبل محطة واحدة، وفي ساعات محدودة تنتهي قبل منتصف الليل، فإن ما يتبقى هو المذياع. وكان في حينه، يشكل العقول. وبالمثل كانت الصحافة محرضا على الثقافة والوعي,

 

لم تكن لدينا وسائل ترفيه، تغني عن الكتاب والصحيفة والمذياع. وكانت حقبة نجوم بامتياز. نجوم في السياسة، والفكر والأدب. ونجوم في الفن. وطبيعي أن يفتتن الشباب بتلك النجوم، فيكونوا مثلا أعلى لهم. وكان ذلك في حقيقته، نوع من تشكيل الحقول، فرضته طبيعية الأشياء.

 

حتى سلوكنا الاجتماعي، تغير، لم يعد طرح المواضيع الثقافية والفكرية من أولوياتنا. وفي ذات الوقت هناك طرق قوي ومباشر على العقول، بما يحقق غسلها، وأضعاف مقاوماتها ونزع هوياتها. محطات كوميدية رخيصة، وبرامج سياسية واجتماعية ضحلة. والسينما تحولت إلى استنساخ باهت ومشوه، لأفلام غربية، وفي أحسن الأحوال، أفلام عربية قديمة من الزمن الجميل.

 

تفسير هذا الواقع، يوضح أن ما كان لدينا سابقا، رغم محدوديته، كان يفعل فعلا عميقا في تشكيل الشخصية العربية، بشكل إيجابي، أما الخيارات المفتوحة، فإنها خلقت حالة من الانفلات، والافتتان، بالألوان الصارخة والزاهية، من غير جوهر أو معنى.

 

هذه الأوضاع، ترتب مسؤوليات جسيمة على صناع القرار العربي. ليس بالإمكان إعادة عقارب الساعة، فما تحقق هو منجز إنساني كبير، ينبغي استثماره بالطريق الصحيح.

 

نحو دور أكبر للمثقف العربي:

أسهمت ثورة الاتصالات، في تحرير الفرد، من قيود حجمه وزمانه ومكانه وجنسه. وبالقدر الذي يتم فيه تسارع اختزال الزمان والمكان بالقدر التي تهتز فيه منظومة التقاليد والقيم والثوابت وأنظمة المعارف في جميع أمم الأرض، إلا في تلك التي تقوم بالدور الريادي في صناعة المستقبل، ونشر وتعميم قوانينها وضوابطها الجديدة.

ومن البديهي أن يكون لهذه المستجدات تأثير مباشر على الدور الذي ينبغي أن يضطلع به المثقف العربي في كيفية التعامل مع هذه المتغيرات. وفي هذا الصدد، لا بد من الاعتراف، بأننا لا زلنا نعيش في سلوكياتنا وممارساتنا حالة انفصام شديدة وخطيرة بين ماضينا وحاضرنا. فنحن من جهة نتصرف وكأن ما يجري من حولنا في هذا العالم لا يعنينا أبدا، بل وكأنه يأخذ مكانه في كوكب آخر … كوكب بعيد عنا آلاف السنين. إن زماننا، حين نضعه في ميزان سلوكنا وردود أفعالنا، منفصل تماماً عن الزمن الكوني الذي نعيش فيه، بكل ما يحمله هذا التعبير من مضامين ثقافية وحضارية. إنه زمن غابر يرفض التعامل مع الحاضر ويعيش غربة تاريخية سحيقة، رافضا، فيما يتعلق بالفكر،ً كل ما هو جذري وحديث تحت يافطة الدفاع عن التقاليد والأصالة والثوابت، مكرساً بذلك هيمنة سلطة الإكراه والاستبداد واستمرارية نسق المتخلف.

 

بعضنا الآخر، حداثي جداً للدرجة الكاريكاتورية، يعيش حالة افتتان مطلق بالحاضر، ويشطح في الأفق البعيد، بينما لا يزال قابعاً في أسر تقاليده البالية، محاولاً القفز فوق الحقائق الموضوعية والجغرافية، متجاهلاً أن الجديد في الثورات التكنولوجية والمعلوماتية والعلمية قد تحقق بفعل قانون التراكم، وأن حالة التحول لم تكن معزولة عن حراك وصراع طويل مع الكون والعلوم والطبيعة، وأن غياب قوانين التحول من وعينا، تجعلنا نقتحم الزمن الجديد بشكل مسطح، ومن دون الأدوات والمستلزمات الضرورية لذلك، وبالتالي دون قدرة على التفاعل والحركة. ويتناسى دعاة الحداثة الكاريكاتورية أن من شأن ذلك أن يجعل منا امعات وتابعين، لا عناصر مبدعة. وبالتالي تكون النتيجة غربة جديدة من نوع آخر… نوع ربما يكون أقسى وأمر مما نحن فيه الآن.

 

لا بد إذن من ضبط إيقاع حركة الولوج في الزمن الكوني الجديد، باتجاهين متوازيين. الأول، تحقيق التراكم الثقافي والعلمي والمعلوماتي المطلوب. والثاني، التماهي الواعي مع الحراك الإيجابي الدائر من حولنا في هذا الكون كي نكون بالفعل ترساً فاعلاً في عملية التطور الإنساني التي تحث السير من حولنا بسرعة تفوق سرعة الصوت.

 

إن ذلك يتطلب منا، تحديد الأهداف والاستراتيجيات والأدوات التي ينبغي الأخذ بها، لكي نكون جديرين بالاعتبار في هذه المحطة من تاريخ البشرية. وهنا ينبغي التركيز على أهمية الحوار والتفاعل مع مختلف التيارات الإنسانية، بكل أطيافها وتوجهاتها. لا بد من التثاقف مع الحضارات الأخرى، ولن يتحقق ذلك إلا بالمسارعة لملء الفراغ العربي المعلوماتي… وهو فراغ يبدو كبيراً وخطيراً. إن ذلك يسهم في خلق التواصل، وتجسير المسافة المرعبة الفاصلة بين زمننا الحقيقي الذي نعيش فيه وبين الزمن الكوني الاعتباري لهذا العصر.

 

هذا يعني أن تكون لأجهزة الاتصال المتوفرة لدينا، أدوار أخرى غير تلك التي تضطلع بها الآن. إن أدوارها يجب أن لا تكون المشاركة في ترسيخ الماضوية البليدة وإعادة استنساخها في أدوات وتقنيات جديدة، ولكن بتجاوزها والخروج عليها، وصناعة بديل عنها متجانس مع متطلبات ومستلزمات وضرورات عصرنا الحاضر. إننا في الحقيقة بحاجة إلى توحيد زمننا العربي وجعله زمناً واحداً، محرراً من رتابة ماضيه ومعلوماته وأن يكون متصلاً في قدرته وفعله بهذا الزمن الكوني.

 

التماهي مع الثورة المعلوماتية والتجانس مع الخطاب الكوني المعاصر لا يكون فقط بامتلاك مؤسسات الإعلام من فضائيات وصحف ومجلات ومواقع الكترونية وعنكبوتية، ولكن بجعل تلك المؤسسات في خدمة مشروع النهضة الجديد. إن هناك خطراً جدياً ماحقاً يتمثل في سيادة الصوت الواحد في تلك المؤسسات وتغييب مختلف الدعوات والنداءات الأخرى التي لا تتجانس مع الأوضاع القديمة السائدة. وهذا الصوت الواحد، إن كتب له أن يستمر، فسوف يكون تجسيداً عملياً لسيادة خطاب قديم ومستعاد، مناوئ للخطاب الثقافي التنويري المعاصر المتسم بالتسامح والإيمان بالعلم وحرية الفكر.

إن خطاب المستقبل يجب أن يكون مفتوحاً ومنفتحاً على كل الأصوات والألوان، وأن يرفض بحزم دعاوى الخصوصية الثقافية والدينية، تلك الدعاوى التي استخدمت، على مر التاريخ العربي، ولحقب طويلة جداً، كذريعة لقمع الحريات ومصادرة الرأي الآخر. إن الخطاب الجديد المطلوب من المثقف العربي في هذه المرحلة هو خطاب يتجاوز بوعيه السياسي حدود الجغرافيا والوحدانية التاريخية، وتدابير الأنظمة ولوائحها البيروقراطية.

 

وينبغي في هذا السياق، أننا نميز بين نوعين من الاندماج بهذا العصر الكوني، بين اندماج إيجابي يرفع في وجه الثقافة العربية تحدي الانخراط في الحداثة والمعاصرة والإبداع، والمساهمة في مجالات الثقافة والفنون، وإصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية باتجاه تحقيق مزيد من الاحترام لحقوق الإنسان، وبين اندماج سلبي يرفع في وجه الثقافة العربية تحدي الرضوخ للتبعية والتهميش وإلغاء الذات والتنازل عن الحقوق والهوية أمام قوى الهيمنة العالمية الجديدة.

 

الثقافة العربية، التي ننشدها، مدعوة للدخول بالاختراق والتفاعل والاستجابة إلى الزمن الكوني، لأن المبادئ المعلنة في هذا الزمن تستجيب لحاجاتنا التاريخية. فنحن من دون مواربة، من أكثر الشعوب مصلحة في تحقيق التواصل والاندماج مع هذا الزمن الكوني، لأن ذلك سيكون عاملاً مساعداً في التعجيل بقطع المسافات الطويلة التي ينبغي علينا تجاوزها الآن. إنها جدلية الضرورة التاريخية التي فرضت علينا من قبل الالتزام بمفاهيم العدل والتكافؤ، هي ذاتها الجدلية التاريخية ذاتها، تفرض علينا الآن التنازل عن المظاهر الشوفينية، إلى الدخول في رحاب أوسع… رحاب عالمي إنساني، دون أن يعني ذلك تنازلاً أو ارتماء أعمى في أعتاب النظام العالمي الجديد، أو تحت أقدام جياده، التي تفننت في هزيمتنا وسحق ارادتنا.

إ

ن ما نأمله باختصار، هو التسليم بأهمية وجود نظام عربي تحديثي عصري المنازع والتوجهات، قادر على مواجهة الهيمنة الغربية المتقدمة في العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية . وهو نظام ينبغي أن يجعلنا داخل النظام الكوني الجديد، بعيداً عن حواجز الخوف والشك والارتياب والشعور بالدونية إزاء تفوق الآخر ونهجه العدواني.

 

ولسوف يكون من شأن هذا التحول، في ثقافة النظرة إلى التاريخ والآخر والذات، أن يضيف الكثير من عناصر القوة لنا، ولن يتحقق ذلك إلا بإضافة صراع آخر إيجابي مع الذات من أجل الإصلاح والتنمية والحداثة، تستطيع من خلاله الأمة العربية النهوض من كبوتها من جديد، مستندة في ذلك إلى عمق حضاري وثقافي أصيل متعدد ومتنوع، يتيح لنا أن نستعيد دورنا الحضاري المفقود، وأن نساهم بفعالية في ركب التطور الإنساني الأمام.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 × ثلاثة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي