التفتيت و”الفوضى الخلاقة” بديلا عن الاحتلال المباشر

0 147

كان تعبير الفوضى الخلاقة قد بدأ استخدامه لأول مرة من قبل المحافظين الأمريكيين الجدد، على لسان وزير الدفاع الأمريكي، رونالد رامسفيلد إثر قيام مجموعة من الرعاع في العراق بعمليات سطو ونهب وتخريب في المتحف العراقي والجامعات والمدارس والمستشفيات، ومؤسسات الدولة إثر سقوط بغداد في 9 أبريل عام 2003م. فقد أعلن رامسفيلد آنذاك، في معرض رده على حملات الاحتجاج التي وجهت ضد إدارة الاحتلال في العراق، بسبب وقوفها ساكتة، وغضها الطرف عن عمليات النهب والسلب والحرق والتخريب أن العراقيين ليسوا معتادين على الحرية. وأن هذه هي أول فرصة لهم للتعبير عما يختلج في نفوسهم، وأن هذه العمليات، والحال هذه إيجابية وخلاقة وواعدة بعراق جديد.

 

تراجع الحديث بعد ذلك عن مصطلح الفوضى الخلاقة، أمام ترتيب المسرح العراقي، كبوابة أولى لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، كمقدمة للمضي حثيثا في تحقيق مخططات الهيمنة الأمريكية على العالم بأسره. لكن التطورات اللاحقة في ميدان المواجهة العراقية، قد أكدت بما لا شك فيه أن هناك فرقا كبيرا بين صياغة السيناريوهات، في غرف العمليات المغلقة، ومراكز الدراسات وبين تطبيقها على الواقع. وهو فرق يعبر عنه أحيانا بالفرق بين الحلم والواقع وبين النظرية والممارسة. وكان هذا هو ما حصل بالدقة. فقد استبشر الأمريكيون بالطريقة التي سقطت فيها بغداد، وعللوا النفس بربيع طويل، أعلن فيه الرئيس بوش عن انتهاء العمليات العسكرية في العراق. ولكن ذلك ما لبث أن تكشف، بعد أيام قليلة، عن أنه صيف قائظ أحال الأرض تحت أقدام الغزاة إلى جحيم. وتمردت مدن ومحافظات، وخرجت عن سيطرة المحتل.

 

ومن جديد أعيد تشغيل غرف العمليات العسكرية، وعقدت المؤتمرات الصحفية للحديث عن تمرد لفلول النظام السابق، ولأعمال إرهابية يقوم بها غرباء قادمون من الخارج. وتكشف مع الأيام أن الذين يقاومون الاحتلال هم في غالبيتهم من العراقيين. وتصاعدت العمليات العسكرية، وتضاربت المواقف، وتتالت الاستجوابات والتصريحات، بالشكل الذي تناولناه في أحاديث سابقة، وتغيرت الاستراتيجيات. ولم يعد بالإمكان استكمال الاستراتيجية الكبرى لمعهد راند بالطرق العسكرية والاحتلال المباشر. وهنا استحضر الغزاة أسلوبين للتعامل مع المرحلة القادمة، يمكن تلخيصهما بالتفتيت ونشر “الفوضى الخلاقة.”

 

كان التفتيت، وشعار فرق تسد، هو ما تكشفت عنه عبقرية الإدارة الاستعمارية البريطانية، أثناء إحكام قبضتها على شعوب مصر والسودان والعراق وفلسطين والهند ومنطقة الخليج العربي، واليمن وبقية الدول التي منحت فيما بعد عضوية الكومنويلث البريطاني. وفي سبيل إنجاح المشروع الاستعماري البريطاني، لم يتردد المحتلون عن إشعال الحروب الداخلية، وتفتيت مستعمراتهم إلى كيانات مهجرين تفتقر في مصادرها البشرية والاقتصادية إلى مقومات الدولة، وتؤسس استنادا على تركات إثنية ودينية وطائفية وقبلية.

 

إن إدارة الاحتلال الأمريكي تعيد اكتشاف هذا النهج وتطبقه في العراق. فبعد أن أسس مجلس الحكم الانتقالي على أسس محاصصات إثنية وطائفية ودينية، وبعد أن خلقت مشاكل حادة بين العرب والأكراد، وبخاصة في مدينتي الموصل وكركوك، انتهت إلى تهجير آلاف من العرب من مدينة كركوك إلى مناطق ومدن أخرى، وإقامة الفيدرالية التي جعلت من كردستان منطقة تكاد تكون مستقلة بالكامل، حيث لها حكومتها الخاصة، وبرلمانها الخاص، وأحزابها الخاصة، ورئيسها الخاص، وعلمها الخاص، بل وجيش خاص لها عماده قوات البشمركة، فإن محاولات تجري الآن لتفتيت البقية الباقية من الوحدة العراقية. لقد جرى الحديث مؤخرا عن احتمالات قيام حكومة فيدرالية بالجنوب، تتمتع بذات المواصفات والقياسات التي أقيمت بها الفيدرالية الكردية في الشمال. وإذا ما تم تحقيق ذلك فإن معناه تقسيم العراق إلى ثلاثة أوصال، وفقا للخريطة التي صيغت في بداية التسعينيات، والتي فرض على أساسها مناطق الحظر الجوي للطائرات العراقية، من قبل الأمريكيين، في الشمال والجنوب.

 

وهناك ما يشير إلى احتمال تقسيم منطقة الوسط أيضا، بل وتقسيم مدينة بغداد ذاتها إلى عدة أقسام، حسب تقدير كثافة التواجد السكاني، لهذه الطائفة الدينية أو تلك. وربما تجري عملية تهجير للسكان لتتوافق مع التركيبة الجديدة. وهذا سيعيد إلى الأذهان السلوك البريطاني في الهند، حين جرت عملية تهجير المسلمين إلى المناطق التي أصبحت لاحقا معروفة بباكستان، وبالمثل جرى تهجير الهندوس من تلك المناطق إلى داخل الهند.

 

وأمام عجز القوى التي تردف الاحتلال عن القيام بأي عمل معاكس، بل وتجانس أطروحات بعضها مع مخططات الاحتلال، فإن القوة الوحيدة القادرة على التصدي لمشاريع التفتيت ومواجهتها بالقوة هي المقاومة العراقية. وفي هذا الاتجاه، فإن الإدارة الأمريكية، وهي تعترف بعجزها عن قهر هذه المقاومة، فإنها تلجأ إلى محاولة احتوائها من خلال التلويح لها باستعدادها للتفاوض، وتكليف بعض الرموز التي تردف الاحتلال لاستخدام معرفتها السابقة ببعض رموز المقاومة، أو المحسوبين عليها للاتصال بهم وإغرائهم بالتفاوض مع الأمريكيين والدخول في العملية السياسية العراقية. كما تلجأ أيضا لبعض العناصر المعروفة باتجاهاتها الوطنية المعادية للاحتلال لإغرائها أو تهديدها، بمختلف الوسائل، من أجل الدخول في العملية السياسية، بالمواصفات الأمريكية، أو بتعديلات طفيفة لا تمس جوهر مشروع الهيمنة الأمريكي على المنطقة، ولا تعطل حركته. وهذا هو ما يفسر التوجهات الأمريكية الجديدة التي تناولناها بالتفكيك والتحليل في أحاديث سابقة.

 

إلى جانب ذلك، فإن المحافظين الأمريكيين حريصون على استكمال استراتيجية الهيمنة على بقية شعوب المنطقة والمضي قدما نحو تطبيق مشروع الشرق الأوسط الكبير. لكن تورطهم في المستنقع العراقي قد فرض إجراء تغييرات أساسية لا تمس جوهر الاستراتيجية، ولكنها تجعلها أكثر اقترابا وموضوعية وأقل كلفة. ومن هنا أعيد بعث مصطلح الفوضى البناءة، أو الفوضى الخلاقة. وقد جرى تكرار هذا المصطلح على لسان عدد من المسؤولين الأمريكيين، كان آخرهم، وزيرة الخارجية، كونداليزا رايس. ويعني استخدام المصطلح، أن الإدارة الأمريكية تعترف بفشلها في استخدام التدخل العسكري المباشر، وأنها لذلك تسعى إلى تفجير الجبهات الداخلية، ولا تتردد في خلق حروب أهلية تسهل عليها إضعاف مقاومات الشعب واختراقه من الداخل.

 

ومن هنا فإننا نلحظ تصاعدا لعمليات العنف في سوريا ولبنان ومصر من جهة. وكثير من عمليات التفجير لا تزال طلاسم مستعصية على الحل والتفسير. فهي ليست موجهة ضد رموز من لون سياسي واحد. وأحيانا تكون تفجيرات دون هدف واضح، ولا يوجد لها أي مبرر سوى زراعة الخراب والدمار. وتتبارى الإدارة الأمريكية تارة لتأييد تلك الحوادث، إذا ما وجدت أن ذلك في مصلحتها، وأحيانا توجه إدانات قاسية لها وتعتبرها جزءا من الحرب العالمية التي تشنها قوى الإرهاب. إن الذي يحدد الموقف الأمريكي إذن من تلك العمليات ليس هو طبيعتها الإرهابية، بل مستوى التماهي أو التعارض مع سياساتها في الهيمنة. فهي مع العمليات التي تحدث في سوريا، ولكنها ضدها في مكان آخر، وهكذا..

 

وبموازاة ذلك، تقوم الإدارة الأمريكية بالتبشير بقيم “الديمقراطية” الغربية. وفي سبيل ذلك، لا تتورع من التدخل في سياسات بلدان هي حتى الأمس القريب تعتبر في عداد أقرب حلفائها. بل وتعلن عن رصد أموال لتدريب حركات المعارضة السياسية فيها على مناهج وممارسات الديمقراطية، وهو أمر خطير، يعتبر خرقا للسيادة الوطنية وتدخلا فاضحا في شؤون بلدان المنطقة. لكن ذلك لا يمنع الإدارة الأمريكية، من استغلال شعاراتها البراقة في الحرية والديمقراطية من أجل تحقيق مقايضات، على حساب الكرامة والاستقلال والسيادة مع الأنظمة السياسية العربية. وهو أمر لم يعد بحاجة إلى استشهادات وقرائن.

 

إن هناك مرحلة جديدة قد بدأت في السياسة الأمريكية تجاه منطقتنا، تهدف إلى بلقنة المنطقة وتفتيتها، تمهيدا لفرض الهيمنة الكاملة عليها، دون عناء، ودون آلة عسكرية وخسائر بشرية من القتلى والجرحى، ودون موقف عدائي عالمي… وأيضا دون كلفة. وهي فوضى إن تحققت لا قدر الله، سوف تقضي على الأخضر واليابس، وليس أمام الجميع، حكاما ومحكومين، سوى التمسك بثوابت الدفاع عن الوطن وكرامته واستقلاله، من خلال إشاعة روح التسامح والحرية ونبذ الكراهية، والالتزام ببرنامج وطني يقف سدا منيعا، في مواجهة محاولات الاختراق والهيمنة، وتلك في اعتقادنا أمور غير مؤجلة ولا تحتمل التأخير، فعسى أن تأخذ مكانها قبل أن يجرفنا الطوفان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 × اثنان =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي